**** وجوه شبه محيرة تشاجن الباطنية والعلمانية وتوالجهما الفصل الاول
في محاولة المقارنة بين موقف ابن رشد وهيجل من أدلة وجود الله (راجع اليوتيوب للمحاولة في محاضرات بيت الحكمة تونس) بينت كيف أن محاولة هيجل لدحض دحض كنط لأدلة وجود لله للعودة إلى القول بالمطابقة، لا تختلف عن محاولة ابن رشد دحض دحض الغزالي للإلهيات الفلسفية للعودة إلى القول بالمطابقة. فالدحض الهيجلي لدحض كنط لأدلة وجود الله جزء من دحضه للميتافيزيقا المعتمدة على القول بنظرية المعرفة المطابقة، أي القائلة بأن الوجود يرد إلى ما ندركه منه، بخلاف ما حاول كنط الحد منه واشتراط مسلمات تؤسس الأخلاق واستعمال العقل النظري في فلسفة العمل باستثناء الإنسان من الضرورة الطبيعية.
ولذلك، فجوهر “تهافت الفلاسفة للغزالي” هو دحض نظرية السببية لتأسيس حرية الله خالقا ومشرعا وحرية الإنسان مكلفا ومسؤولا. وجوهر رد ابن رشد عليه مداره كذلك نظرية السببية التي يرى أنه من دونها لا يمكن تأسيس العلوم التي يسميها عقلية خلطا بينها وبين القول برد الوجود إليها في المطابقة. ولم يدرك هذا المعنى واضح الإدراك وعبر عنه بين التعبير إلا رجلان من القرن الثامن-الرابع عشر هما ابن تيمية في ربعه الأول وابن خلدون في ربعه الأخير: فالأول اعتبر كل تصور يبقى منقوصا ويمكن تصور أفضل منه إلى ما لا نهاية له، ومن ثم فلا مطابقة، والثاني قالها صراحة الوجود أوسع من الإدراك. إذن رؤيتان لنظرية المعرفة (ابستمولوجيتان): • تقول بالمطابقة وهو أساس الفلسفة القديمة في شكليها الأفلاطوني والارسطي والمزيج منهما وقد قبل بها المتكلمون القائلون بخرافة رد المنقول إلى المعقول بالتأويل. • تقول باستحالة المطابقة وهو أساس الفلسفة الحديثة قبل النكوص الرشدي والهيجلي. والنكوصان الرشدي والهيجلي أنهيا الفلسفة لأنهما في الحقيقة بما يزعمانه من إطلاق العقل، جعلاه عقليا عاميا يتصور إدراكه البسيط والمتناهي مطابقا لحقائق الوجود المعقدة واللامتناهية، ومن ثم فهما قد جعلا الفلسفة تتحول إلى إيديولوجيا شعبية تنتج ما أريد الكلام فيه اليوم وهو هدف المحاولة.
وحتى نرى العلاقة بين هذين النكوصين والظاهرتين اللتين أريد درسهما وهما -الباطنية في تاريخنا القديم والعلمانية في تاريخنا الحديث، وما بينهما من تناظر عجيب كما سأبين-لا بد من فهم إلام عاد الناكصان: • فابن رشد كما هو معلوم عاد إلى أرسطو وثيولوجاه • وهيجل عاد إليهما مثله.
وينبغي أن نفهم كذلك أن فلسفة الحداثة من ديكارت إلى كنط كانت تضمر ما انتهى إليه كنط وإن بدون عمق تعليله (رفض المطابقة الارسطية)، ونفس الشيء يمكن قوله عن فكر السنة التي كانت ترفض فلسفة أرسطو وعلم الكلام عامة والاعتزال خاصة. فالفصل بين المجالين هو أساس رؤية ديكارت.
ولم يكن قول فلاسفة الحداثة من غير الملحدين تقية، بل كانوا حقا يعتقدون أن الدين فيه ما لا يدركه العقل، أو أن العقل لا يدرك كل شيء، ومن ثم أنهم لا يسلمون بنظرية المعرفة القائلة بالمطابقة. بل إن ديكارت يذهب أبعد من ذلك، فيؤكد أن مبادئ العقل نفسها خيار إلهي يمكن تصور غيره. وإذن فما قضى عليه هيجل في الحداثة الغربية ليحول الفلسفة إلى إيديولوجيا، • إما للرؤية المثالية القائلة بالمطابقة (اليمن الهيجلي من بعده) • أو للرؤية المادية القائلة بالمطابقة (اليسار الهيجلي من بعده وخاصة الماركسية) • وكلتاهما تنتهي إلى وضع الإنسان محل الله تعينا وبديلا بعد موته هيجليا
فكرة موت الله ليست نيتشوية رغم الشائع، هي فكرة هيجلية بمعنيين: • أولا فلسفيا حيث ينفي وجوده الذاتي في غير العالم وخاصة في الإنسان • وثانيا تاريخيا ويرمز إليه ما يعتبره آخر قناعة الصليبيين بعد فشلهم في الحفاظ على آثاره والتأكد من أنه مات عضويا ورمزيا كأساس حضارة الغرب التي “تدوننت”. وتدوننها هو الشكل الاول من استبدال ما كان مقدما في المسيحية – ما وراء العالم- بما كان مهملا -الدنيا-فأصبحت كما يصفها، تعتبر الما هنا يتضمن الماهناك أو الدنيا ما وراءها، والتفتت الحضارة الغربية إلى الدنيا بديلا من التفاتها إلى ما وراءها. وهو ما يجعلها قبل نيتشه قد قلبت القيم فعكستها.
والحصيلة هي أن الإنسان لم يعد خليفة إن صح التعبير بل رب. وما كان عند هيجل إنسان الرب حال فيه، صار بعده ربا لا يحل فيه غير ذاته وما ينقصها الذي تطلقه فتتصوره ربا بلغة فيورباخ. وهذا هو معنى موت الله الهيجلي الذي صار عند نيتشه ليس الإنسان العادي بل ما فوق الإنسان الخالق بفنه لعالمه. ولنعد الآن إلى مشكلتنا -المقارنة العجيبة بين الباطنية والعلمانية. فما دعاني للبحث في المسألة هو ما يجري حاليا عندما أقارنه بما حدث في ماضينا. فالحلف غير الطبيعي بين الماركسية قبل سقوطها، والعلمانية منذئذ وخاصة منذ الثورة، مع التشيع وما يسمى بأنظمة الممانعة، ظاهرة عجيبة حقا. ولا مثيل لها في تاريخنا إلا الحلف بين الباطنية والفلاسفة والتشيع والتصوف في الحرب على السنة السنة التي دون أن تكون معارضة للعقل، لا تقبل رد الدين إليه بمنطق التأويل التحكمي الذي بيّن مقوماته الغزالي في كتاب فضائح الباطنية التي ردها إلى الجمع العجيب بين الفلسفة والتعليمية. فالتعليمية هي القول بما ينافي العقل بالعقل: أعني القول بالحاجة إلى: • وسيط في التربية (التصوف خاصة) • ووصي في الحكم (التشيع خاصة) • وهما يجمعان بينهما كلاهما يقول بالأمرين مع ادعاء حيازة ثمرة الفلسفة ورد النقل إلى العقل بمقتضى المطابقة والعلاقة بين الظاهر(الدين) والباطن(العقل).
وحتى يفهم القارئ العلاقة فليعوض: • (الظاهر) بالإيديولوجيا • و(الباطن) بالعلم حتى يرى التناظر بين الباطنية والماركسية مثلا وهذا يصح على كل من يسمون فلاسفة في الإسلام: فعندهم أن الخطاب الديني ظاهر وأن حقيقته هي باطن تكتشفه الفلسفة (من الفارابي بوضوح الى ابن رشد بتقية كما في المناهج).
وما يقال عن الفلاسفة يقال عن الاعتزال بوضوح ويقال عن الأشعرية المتأخرة باستثناء ابن خلدون الذي هو أقرب إلى السنة التقليدية منه إلى السنة الكلامية، وخاصة المتأخرة أو ما يسميه كلام المتأخرين، أي ما بعد الغزالي وخاصة من الرازي فلاحقا. وفضائح الباطنية يؤسسها على وهم نظرية المطابقة.
لكن ما أعجب له أكثر ليس خاصا بحضارتنا: فما أن تطلق النسبي في النظر تضطر في العمل إلى إطلاق عكسه فتصبح وثوقيا مرتين. وثوقي في النظر بمعنى حصر العلم في المطابقة، فترد حقيقة الوجود إلى إدراكنا أو تنفي الحقيقة بإطلاق وتجعل إدراكنا هو الامر الوحيد وما عداه وهم: ما بعد الحداثة. وذلك هو مأزق نيتشه: كيف نعلم أن ما ندركه ليس حقيقيا وننفي أن يوجد غير ما ندركه؟ عندما يقول الدين الإسلامي ما ندركه هو عالم الشهادة وما لا ندركه هو عالم الغيب. لكننا ندرك محدودية الاول دون نفي وجود الثاني. والقرآن يعلمنا بأمرين: • وجود الغيب • احتجابه. فيجعلنا في آن نؤمن بنسبية عملنا وبإطلاق الحقيقة. ومعنى ذلك أن النسبية تتعلق بالإدراك والإطلاق يتعلق بالوجود. والقرآن يخبرنا بوجود الغيب ولا يعلمنا بمضمونه. ما يعملنا به أمران: • أنه موجود. • وأنه غير معلوم للإنسان كيفه ومضمونه. وهذا في الحقيقة يتعلق حتى بوجود الشاهد. فكلنا يؤمن بوجوده ويؤمن بوجود العالم، لكنه لا يعلم حقيقة وجوده ولا حقيقة وجود العالم، وحتى علمه لما يعلمه من ذاته ومن عالمه، فهو إيمان بقدرته الإدراكية وليس له عليها دليل. ولولا ما يتحقق من تواصل بين البشر يعطيه شبه شهادة بأن ما يظنه بنفسه ليس مجرد خيال لكان تمييزه عنه مستحيلا. والحصيلة أن الباطنية قديما والعلمانية حديثا، يجمعان بين دغمائيتين: • واحدة جلية تدعي العلم المطلق • والثانية خفية هي وثوقية دينية خفية تستسلم للعادات السائدة التي لا تبعد كثيرا عن خرافات التشيع والتعلمن: الفرق الوحيد هو أن الأولى تعمل باسم الآخرة والثانية باسم الدنيا: التلهي الباسكالي. إنه طقوسيات وثنية في الحالتين حتى وإن سميت في التشيع معتقدات في متع الآخرة باتباع آل البيت وكراماتهم، وهي كلها من جنس خرافات التصوف الشعبي لكنها في التعلمن المادي معتقدات في متع الدنيا باتباع آل الملاهي بمعناها الباسكالي وأهمها المخدرات والخمريات والجنسيات والإخلاد إلى الارض. ولا فرق في الغاية بين ما يحصل في الزوايا والحسينيات والحانات والسهرات الخمرية -الاروجيات- وهي كلها عبادات وثنية حتى وإن تنكرت لاسمها. لكنها دون العبادة الوثنية عند اليونان لأن هذه تعترف بطابعها الديني ولا تدعي كذبا وبهتانا العقلانية والتنويرية وخاصة التقدمية والحداثية.