هشاشة تونس، ما علتها؟ وكيف نعالجها؟ – الفصل الثاني

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله هشاشة تونس

ما الذي أقصده بفقدان الثورة للاستراتيجية والقيادة والخيال الثورية ثلاثتها؟

ليس في كلامي هذا استنقاصا لقيادات الحزبين الاكبرين. فالأمر لا يتعلق بقيادة حزب في ظرف عادي يكفي فيه نيل رضا الجمهور في حالة مستقرة-وتلك وظيفة الحزب بالمعنى الحديث-بل بقيادة ثورة في حالة عدم الاستقرار.

فالفرق بين الحالتين كالفرق بين الملاحة في بحر هادئ الأمواج والملاحة في بحر متلاطمها. فإذا أضفنا إلى ذلك أن مفهوم الحزب نفسه لم يستقر بعد في  بلادنا تبين أن الأمر عسير مرتين: بحسب الظرف وبحسب التقاليد. فالحزبان الأكبران يغلب عليهما التضايف بين من حكم ومن عارض في العهدين السابقين.

وفضلا عن كون الحزبين لم يقد أولهما حكما سويا والثاني لم يقد معارضة سوية في دولة مستقرة ذات قيام مستقل عن الحزب الحاكم وصراعه للاستبداد بالأمر ومنع أي حياة سياسية يجعلهما من باب أولى اقل قدرة على قيادة حكم ومعارضة في ظرف يصبح بعد لمن بيده قوة الدولة ولاء مستقل عن الصراعات الحزبية.

ومعنى ذلك أن فكرة الدولة المستقلة عن الصراعات السياسية تعني أنها بما يمثلها من مؤسسات تعتبر فوق الصراعات السياسية. وشرط ذلك وجود أرضية مشتركة هي التعاقد الذي يجعل التعايش بين القوى السياسية محكوما بالولاء للجماعة بصرف النظر عن تحزباتها السياسية وعقائدها المذهبية.

والقصد بهذه المؤسسات هو أولا مؤسسات الحماية (وهي خمسة). والأولى تنقسم إلى الحماية الداخلية أي القضاء والأمن وإلى الحماية الخارجية أي الدبلوماسية والدفاع وأصلها جميعا هو نظام الاستعلامات والإعلام السياسيين اللذين يقودان الدولة في خدمة هذه الوظائف لتحقيق الحمايتين في خدمة الجماعة.

فأن تصبح الدولة بل ووحدة الجماعة نفسها خاضعتين للمزاج السياسي عامة وخاصة لنزاع المراهقين من المعارضات الهامشية التي يسهل توظيف الاعداء لها في عملية التهديم وإن تنكرت بثورية كلامية مفرطة أو أعلنت صراحة عداوتها لها فهذا من مصاعب المرحلة التي وصفتها بتلاطم الأمواج.

والأخطر من إشكالية وظائف الحماية الخمس هو إشكالية وظائف الرعاية الخمس: فالتربية النظامية (في النظام المدرسي) والتربية الاجتماعية (في كل الأنشطة الاجتماعية) تكوينا والانتاج المادي (الاقتصاد) والانتاج الرمزي (الثقافة) تموينا وأصلها جميعا أي البحث والإعلام العلميين كله تأدلج وصار عقيما.

فلم تتعطل مؤسسات وظائف الحماية وحدها بل وكذلك مؤسسات وظائف الرعاية: فأصبحت الدولة ككيان يسميه ابن خلدون صورة العمران كسيحة ومشلولة ولا يمكن للثورة أن تنجح ما لم تعالج هذا الكساح والشلل الذي يشبه حالة الاحتضار الذي يسري في بدن جماعة صارت خاضعة للصراع من أجل العيش.

فإذا أضفت إلى ذلك ثقافة النقابات الفرنسية وثقافة العلمانية اليعقوبية المسيطرة على النخب التي بيدها الحل والعقد في الدولة العميقة مع عقلية الاقطاعيات المافيوية في الوظائف العشر التي ذكرت بات بينا أن الجماعة في خطر تأييد رأي بورقيبة الذي يزعم أن تونس تستمد وحدتها منه لأنها “بوسيار”.

ولأمر الآن إلى ما أقصده بانعدام الاستراتيجية والخيال الثوريين: كيف نسد الحاجتين اللتين تتولدان عما وصفت من أحوال الوضع في الجماعة مادة للدولة وفي الدولة صورة للجماعة بلغة ابن خلدون:

  1. استراتيجية لتصبير شباب الثورة وتحمل التضحيات الضرورية.

  2. استراتيجية المشرع الاستئنافي الأكبر.

فما يحدث في الوضع الثوري مهما كان أصحابه متفائلين وبمعنويات عالية لا يختلف كثيرا عن حيث الوضع المادي عمن خرج من حرب قضت على الكثير من شروط الحياة العادية والمستقرة. ذلك أن الثورة المضادة تستعمل سياسة الارض المحروقة فلا تبقي ولا تذر حتى توقف التاريخ وتخيف الشعب.

ما سميته فقدان الخيال الثوري هو بقاء الثورة بعد سبع سنين في محاولات تصبير الشباب بحلول رعوانية أدت إلى غرق البلاد في الديون دون أدنى تقدم في تحقيق هذا الغاية الاولى. ولا وجود لمشروع كبير يمكن أن يغذي طموح الشباب فضلا عن أن يساعد في “دوزة” الصبر والتضحية من أجل أهداف الثورة.

ولعل من علامات السخافة حلول مثل البستنة واغراق الإدارة والشركات الوطنية بالبطالة المقنعة أعني التنكر لكل قوانين الفاعلية الاقتصادية وتحويل كل شيء إلى “تكية” لعلاج مؤقت للمسألة الاجتماعية وهو حل يؤدي إلى الغرق التام: والدولة الحاضنة تصبح محمية بلا سيادة متسولة في الحماية والرعاية.

تخيل المشروع الكبير الذي يحقق الاقلاع تحقيقه للصبر على التضحيات يمكن أن يستمد من سلوك الشعوب التي افقدتها الحرب كل شيء كما تفقد الثورة المضادة الثورة كل شيء -حرب أهلية-: يكفي أن نرى ما فعلت ألمانيا بعد الحرب الأولى ثم بعد الحرب الثانية حتى نحدد المقصود بالمشروع الكبير.

ودور الخيال هنا مضاعف: فهو أولا يبدع المشروع المحقق للإقلاع المادي وهو ثانيا يبدع الفكرة المحققة للطموح الجماعي الذي يجعل الجميع في خدمة ما يشعر أنه يتجاوز الدنايا إلى المتعاليات وهي شرط كل استئناف حضاري للأمم العظيمة: نوع من الروح الجماعية للبناء الجدير بالتضحية.

لو كنت أعلم أن رئيس الدولة لما دعاني لم يكن له نية الكلام فيما يمكن أن يؤهله لأن يمثل حقا مرحلة فارقة قد تكفر عن ماضيه ومشاركته في النظامين السابقين لما قبلت الدعوة توسمت الخير فعبرت عن شروط العظمة في التاريخ: مشروعات كبرى تحيي في شبابها طموح العظمة بدل تفاهات المناورة السياسية.

لكن الأيام أكدت لي أن الصغير يبقى صغيرا حتى لو احتل أعلى الرتب في نظام سياسي عديم الطموح المتعالي ومقصور الهم على الحياة النباتية ظنا أن الحداثة خالية مما يتعالى على التاريخ الطبيعي للحيوان الإنساني للجهل بأن شعارها الديكارتي هو أن الإنسان “سيد ومالك للطبيعة” أي دينيا “خليفة”.

لست أدري ما “طعم” أن تكون رئيس محمية متسولة في الحماية والرعاية أو وزيرا أو رئيس وزراء في محمية عمقها الحقيقي هو مافيات محلية لا حول لها ولا قوة إلا على شعبها لأنها مأمورة من مافيات أجنبية تتصارع على تنافسات سياسية حمقاء لا يمكن أن تحقق شروط السيادة حماية ورعاية.

كلما حاولت أن أفهم معنى النخبة في بلاد العرب وجدت أن “الساسة” همهم الحكم لا خدمة الجماعة وأن “العلماء” همهم الألقاب لا سد حاجات الجماعة وأن “الاقتصاديين” همهم سلب البلاد لا أثراؤها وأن “الفنانين” همهم اللهو لا ترقية الذوق وأن “أصحاب الرؤية الوجودية” يتصورون الحداثة قشور الاستهلاك.

لا وجود لما يتعالى على الحياة البهيمية: الحضارات لا يبنيها المخلدون إلى الارض بل من طموحهم يشرئب إلى السماء وأصولهم ثابتة في أعماق أحياز وجودهم مكانه وثمرته المادية وزمانه وثمرته الرمزية مع مرجعية تولي للإنسان رسالة كونية وتحرره منه الوسطاء والأوصياء.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي