وجوه شبه محيرة، تشاجن الباطنية والعلمانية وتوالجهما – الفصل الثاني

**** وجوه شبه محيرة تشاجن الباطنية والعلمانية وتوالجهما الفصل الثاني

شرعت منذ أسبوع في الكلام على وجه الشبه بين الباطنية والعلمانية، وعلاقة الأولى بالفتنة الأولى وما ترتب عليها وعلاقة الثانية بالفتنة الصغرى وما ترتب عليها، ولم أواصل بسبب العيد والظرف الحالي الأكثر أزوفا رغم ما لتاريخ هذه العلاقة من صلة وطيدة به، وخاصة باتحادهما الحالي على الأمة. وها أنا أعود لأحلل العلاقة البنيوية العميقة بين الموقفين من الإسلام وصلتها بما هما عليه من سطحية رؤيتهما للديني والفلسفي عامة، وللمعرفي والقيمي خاصة. فأما العلاقة البنيوية العميقة بينهما فقد بينت سابقا أنها تعود لما بين الثيوقراطيا والأنثروبوقراطيا من تأصل في الابيسيوقراطيا. وأما السطحية المعرفية والقيمية، فعلتها اعتبار الديني والفلسفي فعلتها مضاعفة: 1. هم يجهلون هذه البنية العميقة الواحدة بين الباطنية والعلمانية لما يبدو من تقابل في الظاهر: • من توظيف للدين بالإيجاب صريح عند الأولى كما نرى ذلك إلى اليوم عند الملالي، • وتوظيف سالب صريح له عند ادعياء الحداثة 2. والعلة الثانية: ما ورثته الباطنية من قول بالتطابق بين العلم والوجود، مدعين أن العقل يدرك الوجود على ما هو عليه، لكأن الإدراك الإنساني محيط به إحاطة تجعله رسالة موجهة إليه بوصفه مركز كل شيء، بل وأصل كل شيء وما ورثه الحداثيون العرب عن الهيجلية والماركسية اللتين عادتا إليها. فيشترك الموقفان الباطني والعلماني في الزعم بأن الفلسفة علم مطابق للوجود، والدين إيديولوجيا شعبية يمكن أن يوظف إيجابا عن الأول وسلبا عند الثاني. ومن ثم فهم يطلقون الفلسفة بوصفها علما مطابقا للوجود ويعتبرون الدين مجرد إيديولوجيا يستفيد منها الأول لحكم الشعب ويدعي الثاني تحريره منها. وهما في الحقيقة يحكمان الشعب به الأول بدعوى تطبيقه، والثاني بتوظيف دعوى تحريره منه. وكلاهما يدعي حيازة العلم المطلق بالعقل الذي يعلم حقيقة الأشياء في ذاتها ولا يعلم أن هذا الوهم هو الإيديولوجيا حقا وليس ما يضيفه الدين إلى العقل من تشكيك في دعواه حيازة العلم المحيط. وحتى يعلل الباطني هذا الموقف وحكم الشعوب باسم الدين دون العائق القرآني (آل عمران 7) وحرية الحكام في التعامل معه بتأويلاتهم الاعتباطية، يزعمون أنه غير كاف، وأن للوسطاء والأوصياء قدرة على علم أسمى يمكن من فهم الخطاب الديني ورده إلى الخطاب العقلي بالتأويل الذي حازه “الراسخون في العلم”. لكن العلماني مستغن عن ذلك لأنه متحرر من تقية الأول، ولأنه يحكم الشعب بدعوى تحريره من الخرافة الدينية لاعتماده المزعوم على العلم والفلسفة. ولما كان ذلك كذبة، فقد اضطر علنا في الماركسية وبصورة خفية في ضديدتها إلى نظام ملالي مافية علنية أو الحزب في الأولى وإلى نظام مافية خفية في الثانية. وعندما تجمع بين الموقفين كما يتبين من البنية العميقة للثيوقراطيا (الحكم باسم الله) والأنثروبوقراطيا (الحكم باسم الإنسان) أعني الأبيسيوقراطيا تجد نوعي العبودية عند الباطنية وعند العلمانية: فالعجل الذهبي هو عودة أصحابهما إلى العبودية لرمز سيدهم الفرعوني للباطني والاستعماري للعلماني.

بقي على أن أوضح ما أقصده بنظير الملالي بوعيه عند العلماني: • فالنظير العلني في النظام الشيوعي هو المافية التي تحكم باسم البروليتاريا المزعوم • والنظير الخفي في النظام الرأسمالي هو المافية التي تحكم باسم البرجوازية. • والفرق الوحيد بين المافيتين هو ذكاء الثانية وغباء الأولى وقد اتضح الأمر بعد سقوط السوفيات: فالمافيات التي كانت تحكم وما كانت تحكم به تبين أنها النمكلاتورا والمخابرات ورمزها بوتين. وعندما اتضح الأمر بعد تردي الديموقراطية الأمريكية وافتضحت آلياتها التي كان الإعلام يخفيها، تبين من خلال آليات وصول ترومب للحكم. وفيهما عاد دور ملاليهم. ما أظن أحدا لم ينتبه إلى دور الكنيسة الأرثودوكسية في روسيا الحالية، والكنيسة الانجيلية في أمريكا الحالية ولكن بالمعنى الذي يقول به الباطني والعلماني. ذلك أن بوتين وترومب كلاهما يعتبر الدين آخر همومه لكنه يحتاج إليه، لأن الثيوقراطيا والانثروبوقراطيا تتحدان في الأبيسيوقراطيا.

ما يعنيني اليوم ليس هذه البنية العميقة الواحدة بين الثيوقراطيا والأنثروبوقراطيا التي سبق أن درستها بإفاضة، بل العلة الثانية التي تجعل كلا النوعين من الحكم يعتمدان الدين إيجابا وسلبا أداة حكم به أو ضده، فيتحالفان ضد الإسلام رغم ما يبدو من تضاد بينهما وخاصة في راهن تاريخنا الحالي. وهو ما يعني أني أريد التركيز على البعدين الابستمولوجي والأكسيولوجي المشترك بين الباطنية والعلمانية، بمعنى رؤيتهما للمعرفة وللقيمة حصرا للأولى في المطابقة وللثانية في النفعية، ونفيا ضمنيا لما يتعالى على الإنسان في علمه وعمله ما يجعل ما يتوهمون حرية هو عين العبودية للأمر الواقع. فنرى حينها دور بعدي العجل مسيطرين على كل شيء: • فمعدن العجل يرمز لسيطرة المال • وخوار العجل يرمز لسيطرة الخداع أو الكذب الإيديولوجي وهو ديني عند الملالي ولاديني عند الحداثيين. فما يغلب عليه كلاهما هو الأعلام المزيف والملاهي دنيويا والعالم الافتراضي الذي يعتمد الإيهام اللامتناهي.

فعندما تسمع الملالي والمراجع تخطب حول معجزات آل البيت، وتنظر في أفلام العمل الخيالي التي تنتجها هوليوود لن تشعر بأي فرق من حيث آليات الإيهام رغم ما لدى أمريكا من علم يمكن لخياله أن يحقق شيئا، وما يفتقده الملالي من قدرة تتجاوز الإيهام الخرافي. لكن الوظيفة التلهوية واحدة. ومعنى ذلك أن كلتا الرؤيتين يعلم أصحابها أنها أداة حكم وتلهية عما يجري فعلا، أي عن معدن العجل وخواره فتكون الثقافة هي خواره ويكون الاقتصاد هو معدنه، وهما أداتا الحكم بتوسط تحريف دور أداة التبادل أو العملة التي تصبح أداة سلطان على المتبادلين وأداة التواصل أداة سلطة على المتواصلين. • وأداة التبادل تصبح أداة سلطان على المتبادلين يعني البعد الربوي من الاقتصاد أو سلطان البنوك والارتهان المادي. • وأداة التواصل تصبح أداة سلطان على المتواصلين يعني البعد التزييفي من الثقافة أو سلطان الإعلام والتلهية أو الارتهان الروحي: يصبح المواطن عبدا ماديا وروحيا في الحالتين.

