هوية القطيع، دلالتها متضايفة مع هوية الراعي

ه

ليس من عادتي التعليق على الأشخاص رغم بلوغ الاستفزاز مبلغا لا يطاق. وعادة ما أتجنب التعليق المباشر رغم أني اضطررت هذه المرة فعلقت. واعتذر عن ذلك إذ قد يبدو من التنابز بالألقاب عند التشخيص. لذلك بسبب ما في أقوالهم من احتقار للشعب لن أعلق عليهم لذواتهم بل لكونهم عينة من مرض ينبغي تشخيصه ومحاولة تعليله طلبا لعلاجه. فمحتقرو الشعب مهما قلنا فيهم يبقون منه. والظاهرة التي أكتب هذا التعليق بمناسبتها تجلت في تعينين:
الأول يشمل احتقار بعض الإعلاميين لمن صوتوا للنهضة فاعتبروهم من أجل ذلك قطيعا شعبيا بسبب عداوة متهميهم لما يتصورونه حصريا علة تصويتهم أي التخلف الثقافي.
الثاني يشمل احتقار بعد المفاخرين بأخلاق الجنوب والمباهين بنبز من صوتوا للقروي فاعتبروهم من اجل ذلك قطيعا جهويا بسبب تعالي متهميهم لما يتصورونه حصريا علة تصويتهم أي الدناءة الخلقية أو الطمع في سد الحاجة المادية.
ويؤسفني أن أقول لهؤلاء إن من يعلق على تقدم حزب قلب تونس في الشمال الغربي لا يقل دناءة عمن يعلق على تقدم حزب النهضة في تونس كلها. كلاهما يسقط تصورين زائفين لذاته على غيره ويعبر عن جهل بفهم ما يجري في الظاهرتين ما يعني أنه ليس أهلا لأن يعلق على أعماق السلوك الشعبي ودوافعه النبيلة التي غابت عن فكره الضيق وقليل النفاذ.
ولأبدأ بمن يعتبر المصوتين للنهضة قطيعا بسبب الأمية الثقافية التي يصفهم بها متصورا ذاته ذات ثقافة عالية. لكنه في الحقيقة لم يعبر بهذه التهمة إلا على ظاهرة إسقاطه لحقيقته وحقيقة من يمثلهم من نخبة تونس التابعة اسقاطها على من يصفهم بالقطيع. فهو يتكلم باسم قطيع راعيه المقيم العام الفرنسي وأسقط صفة القطيع على ناخبي النهضة متصورا علاقتهم بمشروعها من جنس علاقته بمشروع المقيم العام الذي “يرعاهم” رعاية “السارح” في تونس لقطيعه التابع معانقاته من “دمى” الاعلام الذين يعتقدون أن تعلمهن الفرنسية علامة ثقافة عالية وهي لم تبق معبرة إلا على تبعية الأميين أمثالهم.
وحقيقة موقفهم القطيعي هي أنهم استبطنوا احتقار المستعمر لهم وللتخفيف من عقدهم أسقطوها على الذين صوتوا للنهضة لجهلهم بالعلل الاخرى التي لا يستطيعون لها فهما لأنهم ربوا على الذل والخضوع لراعيهم الاستعماري. وسأحاول بيان هذه العلل بإيجاز.
فمن صوتوا للنهضة ليسوا قطيعا وليسوا أميين إذ أن نخبهم من أفضل نخب تونس وهم على اتصال بكل ثقافات العالم بخلاف من لا يرون منه إلا التبعية الى الفرنكفونية. لذلك فالأمية ابعد غورا في متهميهم بها. فهؤلاء المباهون بالفرنكفونية ما يزالون قطيعا يرعاه المقيم العام وأمتيهم أكثر انتشارا فيهم منها عند النهضويين في كل المستويات الاجتماعية مع العلم أن الأمية في أجيال تونس السابقة هي أكثر الاشياء مقسومة بالعدل بين طبقاتها.
ولأثني بمن يعتبر المصوتين للقروي قطيع الحاجة المادية بسبب نذالة خلقية يتصف بها أهل الشمال الغربي حسب رأيهم. فبهذه الصفة يسقط من يرى هذا الرأي حقيقته ممن يدعون التأفف عن الحاجة المادية وهم عبيدها لكن أهل الجنوب براء من اتهام اخوتهم في الشمال. ومن ثم فلا شيء يثبت أن من يرعى هؤلاء الناطقين باسم الجنوب ليسوا ربما أفسد من راعي القطيع الذي يتهمون به الشمال الغربي من حيث استتباعهم بالحاجة المادية.
