ه
بت مقتنعا بأن الأعلام العربي كله ذباب والفرق بينهم هو ذباب من. فالصحافة هي إما أجيرة عند الحكام او عند المافيات التي تدعمها أو التي تعارضها. والفرق بين الإعلام العربي والإعلام الغربي كمي وليس كيفيا. فالإعلام الغربي هو أيضا خاضع لنفس القانون.
كل ما في الأمر هو القدرة على التظاهر بالحياد وتنكير الحقيقة بدعوى المزيد من التحقق والبحث.
وليت المشكل توقف عند هذا الحد. فقد صار جل المفكرين والمحللين من نجوم الفضائيات مثل فقهاء السلطان ولكن بنكهة علمانية أو حداثية. فأغلب السلاطين يدعون العلمانية والليبرالية والحرب على “الظلامية” مدعين “العقلانية” التي لا تختلف من حيث الصبغة الأيديولوجية عن “الظلمية” لا الظلامية لنيل رضا سيد الجميع وحاميهم ضد شعوبهم.
ولو وقف الأمر عند الانحياز الواعي لهان. لكن أغلب الانحيازات عند الكثير من الصحافيين والمحللين لا واعية لأنها مبينة على الأحكام المسبقة والدغمائية أو على ما سماه أرسطو بموقف الأطفال في استعمال الكلي دون تعيين. والمثال هو قيس جيش الجزائر الحالي على جيشها في العشرية السوداء وقيس ما يجري في السودان على انقلاب السيسي دون تمييز بين أدعياء تمثيل الثورة في السودان ورئيس منتخب ديموقراطيا في مصر.
والعلة هي أن “العسكر” مفهوم عام من جنس استعمال الأطفال للكلي كمفهوم عام دون تعيين. لذلك فالطفل يلمس الجمرة لأنها حمراء مثل الحلوى فيظن كل احمر حلوى. الأدعياء الذين يريدون استلام الحكم لمدة أربعة سنوات يتكلمون باسم الدولة المدنية لكنهم يرفضون شرعية الانتخابات لعلمهم بعدم حظهم فيها. ثم تسمع كل المحللين يقيسون ما يجري في السودان على ما جرى في مصر:
- جيش انقلب على رئيس منتخب وضد الأغلبية باسم نفس الأقلية التي تدعي الوصاية على الشعب كانت تتصور أن الجيش سيطيح بالإخوان ويعطيهم الحكم.
- وجيش حمى الثورة منذ أكثر من شهر ودعا إلى الانتخابات بعد نصف سنة فرفضها من يتكلم باسم الدولة المدنية الاستئصالية لخصومه ويريد الحكم أربع سنوات دون انتخابات.
وطبعا في مثل هذه الحالات فإن كل المحيطين بالسودان وجدوا فرصة للتدخل لأن المناكفات وعدم الحسم السريع في مثل هذه الوضعيات-وهو ما أخشاه على الجزائر-يؤدي بالضرورة إلى الاختراقات فيصبح أكثر المزايدين على المثاليات غالبا ما يكون مندسا وهو الأكثر عداوة للحل الممكن والذي يمكن أن يكون بداية نجاح الثورة.
ولست أتكلم من فراغ. فقد عشنا نفس التجربة في تونس. فمن ورط الترويكا في وضع دستور لا يصلح لا للدنيا ولا للدين ومن كاد يورطها في الإقصاء ومن كاد يورطها في ما يشبه المحاكمات الثورية ومن حل الحزب الذي كان حاكم ومن فكك الداخلية ومن هم الآن مع السيسي ومع حفتر ومع بشار ومع الثورة المضادة وفي انتظار البيان رقم 1 وأعلنوا أنهم لا يرون مانعا من قتل 20 ألف تونسي لأخذ الحكم عنوة دون انتخابات لأن الشعب ليس أهلا لحكم نفسه بنفسه بسبب الجهل والأمية وهم أوصياء عليه هم تماما كمثل من نراهم الآن في السودان ومثلهم بدأ يطل برأسه في الجزائر.
ومثل هذا التوريط رايته في مصر فقد كان الإخوان بين فكي كماشة توريطية من العلمانيين والسلفيين. وبين أن التوريط كان جزءا من خطة الانقلابيين في الجيش المصري. فقد ناقشني الكثير من علمانيي مصر في مصر وفي تونس متهمين الإخوان بمهادنة العسكر لكأنه كان بوسعهم غير ذلك في بلد حكمه العسكر أكثر من نصف قرن وسيطر على كل مفاصل الدولة بل والمجتمع اقتصادا وثقافة. أما السلفيون فالكل يعلم شنائع أفعالهم.
ولأعلل موقفي بمنطق السياسة: لو استمرت الأزمة فإن السودان كدولة هشة فيه حروب أهلية على جميع أطراف قطره فيمكن أن يتفكك وهو مطلوب إسرائيل ومطلوب الثورة المضادة كما يعلمون في اليمن لأنهم يريدون التفتيت الذي سيظهرهم كبارا أمام صغار وهم أحقر من كل صغير لما فيهم من صغار.
لم أعد أطيق سماع الحماقات باسم القياسات الساذجة التي من جنس ما وصف أرسطو. ففي السودان ومصر أربعة أطراف وليس طرفان.
إذا قارنا الجيشين فلماذا لا نقارن الطرفين المقابلين للجيشين أي الشرعية الانتخابية في مصر والتنصل منها في السودان؟
أليس المنقلب في مصر هو الجيش والمنقلب في السودان هم هؤلاء الأدعياء الذين يريدون الحكم أربع سنوات وحدهم دون انتخابات وأقصاء جميع القوى السياسية الأخرى؟
ولم يقف الأمر على السودان بل هم بصدد “التخويف” الكاذب من أن يكون جيش الجزائر أيضا مثل جيش مصر وأن يكون القائد صالح سيسيا ثالثا. الرجل كاد يأتي على كل المافية في الجزائر ومن حوله قيادات شابة من الجيل الذي يمكن اعتباره الجيل الذي كان مضروبا على يديه.
كيف يقاسوا على السيسي العميل والخائن وجيش مصر المخترق حتى النخاع منذ كامب داود؟
فجيش الجزائر بعد تطهيره من حزب فرنسا مؤلف من أبناء المجاهدين النوفمبريين والإصلاحيين الذين أحيوا الهوية الجزائرية الإسلامية. وجيش مصر لسوء الحظ هم أو على الـأقل قياداته العليا أبناء كامب داود والاختراق الأمريكي الإسرائيلي. جيش الجزائر أول عمل قام به لحماية الثورة تصفية حزب فرنسا في الجيش والمخابرات وجيش مصر نصب عملاء إسرائيل على الجيش والمخابرات. هذا قياس أحمق لحمقى المتخوفين على الجزار من جيشها الحالي.
وفي الجزائر مثل السودان موقفي علته منطق السياسة. فالجزائر أيضا بلد هش لعلتين:
• الدولة حديثة وليست راسخة مثل تونس أو المغرب
• والثورة تكاد تكون رهن أسعار البترول.
وفي هذه الحالة فقوة التفرق العرقي والثقافي قد يستغلها الاستعمار لتفكيك الجزائر وهي قارة يصعب حمايتها وليست دويلة صغيرة.
فإذا طالت الأزمة دون حسم فإن أخطار التدخل تتزايد وشياطين الفرقة والنزاعات تنمو وإذا لم يتدارك نخب الجزائر الأمر فإن الفتن ستتوالد وتتكاثر وحينها سيتسع الخرق على الراتق ولن يفيد حتى العنف لعلاج ما تفكك. فبادروا قبل فوات الأوان وإلا فسيضطر الجيش لاستعمال القوة ضد منطق الغوغاء: وهو منطق كوني لا يحكمه العقل والحكمة بل المزايدات مثل جماعات تشجيع الكرة في الملاعب.
وكلمة أخيرة حول الإعلام فما نراه في إعلامنا خاصة وفي إعلام الغرب عامة وإن بدرجة أقل بسبب فنيات التنكر يؤيد راي نيتشة في الإعلام والإعلاميين. لا يمكن أن يعمر بينهم من ليس هو أقدر من غيره على الاسترزاق. قليلا ما يكون بينهم من يمكن أن يطلب الحقيقة ويحتفظ به مؤجره من الحكام وأرباب المال.
ولست غافلا عن كون الكثير سيتهمني بأني مع حماية كيان الدولة وضرورة احترام مؤسس الجيش الذي إذا أنصف قواعده وحد من سلطان قياداته وفسادها هو الدرع الواقي من اخطار التدخل الأجنبي. ولا انفي ذلك فلا شيء أكثر هشاشة من دول ما تزال تحبو لتصبح ذات كيان قادر على الصمود أمام الهزات الكبرى خاصة إذا كانت عديمة القيادات الراشدة وانحصرت في حركات جماهيرية يحكمها ديناميك الجماعات الأشبه بالطوفان.