لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلههشاشة تونس
كان لي أول خلاف مع الأستاذ أحمد بن صالح وزير الاقتصاد والتخطيط لما زارنا في احدى السهرات بدار المعلمين العليا أياما قبل ازمة التخلي عن سياسة التعاضد حول اللجوء إلى الحلول السهلة المتمثلة في نقل مشروعات غربية دون مراعاة شروط نجاحها لدى أصحابها.
ولا زلنا على نفس المنوال.
اللجوء إلى الحلول السهلة والمؤقتة التي لا يمكن أن تفي بها لأنها غير مناسبة للظرفية التونسية فضلا عن كونها لا تمثل أدنى قدر من الإبداع والنفس الطويل في بناء قاعدة اقتصادية قادرة على تحقيق التخلص من التبعية منبعا ومصبا مدخلات ومخرجات.
وما يقال عن شروط الابداع لسد الحاجات المادية التابع منبعا ومصبا مدخلا ومخرجا يناظره نفس الأمر في شروط الابداع لسد الحاجات الثقافية علما وعملا وذوقا. ومن ثم فما حصل لم يكن هدفه تحقيق شروط السيادة بل تمتين شروط التبعية في كل شيء لكأن الاستعمار كلف النخب النافذة بتحقق ما عجز عنه.
وطبعا فالاستعمار يريدهم تابعين ولن يلحقهم بدولته لأنه -كما قال الجنرال دو جول لتبرير الخروج من الجزائر-هل تريدون أن تصبح بلدتي توصف “بذات المسجدين” بدلا من ذات “الكنيستين” رغم أن النخب لو سمح لها بذلك لقبلت أن تكتفي بالكنيستين واستغنت عن المسجدين.
وحتى لا يكون كلامي مجرد كلام فلأحدد القصد بالمشروع الكبير الذي يمكن أن يحقق الاستراتيجية المضاعفة التي تحقق الصبر على التضحيات بفضل الانتظار الطموح للمنجزات الكبرى. ففي تونس اثنان وعشرون ولاية يمكن لكل ولاية أن تختص في مشروع كبير يحقق ما يغني تونس عن التسول في الرعاية والحماية فتكون سيدة.
وإذا وجد المشروع الطموح الذي يلهم حماسة الشعب فإن أهل كل ولاية يمكن للموسر منهم أن يستثمر في ذلك المشروع الذي تجمع عليه الولاية لحل مشاكلها بجهد أبنائها مناصفة مع الدولة التي كان يمكن أن تفعل لو لم تتوهم أنها يمكن بشراء الخردة أن تنجح في التصدي لثمرة اليأس وقد فشلت فيه أمريكا.
وقد كتبت رسالة في الشأن للأستاذ الصيد الوزير الاول السابق وأرسلتها له عن طريق الشيخ مورو ناصحا بأن محاولة التصدي بالسلاح للإرهاب وإن كان بعضها ضروريا فتخصيص جزء كبير من الميزانية الضعيفة أصلا لهذا الغرض خطأ استراتيجي: مشروعات في الولايات أكثر فاعلية مما يسمى حربا على الإرهاب.
صحيح أن هذه الاستراتيجية تقتضي تغيير النظام التربوي وثقافة العمل وثقافة النقابات وكل ذلك ممكن إذا كانت المشروعات طموحة من جنس المشروعات التي أقدمت عليها كل الشعوب التي قررت الإقلاع بالإبداع والخيال الطموح: جنوب شرق آسيا قبلهم من نكبوا في الحروب.
ويكذب من لا يعتبر عهد الاستبداد والفساد في بلاد العرب أقل أثر تهديمي من الحروب: فهي ليست حروبا فحسب بل هي نهب نسقي لكل ثروات البلاد وخاصة تهديم نسقي للإنسان حتى وصلنا إلى ما وصفه ابن خلدون بـ”فساد معاني الإنسانية” إذ إن الجميع نكص إلى التاريخ الطبيعي: “حوت ياكل حوت وقليل الجهد يموت”.
والنهب النسقي نوعان: الفساد والسرقات وتهريب الأموال وفتح الأسواق لاقتصاد المافيات الموازي وإثقال الدولة وكل مؤسساتها وشركاتها الوطنية بما يعتبر بطالة مقنعة لأنه توزيع ثمرات العمل والخدمات على الأقرباء والأصدقاء بدون حسيب ولا رقيب ما يجعله كلها مفلسفة فيكون التعويض مضاعفا.
وهو ما جعل الدولة العربية التي هي محمية وليست دولة لأنها عديمة السيادة “مغيثة” الحجام التي تمتص دم الشعب وترضيه برشوة التعويض لإسكاته-الخليج كان يرشيه بالمكرمات قبل تدني البترول-فتكون المؤسسات السياسة والإدارية والاقتصادية والاجتماعية كلها جاذبة إلى الأدنى لا رافعة إلى الأسمى.
والأمر لا يزال كذلك حتى بعد الثورة بل إن الأفواه التي تريد نفس المعاملة تزايدت ولم يتزايد غيرها لان الكلام على الحريات ليس دليلا على أخلاق الحرية الملازمة للمسؤولية بل هو دليل على عقد ضمني هات مثل ما تأخذ وليست بعضها على بعضنا: طلب نفس المزايا وليس السعي لتحقيق شروط السيادة.
وشروط السيادة ليست أمرا يخص السياسة الداخلية كالتي وصفت فحسب بل لا بد كذلك من توفير شروط التعامل مع الظرف الذي يحدده نظام العالم الجديد: فبعد الحرب الثانية أدركت دول اوروبا التي خاضت حربين عالمتين وخسرت كل مستعمراتها بين الأولى والثانية أنها بحاجة إلى حجم مناسب لعمالقة العالم.
لكن أقزام العرب حكاما ونخبا يريدون أن يكون لكل قبيلة دولة بالاسم هي في الحقيقة محمية حماية ورعاية يوظف فيها المستعمر مافيات الوطن بالنسبة إليها ليس سيادة ولا كرامة ولا حرية بل مزرعة لمن اختارهم المستعمر ليكونوا رعاة لمصالحه على حساب ما تقتضيه مصالح الجماعة التي يتسلطن عليها.
لم يستفد منهم إلا بنوك سويسرا وروبافيكيا ما يعتبرونه ثقافة حداثية لا تتجاوز المزيد من كلفة المحميات على الشعوب: لأن ثقافة الاستيراد والاستهلاك من دون إنتاج هي ثقافة المزيد من التبعية حتى في القوت اليومي. ويكفي أن ترى ما يجري فيما يسمى ببلاد العربية الغنية بالبترول مشرقا ومغربا.
فهم يستوردون كل شيء. فبعد قرن من تكوين الجامعات العربية مازال كل حكام العرب وأغنياؤهم يتعالجون في الخارج وما زالت جامعاتهم لا تفرخ إلا الايديولوجيين والعاطلين فضلا عن كون الدخل الخام لأي بلد عربي لا يكفي لبحث علمي يقاس بمعاييره في البلاد التي تبدع شروط السيادة حماية ورعاية.
ولفرط الكذب على ألسنة المتكلمين على الوطنية والدولة الوطنية صرت أكثر الناس كرها لهذه المفهومين الزائفين: فلكأن الألماني الذي يؤمن بالمواطنة الألمانية والمواطنية الأوروبية أقل وطنية من خونة الحكام العرب ونخبهم المطبلة عندما يتهمون كل من يفكر في تجاوز القطرة بخيانة الوطن.
فصار اكبر الخونة للأوطان-لا معنى لوطن بلا سيادة لوطن صار محمية للمافيات الداخلية الخادمة للمافيات الخارجية-يدعي أن الكلام على الأمة فيه نفي للولاء للقطر والكلام على تجمع وتكامل اقليمي مغربيا كان أو مشرقيا أو حتى جامعا للجناحين فيه خيانة للقطر: وتلك علة ثرثرتهم حول أنماط المجتمع.
ومن عجائب الدهر أن جل المتكلمين على نمط المجتمع التونسي من أبناء الريف الذين “تحدثوا” بارتياد المقاهي والحانات ثم صاروا “سينسترا” ليس بالإيطالية بل بالفرنسية بعد حذف الالف يدعون عالمية اشتراكية ويتهمون من يتكلم على تجاوز التونسة إلى مجالها الحضاري الكلي بعدم الولاء لتونس.
وينسون حقيقة تاريخية لا تكذب وهي أن تونس العزيزة على قلبي ليست تونس التي كلما التفتت إلى الغرب صارت مستعمرة تابعة بل تونس التي جعلها التفاتها إلى الشرق عاصمة عالمية كقرطاج منافسة روما وكدولة الإسلام الأولى منافسة بيزنطة في المغرب والأندلس والثانية مقاومة حرب الاسترداد.
كذبة الأمة التونسية والأمة الجزائرية إلخ.. أصبحت من أدوات توطيد التبعية ثم إن صاحب المتبوع لم يعد يكتفي بذلك بل يريد أن يفتت الجزائر والمغرب وحتى تونس لأنه يريد حجما أصغر حتى تكون التبعية أكبر. وبذلك فهو مع النخب الخائنة حقا للأوطان يريد محميات عرقية وقبلية لتيسير الاستعباد.
خرافة نمط المجتمع نفي للتعددية الثقافية وصدام حضارات داخلي مع إحياء النعرات الجهوية والعرقية والثقافية التي لا يراد بها تحرير الإنسان بل الهدف هو تعميق التبعية حتى يمتنع على بلادنا ما يحقق به الغرب الاوروبي استعادة دوره الكوني وإعادة الاستحواذ المباشر على ما أخرجه أجدادنا منه.
ولو كان بين أجدادنا مثل هذه النخب التي تتصور التبعية يمكن أن تنتج حداثة لكانوا جميعا في منظورهم “إرهابيين” لأنهم قاوموا الاستعمار وأخرجوه مدحورا. كل من يقاوم للتحرر داخليا وللتحرير خارجيا يتهمونه بالإرهاب لأنهم يخترقون المقاومة بإرهاب اصطناعي لتشويه كل إرادة تحرر وتحرير.