المشكل بالنسبة إلينا كسنة حاليا أن هذين الوجهين لهما مستويان: فهما في الباطنية والعلمانية المتحالفين علينا يبدوان أصليين فيهما، بمعنى أنهما ليسا مفروضين عليهما، بل هما بهما يفعلان. لكن ما يحدث عندنا هو أنهما مفروضان على من نصبوهم علينا، فصرنا نخضع لمستويين عندهم وعند منصبيهم. فما يجري في الانظمة التي تسمي نفسها عربية والتابعة لإيران وروسيا، وما يجري في التي تسمي نفسها عربية والتابعة لإسرائيل وأمريكا، فيه هذان المستويان: • مستوى النخب الحاكمة وبطانتها من المثقفين أو مليشيات القلم والمنبر • ومستوى روسيا وذراعها الصفوية وامريكا وذراعها الصهيونية. فما تدفعه شعوب العراق وسوريا للصفوية وروسيا لا يقدر، وما تدفعه شعوب السعودية والإمارات للصهيونية وأمريكا لا يقدر، وما يعاني من هذا الإفقار النسقي للشعوب والاستتباع المادي والروحي هو الظاهرة التي تسيطر على الإقليم وهو حلف بينهم على السنة لئلا تستأنف دورها في الإقليم وفي العالم. والمستهدف هو سنة الإقليم التي هي عربية وتركية وكردية وأمازيغية. وهم يحاولون تحقيق فتن بين الأتراك والاكراد وبين العرب والأمازيغ مع كل التواليف الممكنة حتى ينفرط عقد القوة الغالبة من حيث التناسق الثقافي والحضاري والدور التاريخي في دولة الإسلام وقاطرته العالمية من البداية. لكن فشل العلمنة في تركيا بعد تسعين سنة من محاولة تغيير هوية الشعب التركي، وفشلها في تونس بعد ستين سنة من نفس المحاولة، يثبتان أن الإسلام استرد دوره ولم يبق راد فعل-ولا إسلام إلا السني، لأن التشيع باطنية كما يبين تاريخه وحلفه مع أعدائه دائما سواء كان أصحابه بوعي أو بغير وعي.

وبخلاف ما يتوهم الكثير، فإن الثورة أنهت اسطورة الممانعين المزعومين بسبب ارتهانهم بإيران التي صارت مرتهنة بإرادة روسيا وإسرائيل، وقضت على أوهام الثورة المضادة التي لم يبق لها إلا ما يجعلها يوما بعد يوم تخسر شعوبها لأن ارتهانها بإسرائيل: الفاعل اليوم تركيا والشعوب بالقلب والفعل. ولهذه العلة، فإن الحلف بين الباطنية التي هي أساس التشيع الصفوي، والعلمانية التي هي اساس الحداثة الاستعمارية، كلاهما في لحظات الاحتضار الاخيرة لأن تنكرهما لم يعد ينطلي على أحد من شعوب الإقليم، بل أكثر من ذلك، فحتى موظفوهما لم يعودوا مقتنعين بهم فبدأوا يفضحون أسرارهم. ذلك أن نزولهم بأنفسهم وخلق بدائل عنهم، ومنها داعش وموجة الإلحاد في أعشار المثقفين في مصر وتونس خاصة، دليل قاطع على أن الاستعمار الروسي والامريكي أصبحا واثقين من أن الإعلان الصريح على حربهم المباشرة على الإسلام هي السلاح الوحيد الذي بقي لديهم في اللحظة الراهنة. وعندما ينزل العدو الأصل يفضح العدو الوسيط الذي يتبين من مثالين: • فبشار لم يبق في سوريا بفضل إيران وروسيا بل لأن إسرائيل وعلاقتها بروسيا هي التي أعادته • ومراهقا الثورة المضادة في الخليج ومعهما دميتهما السيسي لن يعمرا طويلا لأن اضطرار إسرائيل وأمريكا للتدخل المباشر يعني فشلهم

وهكذا، فالفاعلية صارت بأيدينا وصاروا هم في مرحلة رد الفعل. وعندما نعود إلى تونس نكتشف أن المعركة لم تعد بين إسلاميين وحداثيين، بل بين تونسيين مؤمنين ببلدهم واستقلاله السياسي والحضاري، وبين عملاء وهم قلة قليلة يستقوون بدولة لم تعد بأيديهم وبمستعمر لم يعد امبراطورية كما كان: هزموا.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي