وجود الانسان، ادراكه ومقوماته بمنظور القرآن الكريم – الفصل الأول

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله وجود الانسان

كل إنسان يريد أن يؤسس شيئا نظريا كان (لتفسير ظاهرة) أو عمليا (لسد حاجة مادية) يوجد أمام خيارين:

  • إما أن يبدأ مسعاه بقطع التسلسل دون الوقوع في الدور

  • أو ألا يبدأ لأن هذا القطع يكون في الحقيقة تحكميا ليس من حيث ضرورته بل من حيث عين النقطة التي يحصل القطع فيها.

والقطع هو جواب عن سؤال: من أين أبدأ مسعاي.

والمعلوم أن اللاأدري في المعرفة والمتردد في العمل علته عدم الإقدام على قطع التسلسل حتى بالدور فضلا عنه من دونه.

ويأتي الخيار الثاني: هل المبادئ التي سأنطلق منها هي حقا أوليات مطلقة أم هي فرضيات احتاج إليها للشروع في النظر أو في العمل؟

المعتاد أن الفلسفات والأديان تعتبرها حقائق أولية مطلقة ولا تعتبرها فرضيات للشروع في النظر أو في العمل يمكن تغييرها إذا تبينت غير كافية لتحقيق الغرض من النظرية أو من العمل إما كليا أو بعضيا بتعديلها.

وبذلك فالعلم يتقدم بقدر ما يفرضه التالي في تحديد المقدم: أثر نقيض التالي في المقدم.

لذلك فكل محاولات نقض أي نظرية أو أي عمل عمادها بيان أن التالي ينقض المقدم لأن ما توقعناه بالمقدم جاء التالي مناقضا له فلزم نقضه لأن نقيض التالي يفيد نقيض المقدم.

وإذن فالمنطق يعمل في الاتجاهين: من المقدم إلى التالي نصدق النتائج لصدق المقدم والعكس نكذب المقدم لكذب التالي.

وبهذه الطريقة يتم تجويد المعرفة النظرية والممارسة العملية أو تجاوز ما لم يعد مفيدا منها في كل أفعال الإنسان النظرية والعملية وخاصة في الاستراتيجيات السياسية والاقتصادية والحربية. وهو معنى العمل على علم سواء في النظر أو في الممارسة.

والفلسفة والدين لم يبقيا استثناء في هذا المضمار.

فما كان الفلاسفة يتصورونه مميزا لها عن الدين خرافة: فكون المبادئ الأولى ليس حقيقة عقلية بل هو حقيقة إيمانية في الحالتين أي أن قطع التسلسل بلا دور أو بدور ليس حقيقة علمية قابلة للإثبات بالدليل القاطع وإلا لما كانت أولى. هي إذن توضع وضعا للإيمان بأنها غاية التسلسل التراجعي المعقول.

وقد استعمل ابن خلدون هذه الحجة دون أن يعللها في كلامه على علم الكلام ورأيه في الاستدلال على وجود الله بالعلية أو بالترجيح (نوعا الدليل الكلامي). فبين أن العلية لا تتناهي ونوع تأثيرها مجهول وإذن فلا يمكن الاستدلال بها على وجود الله إلا بنفيها في الغاية بالقول بالعلة الأولى.

والترجيح (ترجيح الوجود على العدم وترجيح إحدى كيفياته) مشروط بالتعليل وفيه كذلك قطع التسلسل تحكميا. وهو إذن أكثر منه تحكما. فلا يبقى إلا الإيمان أو عدمه بوجود الله. وقد قال ذلك فيما سماه لطيفة استطرادا في كلامه على علم الكلام. وهذا تقديم أستأنف به الكلام في بحث سابق لم أوفه حقه.

ومعنى هذه المقدمة أني اريد أن أوضح خطأين في الفكر الديني والفكر الفلسفي بخصوص طبيعة المبادئ التي تنطلق منها أي نظرية لتفسير أي ظاهرة أو أي عمل لعلاج أي ظاهرة: المبادئ في النظر وفي العمل منطلقات فرضية دائما. وما يسميه علماء الدين قطعي الدلالة هو جهل بهذه الحقيقة.

فدلالة “قطعي” هي دلالة نسبة إلى فعل القطع للتسلسل في طلب العلة مع محاولة تجنب الدور أي تفسير الشيء بذاته. وهي بهذا المعنى تحيل إلى طابعها العملي النسبي في النظر وفي العمل: اضطرار الإنسان إلى الشروع في النظر أو في العمل من نقطة ما فيختار ما يراه بداية مناسبة ويقطع التسلسل ليبدأ.

وحتى مبادئ التقليدي الثلاثة -الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع- فإنها خاضعة لهذه الحقيقة: هي مبادئ عملية للاستدلال والنقلة من المقدم إلى التالي أو من المقدمة إلى النتيجة إيجابا أو العودة من النتيجة إلى المقدمة سلبا. من جنس مواضعات قانون الطرقات لا غير.

لكن عندما نجزم بأنها حقيقة فينبغي أن نعترف أن هذا الجزم إيماني وليس علميا. لكأن الجازم يقول: أعتقد اعتقادا راسخا أن هذه المبادئ حقيقة مطلقة ولا بديل عنها. لكن تاريخ العلم والمعرفة يبين أن البديل عنها موجود وأفضل منها أحيانا. تعدد الأنساق الرياضية والمنطقية شاهد على ذلك.

وحتى لا يظن أني أخلط بين تغير المبادئ المضمونية والمبادئ الشكلية -بمعنى قيم المتغيرات في اي نسق مجرد وقوانين النسق المجرد الواصل بين متغيراته وقواعد تواليفها-فإني أزعم أن الأمرين ليس فيهما ثوابت مطلقة حتى وإن كان الشكل أكثر ثباتا فعلا من المضمون في اختيار البدايات.

مثال ذلك أن شكل التحليلات الأوائل لم يتغير عندما انتقل كنط من مضمون التحليلات الأواخر الأرسطية إلى ما يناظره في المنطق المتعالي عنده لأن هذا المنطق الكنطي يطبق التحليلات الأوائل الارسطية ما يعني أن مبادئ الشكل الأولية بقيت واحدة لكن المضمون تغير بخلاف ما حدث مع هيجل.

فهيجل لم يعد بوسعه أن يكتفي بشكل المنطق الأرسطي في التحليلات الأوائل لأن تحليلاته الأواخر لا تقول بعدم التناقض بل هي مبنية عليه: لذلك فتأويله لمنطق ارسطو الصوري مختلف حتى وإن لم يستطع وضع منطقا صوريا مختلفا وكان عليه أن يفعل مادام قد غير القضية الحملية.

تغيير القضية الحملية وجعلها قضية تأملية بتغيير مفهوم المحمول والموضوع وجعل الأول ليس مجرد عرض ذاتي بل هو صيرورة الموضوع نفسه أو هو من تجليات الموضوع كان ينبغي أن ينقله إلى شكل منطقي مختلف عن الشكل الأرسطي على الأقل بتثليث القيم بدل ثنائيتها فيه.

ولو ثلث القيم في المنطق الصوري لما بقي قائلا بنفس مراحل المنطق الأرسطي أي التصور والتصديق والقياس مكتفيا بتأويلها تأويلا تثليثيا دون أن يضع حسابا لأشكال منطقية مختلفة عن حساب أرسطو لها في كتاب التحليلات الأوائل المشهورة فضلا عن كتاب العبارة.

فلا يمكن لمنطق بثلاث قيم (هيجل) أن ينتج نفس التشكيلة من الأشكال القياسية التي أنتجها منطق بقيمتين (ارسطو). ويمكن أن نبحث علة هذا النقص في نظرية هيجل المنطقية رغم أنه قد جعلها عين نظرية الوجودية أو عين ميتافيزيقاه التي هي ثلاثية القيم (الوجود والعدم والصيرورة) لكن ليس هذا مبحثنا.

هذا الفصل الاول مقدمة هدفها بيان أن ما أتسلمه من منطلقات لا أعتقد أنه حقيقة مطلقة لا إيمانية ولا علمية بل هو فرضيات اعتبرها مساعدة في فهم ما أعتقد-وألح على كلمة أعتقد-أنه رؤية الإسلام لدور الطبيعة والتاريخ وسيطين بين الإنسان والله يثبتان بمجراهما علاقته المباشرة به وجدانيا.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي