ه
بينت في محاولة سابقة علل تعريف القوى السياسية بالغايات وليس بالمرجعيات. وكان بياني مبنيا على حصرها في دورها السياسي بمعنى إدارة الأمر السياسي -أي تحقيق إرادة الجماعة في كل ما يحافظ على كيانها-وهو الأمر الذي يعتبر واحدا مشتركا في مرجعيتها كلها.
الفرضية الضمنية هي أنها مجمعة على المرجعية من حيث الطبيعة مهما اختلفت حول تأويلاتها. فالمرجعيات ليست تحكمية ولا يحددها جيل من أجيالها بل هي حصيلة تاريخية صارت الأجيال المتوالية تعرفها بالاشتراك بينها في الأحياز الواحدة التي تعرف كيان الجماعة التي تملكها أبا عن جد أعني:
- جغرافيتها.
- وثمرة تفاعلها مع عمل الأجيال لسد حاجاتها المادية (الثروة).
- وتاريخها.
- وثمرة تفاعله مع عمل الجماعة لسد حاجاتها الروحية (التراث).
- واصل ذلك كله هو رؤية الشعب لذاته وعلاقته بالعالم وما بعده-ما يضفي عليه معنى- أو تعريف الشعب لذاته بنسبه الحضاري والروحي.
لكن ما قلته في هذا التحليل لم يعد قابلا للانطباق على الأقطار التي سعى الاستعمار لتفتيت وحدتها المرجعية هذه إذا تبنت رؤاه لها واعتبرته نموذجا لمستقبلها بعد أن يكون قد فتت جغرافيتها لاستباحة ثرواتها وشتت تاريخها للقضاء على تراثها إلى حد الوصول إلى الحط من مرجعيتها وجعل نخبها تعوضه في حربه عليها: فهذه هي آخرة مراحل الهزيمة بالنسبة إلى المغزوين كما عرف ذلك كلاوسفيتز في تحديده لمراحل الهزيمة في الحروب سواء كانت عسكرية أو حضارية.
وهذه الوضعية هي التي تفسر أهمية المعركة حول المرجعيات خلال حروب الاستقلال التي لم تنته لأنها عولجت بصورة تنقل أوطاننا من الاستعمار المباشر إلى الاستعمار غير المباشر.
ذلك أن الاستعمار لم يكن سياسيا فحسب بل كان حضاريا أي إنه وصل إلى حد الغزو المصحوب بالتبشير الديني والإيديولوجي.
وتلك هي الوضعية الحالية التي تضعنا أمام ما يجعل المهمة شبه مستحيلة.
ففيم تتمثل المهمة؟
وما علة استحالتها؟
مسألتان إذن:
فالمهمة هي حكم يستعيد شرطي السيادة ويحفظهما.
والسؤال هو هل يوجد اليوم من يستطيع أن يصل إلى حكم تونس أولا وإذا وصل أن يحكمها فعلا فيكون بحق ممثلا لسيادتها؟
هل يوجد من تتوفر لديه الإرادة أولا والقدرة ثانيا على التصدي لما يخدش شروط السيادة ويحول دون تحقيقها ما يجعلها مهمة شبه مستحيلة؟
وعلة الاستحالة هي منع ما يسعى لذلك من الوصول إلى الحكم وإذا وصل منعه من تحقيقه. وهذه الاستحالة مضاعفة. فهي أصلية وفرعية:
فأما الاستحالة الأصلية فهي تخص الولاء بمعناه السياسي وما يعاني منه من ازدواج صار مباحا في وطن مستباح صار بوسع بعض المنتسبين غليه حاصلين على ولاء مزدوج للوطن المستباح والوطن المستبيح له وهو النوع الجديد من الاستعمار غير المباشر. فمن كان يحكمنا بأبنائه صار يحكمنا بمن استبناهم.
وأما الاستحالة المتفرعة عنها فهي الولاء المزدوج للنخبتين الاقتصادية والثقافية أو للمشرفين على انتاج شرطي قيام الأمم أعني ما يسد حاجاتها المادية وحاجاتها الروحية. وهو ما يعني أن الاشراف على شرطي السيادة أصبح بيد المافيات المحلية التي تتعامل مع المافيات الدولية أو على الاقل مافيات المست بتعريف رؤيتين متقابلتين إذا لم نتفق على تنافيهما لا يمكن مواصلة الكلام على ما اصفه بكونه المهمة المستحيلة التي تنتظر من سينجح ليكون ممثلا للإرادة الشعبية في المجال الذي يعود إلى رئيس الدولة أعني حماية الوطن أمنيا بكل معاني الكلمة وتمثيله بوصفه وطنا ذا سيادة في كل المحافل الدولية.
• الرؤية الأولى:
هل يمكن ليساري أو قومي أو ليبرالي تونسي أو إسلامي تونسي لا يرى مانعا في أن يكون ممثل إرادة الشعب متجنسا بجنسية مستعمر تونس السابق مباشرة والحالي بصورة غير مباشرة؟
• الرؤية الثانية:
أم هل ينبغي أن نميز بينهم وبين التونسيين الذين يرون أن المرجعية المشتركة بالمعنى السياسي للكلمة هي الولاء لتونس دون سواها وأن الولاء لها يعني الولاء لمقومي سيادتها أي لكيانها الجغرافي ولكيانها التاريخي اللذين لا يعتبران ملكا لجيل دون جيل بل لكل أجيال تونس من حيث هو وطن ينتسب إلى حضارة بعينها؟
ولأجمع بين الرؤيتين حتى ندرك طبيعة التنافي بينهما: هل يمكن اليوم في تونس أو في أي بلد عربي آخر الكلام على أحزاب ووصفها بكونها سياسية قابلة للتعريف بالأهداف واعتبار المرجعية المشتركة بينها خارج الخلافات الجوهرية من حيث الطبيعة لاقتصارها على التأويلات؟
يعني عندما يكون رئيس الحكومة الذي يمثل البعد التنفيذي من السيادة الوطنية أو عندما يكون النائب الذي يمثل البعيد التشريعي أو عندما يكون رئيسي الدولة الذي يمثل البعد الرمزي والسيادي من تمثيل تونس مدعيا وحدة المرجعية مع بقية الشعب وهو بمقتضى جنسيته الفرنسية تابع لسفير فرنسا في تونس لأنه مواطن فرنسي؟
سيقال إن جل الإسرائيليين لهم جنسيات مزدوجة؟ وهو صحيح.
لكن هل الازدواج في إسرائيل مماثل للازدواج في تونس؟
فالازدواج الاسرائيلي فيه ولاء لإسرائيل وبراء ممن يعاديها وليس تخليا عنه ومعاداة للذات. فغالبا ما يكون الإسرائيلي ذا جنسية أوروبية أو أمريكية أو روسية أو أي جنسية أخرى ويطلب الجنسية الإسرائيلية تعبيرا عن الولاء لما يعتبره وطنه الروحي وليس العكس كالحال بالنسبة إلى التونسي الذي يتجنس فرنسا خاصة.
فطلب الإسرائيلي لجنسية إسرائيل دليل على ولائه لإسرائيل وليس تخليا عن ولائه لها وهو بالأخرى يتخلى عن الولاء للجنسية الاصلية التي كان عليها ناهيك عن كونه قد يكون بعد وحتى قبل طلب الجنسية الإسرائيلية ولاؤه لإسرائيل كما تبين من حادثة تهريب الطرادين تحت أنف الجنرال ديجول. وهو ما يعني إذا طبقنا مثال إسرائيل أن التونسي الذي طلب الجنسية الفرنسية -إذا قسناه على الإسرائيلي-يعتبر فرنسا أولى بولائه من تونس لأنه اختار الانتساب إليها بحرية ولم يرثها.
أما حجة الكل يتمنى ذلك فقد يكون صحيحا لكن ليس الكل يريد بعد أن يحصل عليها أن يصبح حاكما لتونس مكلفا بمهمة ممن فضل الولاء لهم على الولاء لتونس.
فهل رأيتم إسرائيلي تجنس بغير جنسية إسرائيل طالبا ولاء بديلا مختارا ومفضلا عن الولاء للوطن الذي يعتبره ممثلا لكيانه الروحي المزعوم؟
سكوت المترشحين عن هذه المسائل-بمن فيهم الإسلاميين الذين تخلوا عن جوهر هذا الانتساب- علته العجز عن علاجها وتقديم العاجل على الآجل وهم من ثم مثل الجماعة الذين انتخبهم الاستعمار ليوكلهم في مواصلة مهمته التي تسعى للقضاء على كل مقومات الصمود في معركة استرداد شروط السيادة رعاية وحماية.
فالكلام فيها يعني الاعتراف بأن معركة الاستقلال لم تحسم بعد وأن ما اعتبر حسما كان خدعة كان فضل الثورة التي صارت عبئا الكل لا يذكرها في خطابه الانتخابي أو يذكرها تجملا لعسر تحمل تبعات الالتزام بما تقتضيه أعني الاعتراف بأنه لا تحرر من دون تحرير ولا تحرير من دون التصدي للأدوات الخمسة التي استعملها الاستعمار ولا يزال لمنع شروط السيادة: - العودة إلى سؤال التفتيت الجغرافي الذي كان سياسة ممنهجة وخاصة منذ سايكس بيكون الأولى التي يريدون الآن تعميقها بسايكس بيكو ثانية.
- وأثره على منع التنمية الاقتصادية شرط الرعاية السيدة إذ يصبح الجميع عاجزا دون بناء اقتصاد قادر على التحرر من التبعية المادية بالندية.
- والعودة إلى سؤال التشتيت التاريخي الذي كان سياسية ممنهجة وخاصة منذ حروب الاسترداد التي سعت إلى استرجاع كل ما كان مستعمرات رومانية في الأرض الإسلامية.
- وأثره على منع التنمية الثقافية شرط الرعاية السيدة إذ يصبح الجميع عاجزا دون بناء علوم وتقنيات وفنون قادرة على التحرر من التبعية الروحية بالندية.
- والبحث في أصل كل هذه المسائل: هل بالصدفة يحقق الاستعمار ذلك كله عندنا ويعمل عكسه عنده فيعيد بناء قوة اقليمية من جنس روما سعيا لاستئناف الاستعمار المباشر ولكن هذه المرة بالاعتماد على عملائه الذين صاروا هم من يحكم أوطاننا سياسيا ويسيطر على اقتصادنا وثقافتنا حضاريا.
ولأن كل المترشحين همهم الوصول إلى الحكم بالشروط التي حكم بها من سبقهم بل وبشروط اشد وطأة – من ذلك مثلا ما أضيف إليها من ضرورة القبول بكل ثمرات سايكس بيكو الأولى ووعد بلفور وحتى بوعود ترومب- وخاصة من لهم شروط النجاح المحتمل أعني ممثلي إحدى القوتين اللتين تمثلان تاريخ الحركة الوطنية أي البورقيبيين والثعالبيين أو الليبراليين والإسلاميين.
ولهذه العلة فإني أرفع الحكم ولا أعبر عن تأييد لأي منهما لعلمي بالعناصر التالية:
• كل الذين يتكلمون على ما يشبه ذلك -وخاصة من يكثر منهم من الكلام على الثورة وعلى الديموقراطية ليسوا قادرين على شيء لأنهم فاقدون للوزن السياسي إذ لا يكفي أن يكون الإنسان مؤمنا بشيء في السياسية إذا لم يعمل بما بترتب عليه.
فمن يدعي الدفاع عن الثورة ويعمل كما ما مآله خدمة أعدائها مثل كل الحزيبات الذرية التي نشأت كالفطر في تونس لا علاقة لها بهذه المعاني. فمجرد تفتيت جبهة الثورة والديموقراطية دليل على خيانتهما بالفعل حتى وإن كثر الزعيق لصالحهما بالقول. ولو كانوا حقا سياسيين وكانوا صادقين لحددوا طبيعة المعركة: هل هذا التفتت يخدم الانتقال الديموقراطي والقضاء على الفساد والاستبداد أم هو يقويه خاصة وهم يقدمون معركة “الحداثة” المزعومة على معركة الشروط الموضوعية للشروع في أي عمل غير تابع: فهل يمكن للحداثة أن تكون خيارا إذا كانت تهدف إلى المزيد من التبعية بسبب انعدام شروط التحرر منها؟
فالحداثة التابعة هي التحديث الاستعماري للأنديجان وتتعلق باستبدال الحضارة الذاتية بحضارة الغزاة وليست التحديث الذي يجعلك ندا لمن يريدك بلادك سوقا وأبناءك عبيدا ونواد للعجائز عندما يأتون للتسوح فيها.
• ما يعنيني إذن هو موقف من لهم قوة سياسية وقاعدة شعبية.
فهل يمكن لممثل البورقيبيين- بخلاف ما يتوهم الفرحين به – يستطيع الخروج عن النهج الذي أبقى على تونس مستعمرة فرنسية أولا وملعبا للمافيات الاقتصادية والثقافية ثانيا؟ وهل ممثل الثعالبيين اقل منه عجزا دون هذين الأمرين فضلا عنه دون هيمنة فرنسا على الاقتصاد والثقافة والقرار السياسي الذي تدعي النخبة السياسية تمثيله كذبا وبهتانا-بدليل حضور الاقرع وبقاء الإقامة العامة في ساحة الشهداء إلى يومنا هذا- بل هو سيكون شبه سجين في قرطاج لا يستطيع أن يفعل شيئا لأن الحرب عليه وعلى ما يمثله ليست محلية فحسب وليست اقليمية فحسب بل هي دولية.
فلست أستبعد العديد من اعتصامات الرز ليس بالفاكهة فسحب بل بكل الفواكه المهجنة التي عزت تونس وأهما النخب الهجينة التي تسيطر على الاعلام المنحط تقنيا وخلقيا. فكل الذين يتكلمون على الديموقراطية واليسارية والقومية وبقايا التجمع وبقايا البورقيبية وكل المتكلمين على “الإكراهات السياسية” ممن كانوا إسلاميين وما سيترتب على اختراقات إسرائيل وإيران وأعراب الثورة المضادة كل هؤلاء سيعلنون الحرب عليه وعلى ما يمثله ومعهم المافيات النقابية بنوعيها أي نقابة العمال ونقابة الاعراف.
فكل هؤلاء مجندون بتنكر يدعي الديموقراطية والحرية والحداثة وحقوق الإنسان للحرب من أجل الابقاء على شروط منع التحرير والتحرر لأن ذلك هو شرط الابقاء على التبعية البنيوية لكل ما يحيط بالأبيض المتوسط من شاطئه الجنوبي والشرقي حتى يبقى شاطئه الشمالي سيدا كما كان في عهد روما وبيزنطة وفي عهد الامبراطوريات الاستعمارية الأوروبية التي بدأت تستعيد الطموح لاستئناف الاستعمار المباشر باستعمال أداتي الاعداد الأولي عن طريق إيران وإسرائيل وأحفاد عملاء سايكس بيكو الأولى الذين يعدون للثانية ويعادون ثورة شعوبهم من اجل التحرر ناهيك عن ثورتهم من أجل التحرير.