لذلك فينبغي أن نبحث في الظاهرتين اللتين أفرزتهما الانتخابات. وأستطيع القول إنها قد آذنت بنهايتهما لأن الإعلام التابع والأحكام المسبقة باتهام الشعب أو جهات من الوطن بالتخلف الثقافي أو بالدناءة الخلقية هما جوهر التخلف الثقافي والدناءة الخلقية وكلاهما سيسقط بعد أن عبر الشعب عن رأيه بصورة تحدد المشروعين اللذين يريدهما وينتظر تحقيقهما حتى لو كان بعض الواعدين بتحقيقهما غير قادرين على انجاز وعودهم:
• ما الذي يجعل البعض يتحولون إلى “قطيع” بدافع ثقافي؟
• وما الذي يجعل البعض يتحولون إلى “قطيع” بدافع اقتصادي؟
لست مقتنعا بأن المتكلمين باسم الظاهرة الأولى يصفون حقيقة في الشعب التونسي -شعب جاهل لا يعرف ما يريد- بل هي حقيقة أصحاب هذا الرأي حقيقتهم هم كأفراد يتصورون أنفسهم ممثلين لطبقة ثقافية في الحالة الأولى التي يكون صاحبها يعاني من مرض النخبوية الزائفة ثقافيا ولطبقة اقتصادية في الحالة الثانية التي يكون صاحبها يعاني من مرض الروحانية الزائفة ماديا.
وقد غلبت الحالة الأولى على ظاهرة الاعلام والثقافة اللذين أصبحا أداتي المافية منذ عهد ابن علي . وغلبت الحالة الثانية على التواصل الاجتماعي ودعوى التأفف من الماديات بزعم الصمود أمام الظاهرة الأولى:
فالمتكلمون باسم هذه الظاهرة الاولى كلامهم يخلط بين حداثة الثقافة والتبعية الثقافية أعني عين أخلاق القطيع التابع لراع هو المقيم العام الفرنسي الذي يحكم البلاد بالمافيات.
ولست مقتنعا بأن المتكلمين باسم الظاهرة الثانية يصفون حقيقة في الجهات التي يتكلمون عليها -شمال غربي طماع- بل هي حقيقة أصحاب هذا الرأي حقيقتهم كأفراد يتصورون أنفسهم ممثلين لأخلاق القناعة المادية والخنوع للحرمان من الحقوق المادية فيكون القطيع هو من يرى هذا الرأي وليس أهل الشمال الغربي لانه تابع لراع النظام الذي استعمل ثروة البلاد لتنمية فترينة يسوق بها لنفسه وأهمل باقي الجهات.
لذلك فالذين صوتوا للنهضة لم يتصرفوا مثل القطيع. فلا يمكن لمن يسعون إلى التحرر من التبعية الثقافية أن يكونوا من القطعان بل هم يقاومون من صاروا قطيعا لسيد يستعبد بهم وطنهم وإذن فدافعهم التحرر من الظاهرة الأولى: من استبعاد ثقافة المستعمر لهم لأن الاستقلال الثقافي شرط الحداثة غير التابعة في كل المجالات بما فيها الاقتصادي والسياسي.
والذين صوتوا لقلب تونس لم يتصرفوا مثل القطيع. فلا يمكن لمن يسعون للتحرر من التبعية الاقتصادية التي جعلت أبناءهم عاطلين وبناتهم خدما لمن يكلمونهم عن القناعة وهم يعيشون في الترف والبذخ مثل الدعاة المنافقين ويسرقون رزقهم لكأن الجنوب لم يجد لنفسه حلولا يمكن أن يتهمهم غيرهم بأنها لا اخلاقية -وقد اتهمهم من يدعي الثورية بذلك. فمن جاءهم للمساعدة لم يقنعهم بما أعطاهم من “مقرونة” بل بما وعدهم به من عناية بهم وتنمية في مناطقهم إذا هم انتخبوه بعد أن رأوا كاذب الوعود طيلة ستة عقود.
فإذا اغفلنا هذه الأبعاد صار من اليسير أن يتكلم بعض المتفلسفين في المقابلة الحمقاء بين الروحي والمادي واعتبار الثورة هي في العناية بالأول والتقليل من أهمية الثاني لكأن كيان الإنسان قابل للقسمة على ما هو عضوي وما هو روحي. فلا شيء يثبت أن العضوي ليس إلا ما يظهر من الروحي وأن الروحي ليس إلا ما يخفى من العضوي. وكل خلل بأي من الوجهين يؤدي إلى ما تعاني منه الأمة منذ قرون.
لذلك فالحكمة الشعبية هي التي صوتت للنهضة. لكنها لم تصوت للحزب ولا لقادته بل لمشروع وعد به المصوتون ويأملون أن يكون أصحاب الوعد عند وعدهم وقادرين على تحقيقه. وهم بذلك أدرى بحقيقة الإنسان الحر من كل أدعياء الحداثة: فما يعني الناخبين هو شروط القيام الثقافي غير التابع. وما يقوله الإعلام المأجور من خدم المافيات من وصف للمصوتين للنهضة هو في الحقيقة اسقاط لصفاتهم باعتبارهم عبيد المافية التي هي بدورها أداة استعباد المقيم العام لهم جميعا ويظهر ذلك في الاحتقار الذي هو خلق الحقير عندما يصبح عين الاجير عند من يملك الإعلام فيصبح أمير.
والحكمة الشعبية هي التي صوتت لقلب تونس. لكنها لم تصوت للحزب ولا لقادته بل لمشروع وعد به المصوتون ويأملون أن يكون أصحاب الوعد عند وعدهم وقادرين على تحقيقه. وهم بذلك أدرى بحقيقة الإنسان الحر من كل أدعياء الكرامة: فما يعني الناخبين هو شروط القيام الاقتصادي غير التابع.
ولا أعجب إذا للحمقى من الصحافيين الذين يعتبرون ناخبي النهضة قطيعا اسقاطا لصفتهم القطيعية برعاية المقيم العام ومافيات أصحاب مؤسسات الأعلام ألا يفهموا هذه المعاني. لكني أعجب ممن يفاخرون الشمال بالجنوب على المستوى الخلقي في العلاقة بالمساعدات ولم يروا ما وراءها من وعود لعل صاحبها كان مخادعا. لكن خداعه ما كان لينطلي لو لم يقع إهمالهم إلى حد اليأس من الطبقة السياسية الموجودة وخاصة فشل الثورة في الاستجابة لأدنى شروط التنمية وخداع الباجي الذي يدين لهم بنجاحه سنة 2014.
وأختم هذه المحاولة بإشارتين:
• القوى السياسية قبل ابن على كانت مقصورة على قوتين كبريين البورقيبيين والإسلاميين مع مناوشات هامشية لليسار والقوميين الذي كانوا يعارضون بورقيبة ليس بسبب الاستبداد إذ لا يوجد يسار وقوميون ديموقراطيين في العالم ولكن لأنه كما قال محمد الشرفي في كتابه الإسلام والحرية لم يكن علمانيا بأتم معنى الكلمة أي لأن حربه على الاسلام لم تكن تشفي غليلهم. ولما أتى ابن على وحقق لهم هذه الرغبة صاروا زبانيته ليس الثقافية فحسب بل والمخابراتية والأمنية.
• مزية هذه الانتخابات أنها أزالت الشق اليساري من الوجود السياسي وأبقت على الشق القومي الذي يدعي الثورية في تونس ويتحالف مع محاربيها في باقي بلاد العرب كما في سوريا ومصر وليبيا ولذلك فالموقف الثاني يكذب الأول وهم إذن لم يتغيروا فبقوا كما كانوا في عهد بورقيبة وابن علي. لكن النوعين بقي لهما دور في الاتحاد. وقد يتحالفون مع كل الذين يريدون إلحاق تونس ببقية بلاد الربيع.
لذلك أعيد مرة أخرى بأن أمل تونس في الاستقرار يقتضي بناء حلف صريح على مشروع يعيد بناء الدولة التونسية ويصلح الدستور ويجذر الثقافة الديموقراطية مع التركيز على البعد الاجتماعي والتنموي وإصلاح خدمات الدولة وهي عشرة: خمسة للحماية (القضاء والامن والدبلوماسية والدفاع والاستعلام والاعلام) وخمسة للرعاية (التربية النظامية والتربية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية والتنمية الثقافية والبحث والاعلام العلميين). وهذا يقتضي خطة متوسطة المدى لدورتين انتخابيتين تمكنان من الشروع في التداول. لكن قبل ذلك لا بد من العمل الجبهوي لحماية تونس بوصفها قائدة إخراج الأمة من الاستثناء التاريخي الحديث حتى تصبح ذات ثقافة ديموقراطية.
وبسقوط المنظومة القديمة التي تضع الثورة في لحظة أشبه بلحظة نهاية 2011 مع تجربة السنوات الثمانية التي مضت يمكن أن نستفيد من الحالة الاقليمية المستجدة في الجزائر ومصر والعراق وصمود الثورة في ليبيا وفي سوريا وتهلهل دول الثورة المضادة في الخليج وفي إيران وفي إسرائيل والانطواء الأمريكي بسبب الانتخابات التي قربت لنبني دولة الجمهورية الثانية بناء عقلانيا يتحرر من الدستور الحالي بإصلاحه ومن قانون الانتخابات الذي يحول دون قيادة الحكم الراشد وتنظيف الإعلام. وهو سينظف نفسه بنفسه لأن أصحاب مؤسسات الأعلام بدأوا يدركون أنهم فقدوا كل مصداقية ومن ثم فلن يمولوا نفس “الشلايك” وسيضطرون لأعلام أقل تفاهة وأقرب لمهام الإعلام ذي المهنية التي تعيد إليه الاحترام. حدث للأعلام نفس ما حدث للنظام القديم: هدم نفسه بنفسه لأنه بلغ ذروة التمفيز فكانت نهايته ظاهرة القروي أو المافية الجلية وسعيد أو المافية الخفية.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي