وحدة الديني والفلسفي، تلك هي جوهر القرآن أو الرسالة الخاتمة

ه

منذ أن بدأت أعي معنى السؤال الفلسفي تحيرت مما كان يدور حولي في أروقة الجامعة من مواقف أنسبها ليس لعلة دينية بذاتها بل لعلة فلسفية هي الصورة التي علقت بأذهان بعض النخب التونسية التي تدعي الحداثة والتي كنت في صلة معهم. ولم أصبح على دراية بما يماثله عند النخب العربية الأخرى إلا لاحقا لما زرت بعض بلاد المشرق.
فالموقف من الحداثة نفسها وليس من الدين وحده هو ما بدا لي قد غاب تعليله في رؤاهم. واليوم عندما أقرأ لبعضهم أجد-وإن بصورة غير علنية شبه مراجعة عامة على الأقل بين بعض رموزهم-شيئا من المراجعة الذاتية ربما لأن شيئا ما بدأ يتجلى لدى بعض فلاسفة الغرب الذين شرعوا هم بدورهم في نفس المراجعة. فبدا لي موقف النخب العربية أشبه ببعض المستوقين من الموضة خلال زيارة أوروبا وما تأورب من العالم.
لكني مع ذلك أحيي عودة الوعي ليس بالدين بل بعلاقته بالحداثة وهي علاقة لم تنقطع أبدا إذ حتى ما بدا وكأنه انقطاع كان علاقة سلبية يسميها الكثير الموقف العلماني وخاصة اليعقوبي والموقف الإلحادي وخاصة الماركسي وكلاهما لا يخلو من لازمة النقد الديني. وهو حضور للدين في فكرهما وحتى وإن كان سلبيا.
والمعلوم أن هذا الموقف من التلازم بالسلب بين الفلسفي والديني مرحلة متأخرة من مراحل العلاقة بينهما. فالحداثة بدأت بعلاقة شديدة الإيجابية بين نوعي الفكر الديني والفلسفي حتى في نهايات العصر الوسط في المجالين الجامعين بينهما أي في النظر والعقد (العلوم عامة) وفي العمل والشرع (القيم عامة).
ولن أهتم كثيرا بكون هذه العودة عند البعض علتها التأثر السطحي بما بدأ يحدث في الغرب بوصفه موضة لا أرى فيها جديدا إلا بالقياس لمن توهم الحداثة هي سيطرة الإيديولوجيا الهيجلية والماركسية. فما يعنيني من الظاهرة ليس الوجه الديني منها لأن كون أصحابها متدينون أو غير متدينين ليس من شأني. فتلك حريات شخصية لا دخل لي فيها.
فما يعنيني هو الفهم الفلسفي العميق للحداثة نفسها ولطبيعة علاقة الديني بالفلسفي ليس من اليوم بل منذ نشأة ما يسمى فلسفة. فهذه النشاة فهمت على انها قطيعة مع الفكر ذي العبارة التي لم تفصل بعد بين الديني الطبيعي والفلسفي حتى في الفكر اليوناني قبل أفلاطون بصورة أقل (كما هو بين من وجود شيء من الميثولوجيا في فكر افلاطون) وقبل أرسطو بصورة أكثر (كما هو بين من مقالات ما بعد الطبيعة وإن لم تنزع منها الميثولوجيا بالكلية كما في نظرية العقول المحركة).
واعتقد أنه حتى عتاة الملحدين لا يمكن أن يتصفوا بهذه الصفة من دون أن تكون صفة نابعة عن موقف من علاقة الفلسفي بالديني والعلمي الطبيعي بالعلمي المتعالي عليه أو “ما وراء الطبيعي” ومن ثم بنوعين من المعرفة كلتاهما تمثل حدا مفهوما حدا للثانية وتتبادلان الاستحواذ على مجاليهما دون فاصل بين. والحد الذي يصل ويفصل مضاعف:

  1. فهو أولا الموقف من نظرية المعرفة.
  2. وهو ثانيا الموقف من نظرية القيمة.
    ومعنى ذلك أن الفلسفي الذي يقول بالمطابقة فيهما يعتبر الديني جزءا من مجاله من حيث ما فيه من معرفي وقيمي وما عداهما ينسبه إلى الخيال أو إلى “الحماسة والجنون” بلغة أفلاطون وحتى أرسطو أو إلى التربية السوفسطائية عند كليهما.
    ولما كان لهذه “الحماسة والجنون (عند الشعراء)” سلطان للسفسطائيين (الفارابي يقيس عليهم المتكلمين) على البشر العاديين الذين لا “يتفلسفون” فقد صار المعنى في الفلسفة العربية الوسيطة الشكل العامي من المعرفة العملية (الفارابي أو الملة غير الفلسفية) وهو بلغة حداثيي العرب الحاليين الشكل الأمثل لما يسمونه الإيديولوجيا أو ما يحرف الحقيقة التي يعتبرون قول ماركس قرآنها.
    ومعنى ذلك أن ما يقوله أفلاطون وأرسطو عند الفارابي وابن رشد -ذكرا لأول الفلاسفة ولآخرهم في عرف من يحصر الفلسفة في الأسماء المشهورة بها-لا يختلف عما يقوله هيجل وماركس عند أي حداثي عربي قبل هذه العودة للوعي بتأثير من آخر كتابات بعض فلاسفة فرنكفورت وكندا.
    وعندما حاولت فهم علة هذا التناظر بين أفلاطون وأرسطو وأثرهما في فكر فلاسفتنا في القرون الوسطى وهيجل وماركس وأثرهما في “فلاسفتنا” في العصر الحالي وجدت الأمر متعلقا بالذات باشتراك هؤلاء الأربعة في القول بالمطابقة في نظرية المعرفة وفي نظرية القيمة والقول بوحدة العالم. وهذا هو اللاوعي الفلسفي الذي يترتب عليه المقابلة بين الديني والفلسفي على الأقل في القرآن.
    وما يعنيني كذلك هو أن “فلاسفتنا” الحاليين غير مدركين لهذه العلاقة ولم يخطر ببالهم أن سعي فلاسفة مثل هابرماس أو فيلسوف كندا لمراجعة العلمانية والسعي لتحديد وضع الدين في الحضارة الحديثة ليس قضية تتعلق بموقف متعبدين أو غير متعبدين بل هو مراجعة للقول بالمطابقتين وبوحدة العوالم وأثرهما على الانغلاق الذي حصل في فكر الحداثة بعد أن تحول إلى إيديولوجيا الصراع بين الفلسفي المزعوم علميا والديني المزعوم إيديولوجيا.
    وبلغة ابن خلدون القارئ الجيد للفرق بين رؤى الفلسفة والكلام الوسيطين من جهة ورؤية القرآن فإن المشكل كله يدور حول القول برد الوجود إلى الإدراك المعرفي والقيمي ومن ثم حول القول بأن العالم الذي يعيش فيه الإنسان من حيث هو موضوع إدراكيه المعرفي والقيمي هو العالم الوحيد حتى وإن سلمنا بأنه العالم الطاغي على إدراكه.
    وأظن نفي المطابقتين المعرفية والقيمية أي والقول بأن ما ندركه من العالم معرفيا وقيميا ليس مطابقا لحقيقته في ذاتها وأن العوالم ليست مقصورة على ما نعتبره موضوعا لمداركنا حصرا فيها وهو مدلول المفهوم الحد الذي يمثله الإيمان بالغيب أو بالموجود الذي نعلم أنه موجود ونعلم أننا لا نعلمه على الأقل على محمل الإمكان: حداثة ديكارت وكنط.
    وهذا المفهوم الحد لا تسميه الفلسفة الحديثة غيبا. لكنها تصفه بكونه ما نفكر فيه دون أن نعلمه أي إننا على الأقل نعتبره الممكن الذي لا نستطيع نفي إمكانه ولا نستطيع علمه. وهذا المفهوم أول من قال به ديكارت كما بينت في احدى مقالاتي حول ما بعد الأخلاق عنده بديلا من ما بعد الطبيعة في المشائية وآخر من قال به هو كنط. وقد أنهاه كل الذين حاربوا الفصل الكنطي بين الفينومان والنومان وبين الشيء عند مدركه والشيء في ذاته.
    وهذا هو أهم مطالب المثالية الألمانية ما بعد الكنطية. فهي التي سعت منذ فشت إلى شلنج مرورا بهيجل وختما بماركس إلى العودة إلى القول بالمطابقتين المعرفية والقيمية ونفي المفهوم الحد بصورة تجعل الفلسفة تعود إلى بدايتها: فالإنسان عاد من جديد ليكون مقياس كل شيء موجوده ومعدومه وهو الأساس السفسطائي لفلسفة أرسطو في رأي ابن تيمية كما عرضه في نقد الأسس الميتافيزيقية للمنطق الأرسطي.
    وبهذا المعنى فحداثيونا حتى وهم يراجعون موقفهم من وضع الدين في الفلسفة من خلال علاقته بالعلمانية يفعلون ذلك على محمل الموضة وليس على محمل الفكر الفلسفي لأن هذه المراجعة ليست مصحوبة:
  3. بإعادة النظر في نظرية المطابقتين المعرفية والقيمية.
  4. ولا بإعادة النظر في وحدة العالم المقصور على المضاف إلى الإنسان.
    وبخلاف ما قد يظن من أني أتكلم على من كانوا علمانيين وشرعوا في المراجعة بل كلامي لا يستثني خاصة من يتصورون أنفسهم مدافعين عن الدين عامة والإسلام خاصة. ذلك أن كل من يتصور الدين فيه علم بالغيب ينبغي أن يعيد ألف مرة قراءة القرآن كما يعرف نفسه وليس كما صار من خرافات من يزعمون أن الدين فيه ما هو معلوم بالضرورة دون ما يعتور المعرفة الإنسانية من هشاشة ليس الدين بمعزل عنها.
    فالقرآن ينفي ذلك صراحة ليس على الإنسان عامة فحسب بل حتى على الأنبياء المصطفين. وكلامه على وجود الغيب ليس علما بمضمونه بل هو مجرد إعلام بوجوده وبضرورة الإيمان به دليلا على عدم الإحاطة الإنسانية معرفيا وقيميا. وهو إذن مفهوم حد من جنس “ما نفكر فيه ونؤمن بوجوده ونعلم أننا لا نعلمه”. وقد تتوقف الفلسفة على كون ذلك ممكنا وتستغني عن الإيمان به بخلاف الدين. لكنها تؤمن بأن الإحاطة مستحيلة. وكل ذي عقل ينبغي أن يسلم بذلك. وإلا فالقرآن ليس رسالة من الله إلى الإنسان عامة إذ لا معنى لرسالة لا يفهمها المرسل إليه وهو تقول له إن الغيب لا يمكن فهمه: فكيف تتضمن ما تعلمه بأنه لا يمكن فهمه.
    وإذا افترضنا أن الرسول يفهمه فقد كذبناه عندما يقول اللهم إني قد بلغت. ولذلك فلا أصدق ما يزعم أن ترجمان القرآن قد قاله فيه.
    وعندما يزعم مفكر ما بأن الأصل في كل العلوم والقيم هو الدين بمعنى الوحي فهو أجهل بالقرآن منه بالفلسفة. ولا يقول ذلك من يفهم معنى رسالة من مرسل ومن كونها تذكير بمنسي وليست تعليما لمجهول. فلا القيم -وخاصة الأخلاق-ولا المعرفة وخاصة العلم-يمكن أن يكون أصلها الدين بمعنى الوحي الذي فيه علم الغيب بل بمعنى ما يذكر به الوحي مما ما فطر عليه الإنسان ونسيه من قدرة على العلم والقيم.
    وما فطر عليه الإنسان لا يختلف سواء استند إليه فهم الرسالة الواردة في آيات القرآن أو الواردة في آيات الآفاق والأنفس (فصلت 53). ولذلك فالقرآن من حيث هو رسالة يخاطب الإنسان من حيث هو مرسل إليه ينبغي أن يفهم معنى: إنك إذا أردت أن تتبين أن القرآن حق فانظر في ما يريكه آيات الله من آياته في الآفاق وفي الأنفس.
    وما يتميز به الديني عن الفلسفي هو أنه سبقه في وضع المفهوم الحد الذي سماه الغيب بمعنى ما نعلم بوجوده ولا نعلم مضمونه أو بلغة ديكارت وكنط ما نفكر فيه ولا نعلمه. أو بصورة أوضح ما نعلم أن علمنا به غير محيط مثل علم ا لله به لأن الوجود بلغة ابن خلدون أوسع من الإدراك سواء كان الإدراك معرفيا أو قيميا.
    والحصيلة هي أن فلاسفة الغرب الذي يعيدون النظر في علاقة الديني بالفلسفي في النظر والعقد فلسفيا وفي علاقة الديني بالعلماني سياسيا في العمل والشرع فلسفيا يتفلسفون بحق بمعنى أنهم ينطلقون مما نبه إليه ديكارت وكنط بخلاف من ينطلقون من “الدين” من حيث هو تقاليد غير عائدة على نفسها لفهم ما يقوله القرآن عن ذاته أو ينطلقون من “الفلسفة” من حيث تقاليد غير متجاوزة لمحاكاة من صار فكرهم موضة. البون شاسع جدا جدا. وحتى عرضهم لهم هو أقرب إلى عرض تاريخ الأفكار منه إلى الفلسفة.
    فما لم يتخلصوا من القول بالمطابقتين -المعرفية والقيمية-ومن القول بوحدة العالم -الطبيعي والتاريخي كما تميل رؤية الإنسان الغارق فيهما-فإنهم ليسوا بعد مدركين لطبيعة المراجعة عند من بدأ يدرك أن المطابقتين ووحدة العالم من الأحكام المسبقة التي ترد الوجود والمنشود إلى الإدراك (ابن خلدون).
    فمن دون المسافة بين الوجود والمنشود من جهة وبين ما ندركه منهما بالفعل وما ندركه كإمكان مما يتعالى عليهما من عوالم قد لا تكون متناهية فإن أصحاب هذا الفكر ما يزال نظرهم لم يتحرر من التحديق في”سرتهم” وكأنها مركز العالم. فما الإنسان الخليفة إلا الوعي بتناهيه وفنائه المتلازم دائما مع الوعي باللاتناهي ما يعلو عليه وبقائه.
    تلك هي وحدة الديني الفلسفي في آن. وتلك هي ذروة الرسالة القرآنية التي لا تعلم الإنسان ما يجهل بل توقظ فيه عقله ووجدانه ما رسم في فطرته بوصفه خليفة له القدرة على النظر والعقد في المعرفة العلوم وعلى العمل والشرع في القيم بأصنافها الخمسة: حرية إرادته وصدق علمه وخير قدرته وجمال حياته وجلال وجوده.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي