هشاشة تونس، ما علتها؟ وكيف نعالجها؟ – الفصل الأول

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله هشاشة تونس

أمسكت عن الكلام طيلة الازمة التي مرت بها تونس في محاولة البعض محاكاة الاسبوع الاخير من ايام الثورة ولكن باستراتيجية الثورة المضادة. والفرق بين الأصل والمحاكاة أن هذه كانت تطبيقا لخطة هدفها وأد تلك التي كانت مسعى عفويا ليس له استراتيجية ثورية فضلا عن القيادة والخيال الثوريين.

وهذا الفرق هو الذي جعلني امسك عن الكلام ليس انتظارا للمآل لأني كنت شبه متأكد من أن الذين ارادوا الاستفادة من الاحتجاجات أخطأوا الحساب وظنوا أن اختراقهم لبعض الأحزاب والحركات المعارضة وصل المرحلة الحرجة التي اعتمدوها في مصر لإلغاء حصيلة الثورة الهشة.

والفرق الذي حددته بين عفوية الثورة وتخطيط الثورة المضادة من المفارقات التي عليها شرحها قبل ان أبدي رأيي في علل ما يجري علله التي لها صلة بالاستراتيجية والقيادة والخيال ذات النفس الثوري ثلاثتها ففشل الثورة المضادة في تونس كان بألطاف إلهية وليس للحاكمين فيه دور فاعل يذكر فيشكر.

ويمكن الجزم بأن الحزبين الحاكمين لولا ألطاف الله لم يكونا مستعدين ولا قادرين على منع ما كانت الثورة المضادة (ضد التحرر) والاستعمار غير المباشر (ضد التحرير) يخططان له من كرة ثانية لنظير ما لـ7 نوفمبر في تونس ولو بكلفة سلكت فيلسوفة الجماعة بمقبوليتها ولعلها ما أعلن عنها رز الفاكهة.

وما حال دون هذا المخطط ثلاثة عوامل:

  1. استهداف النهضة وما بقي من النداء مع الرئيس في آن

  2. شعور الاتحاد العام التونسي للشغل أن متطرفي اليسار والقوميين “يلعبون بشروط بقائه” فهو يعيش بحلب الدولة فإذا سقطت لم يبق له مورد رزق

  3. سلامة جهازي القوة الشرعية إلى حد معقول من سلطان المافية

فاستهداف ما بقي من النداء مع النهضة دليل انتقام الثورة المضادة من عدم قبوله الانخراط في النموذج المصري. وفهم الاتحاد هذه الحقيقة علتها ما عليه الوضع الاقتصادي الذي لم يعد يخفى عن ذي بصيرة. وسلامة اجهزة القوة الشرعية للدولة من سلطان المافية بقيت عصية على التوظيف الإنقلابي.

ولأقل بصراحة أن ما بقي من النداء الذي أصبح يعامل وكأنه حليف النهضة وهو ليس كذلك. فالرئيس غير غافل على أن ما فشل فيه بورقيبة وابن علي لا ينبغي تكراره ثالثة خاصة وسنه لا يسمح له بمغامرات قد تطول فتفسد عليه عهده: تغيير البنية الثقافية للشعب التونسي بعنف الدولة المزعومة حديثة.

لكن ما كل مرة تسلم الجرة: لذلك فلا بد من محاولة فهم علل الهشاشة التي عليها الوضع في تونس التي هي التجربة الوحيدة في الربيع العربي التي ما تزال صادمة بدلالة إيجابية للصمود. وقصدي أن الثورة صامدة حيثما حصلت ولكن بدلالة سلبية. فهي تقاوم ولم تهزم وإن لم تشرع في بناء البديل المنشود

وهذا الوضع في الأقطار العربية الاخرى التي حصلت فيها الثورة هو الذي يجعل تونس بين بين: فهي تجاوزت الحرب الاهلية التي فرضت على هذه الأقطار وهدف الثورة المضادة إيقاعها فيها بكل الوسائل. والعجز عن توظيف قوة الدولة الشرعية كما في مصر وسوريا وحتى اليمن ألجأها إلى المافية والأحزاب الهامشية.

وليس لهذه الخطة من نجاعة إلّا بقدر ما يوجد لدى ما بقي من النداء قابلا بالتوافق مترددا باستعمال مفهوم غامض للتنافس الانتخابي وكأنه مناف للتحالف من اجل استراتيجية ولو مؤقتة لإخراج تونس مما يتهددها من خطر الثورة المضادة والحرب على دور الامة التاريخي وتطرفي التحديث والتأصيل.

وذلك ما كنت أقصده منذ اليوم الاول من الحملة الانتخابية الأولى بعد الثورة في سيدي بوزيد عندما أشرت إلى ضرورة الحلف بين فرعي حزب حرب التحرير بالتقريب بين البعد التأصيل (الثعالبي) والبعد التحديثي (بورقيبة) لتمكين تونس من تحقيق شروط الحرية والكرامة والاستقلال الحضاري والسياسي.

لكن ما يجري حصل بين وريثين لهذين الفرعين لم يبق لأي منهما دلالة ما كان عليه موروثهما: فلا النداء حافظ على جوهر البورقيبية ولا النهضة على جوهر الثعالبية. كلاهما فرض على الثاني ما ينتج عن تقديم العاجل السياسي التكتيكي على الآجل السياسي الاستراتيجي. والعلة تنتسب إلى الظرفيات أساسا.

فعندي أنه لا غبار على مشروع بورقيبة ومشروع الثعالبي أي التحديث والتأصيل وإنما المشكل في نموذجيهما: فالأول يخلط بين الحداثة وشكلها الاستعماري أي مهمة التحضير العنيفة المحاربة لثقافة الانديجان. الثعالبي يخلط بين التأصيل المبدع واستعادة ماض لم يتطور بذاته ليبدع حداثته.

حداثة غير حرية تعبير وديموقراطية حكم من المفارقات. وإسلام غير معتمد على الحرية الروحية (لا وساطة بين الإنسان وضميره) وعلى الحرية السياسية (لا وصاية من جنس الفرق الدينية) من المفارقات. فذلك فكلا الحزبين الحاكمين لم يتحالفا على تحقيق برنامج مشترك بل هما يتساندان لحكم دون برنامج.

والأحرى أن أقول ببرنامجين كلاهما يستعد للاستغناء عن الآخر إن سنحت الفرصة: لم يفهم الحزبان أن تونس بحاجة إلى مصالحة بين التأصيل والتحديث باستراتيجية هدفها تثبيت الأوضاع لنتفرغ إلى تحقيق المناعة ضد ما يراد لنا من صدام الحضارات الداخلي والعناية بشروط السيادة: الحماية والرعاية.

وما يحول دون المناعة من الصدام الحضاري الداخلي هو نوعا الإرهاب باسم التحديث أو اليسار الفاقد للوعي بشروط قيام الأمم الروحية واليمين الفاقد للوعي بشروط قيام الأمم المادية: العرب يعانون من ارهابين:

  1. يحارب ماضي الأمة بفهم خاطي للمستقبل.

  2. يحارب مستقبل الامة بفهم خاطئ للماضي.

وشروط السيادة أي الحماية والرعاية هما المنشود المشترك لكل من يؤمن بأن رهان المستقبل لا يتحقق بالقطيعة مع رهانات الماضي التي حددت جغرافيا وتاريخيا دور الأمة في تاريخ الإنسانية كله منذ نزول القرآن بل وحتى قبل ذلك في علاقة بحضارتي الأبيض المتوسط العقلية النقلية منذ آلاف السنين.

وإذا اقتصرنا على ما ولي نشأة الحضارة الاسلامية فإن الأوان قد آن لتجاوز ما بين الضفتين الشمالية والجنوبية للأبيض المتوسط من حروب سجال انتهت إلى أن أصحبت كل شعوبه توابع بعد أن سقطت امبراطوريات الغرب الأوسط بعد الحرب الثانية فأصبح مستعمرا مثلنا للغرب الأقصى (أمريكا وروسيا).

وما ينبغي أن يجمع بين الأصالة والحداثة هو المشترك بين الغرب الأدنى (أوروبا) والشرق الادنى (نحن) أو قلب المعمورة بين العملاقين الحاليين: الغرب الأقصى (أمريكا)والشرق الأقصى (الصين): أي الفلسفات التقليدية والأديان السماوية وما نتج عن تفاعلهما من حضارة روحية ومادية أصيلة وحديثة في آن.

وإذا تخلصنا من قشور الأصالة ومن قشور الحداثة وجدنا أن اللب واحد: فلا أحد من العلمانيين يمكن أن يدعي أنه أكثر جمعا في تراثه الحضاري للعاملين المادي والروحي في تراث الإقليم من أي أحد من الإسلاميين والعكس بالعكس ومن ثم فالاستثناء المتبادل دليل جهل وغباء لا غير.

صدام الحضارات الخارجي كذبة في وصف العلاقة بين الغرب الأدنى والشرق الأدنى تسليما بصحته في المقابلة بين الغرب الاقصى والشرق الاقصى. وهو أكثر كذبا عندما يكون داخليا في أي بلد عربي أو أوروبي. فالقيم الكلية واحدة في الحضارتين إلا في حالة انحطاطهما والاستعمار حالة منه.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي