نفي الحاجة إلى الأحزاب تعويض للديموقراطية بشمولية الفاشية والاستبداد

ه

أبدأ هذه المحاولة بإعلان مبدئي:
إذا لم ينف الرئيس ما يتردد من كلام على رؤيته للدولة والسياسة والقوى السياسية أي الاستغناء عنها وعن شكلها الحزبي فإني اعتبر

  1. تونس في خطر داهم لا يقدر
  2. وتجربة الانتقال الديموقراطي قد تنتكس
  3. والثورة التي بدأت تحقق نوعا من المصالحة قد ترتد إلى ما بدايات الثورة
  4. وهو ما يمكن لا قدر الله أن يؤول إلى ما كان على شفا حرب أهلية بين التونسيين.
  5. وكل ذلك لأن السلطة ستصبح في يد حكم فاشي وشمولي ينفي أساس كل حياة ديموقراطية أعني تنافس الأحزاب على إنابة الشعب لهم في رعاية شأنه العام بالاجتهاد الإنساني كما يقول ابن خلدون.

وكل ذلك باسم مغالاة صبيانية لا تليق برجل دولة وخاصة إذا كان له السلطة الأعلى على الأقل رمزيا فيها.
فما يتردد بكثرة خبر- وآمل أن يكون مجرد إشاعة – ينسب إلى الرئيس فكرتين تبدوان لي غريبتين خاصة وهما صادرتان عمن يقدم بوصفه مختصا في القانون الدستوري وطبيعي ممن له علم بالفلسفة السياسية وشروط الأنظمة الديموقراطية:

  1. فهو بحسب هذا الخبر الإشاعة يعتبر سياسة الدول غنية عن الأحزاب أي عن القوى السياسية بالمعنى الحديث للكلمة.
    وكل من يزعم أنه يوجد ما هو أفضل من تعددية المؤسسات الحزبية لا يختلف عمن يزعم وجود ما هو أفضل من التعددية التي تنبني عليها الديموقراطية على ما فيها من عيوب.
    وفي الحقيقة فإن القول باستغناء السياسة عن الأحزاب توصيف خاطئ. فالقصد ليس نفي الحزبية نظاما للقوة السياسية بل هو نفي لتعدد القوى السياسية وليس وجودها. وضمير هذه الرؤية هو ما سيعوضها أعني الحزب الواحد ذي السلطة الفاشية الشمولية.
    إذ لا بد أن يكون للدولة مهما تعددت جزيئاتها القاعدية بدائل من الأحزاب سلطة مركزية سواء كانت علمانية حاكمة دون معارضة مثل الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي سابقا أو سلطة دينية حاكمة دون معارضة للحزب مثل الحزب الثيوقراطي حاليا في إيران حيث يخضع الحكم إلى القول بالحق الإلهي للأسرة المختارة أو المصطفاة ومن ينوبهم إلى أن يحضر الإمام المعصوم (آل البيت).
    وهما يشتركان في القول بملكية الحقيقة المطلقة سواء كانت ما يزعم منها ذا أساس فلسفي في دعوى علمية للمادية الجدلية أو ما يزعم منها ذا أساس دنيي في دعوى لدنية علم الأسرة المقدسة.

  2. وهو ينوي إعادة هندسة الدولة ونظام الحكم من تحت إلى فوق بمعنى الديموقراطية المباشرة التي يوجد فوقها هذا السلطان الوحيد الذي يراقبها إما باسم وهم العلم المادي الجدلي أو باسم وهم العلم اللدني الوصية للأسرة المقدسة.
    ويستطيع هذا النظام المتفرد بالحكم والمانع لكل معارضة إما لأنها إيديولوجيا في الزعم الماركسي أو لأنها كفر في الزعم الشيعي عزل من يشاء بتقييم مطلق للنجاح والفشل في التمثيل القاعدي
    وهو ما يعني بلغة ضمنية نفي الدولة بالمزج بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي أو على الأقل بإزالة المسافة بينهما بصورة تجعل الثاني حكما بين خلافات الأول في الجماعة الصغرى بالقياس إلى الدولة ككل.
    وفيه بنحو ما تأسيس للدولة الحاضنة التي يصبح فيها المواطنون عبيد للنمكلاتورا سواء كانت ماركسية أو شيعية.
    وبذلك فنحن أمام سعي إلى تركيز فاشية وهي مضاعفة لأن أصحاب الخبر أو الشائعة يزعمون أنها جامعة بين الرؤيتين الماركسية والدينية جمع الحالة بين منظرين هما الرئيس ورفيقه الذي أسمعه بين الفينة والأخرى يصرح بما لا أدري بأي حق يتكلم باسم الرئيس علما وان الرئيس
    لم ينف عليه هذا الحق المحير
    ولم يحل دونه وزعم دور الاستراتيجي الذي ينوي هندسة هذا القلب للدولة رأسا على عقب.
    وقد كان آخر ما قال إن أوان المرور إلى إصلاح الدولة لم يحن بعد وقته.

فإذا صح الخبر ويبدو انه ليس إشاعة – إذ لم يصدر تكذيب من الرئيس نفسه وليس من الناطقين باسمه دون صفة رسمية ودون نفي منه لحقهم في النطق باسمه – كان ذلك أمرا يثبت ما افترضته لطبيعة نجاحه في الانتخابات والذي ليس له ما يفسره بمنطق الديموقراطية التي لا تقبل النجاح بنسب بهذا المستوى حتى لذوي الخبرة في مجال له بها علاقة جوهرية بإدارة الدول ما لم يكن في الأمر سرا.

وقد حاولت افتراض تفسير له اعتمادا على قرائن مستمدة مما يجري في الإقليم دور إيران وإسرائيل
والثورة المضادة العربية بصنفيها التابع للأولى والتابع للثانية
ودور المافية الروسية في العالم اعتمادا على مثال انجاح ترومب غير المتوقع رغم ما نعلم من مستوى المخابرات والتقدم التقني فيها.

والآن أريد أن أجيب عن السؤالين اللذين يترتبان على هذين الموقفين من الأحزاب ومن الديموقراطية المباشرة.

الجواب عن السؤال الأول

هل يمكن تصور سياسة من دون قوى سياسية متعددة سواء كانت في شكل أحزاب أو في ما يشببها قبل الشكل الحزبي الذي كان في أغلبه الشكل الأول من العصبيات بمعانيها الخمسة التي أشار إليها ابن خلدون في المقدمة بعضها صراحة وبعضها ضمنا أعني:

  1. عصبية القبيلة مع تعددها وتداولها إما سلما أو حربا. وهذا هو الغالب على المجتمعات العربية في الخليج إذ فيها تعوض القبائل الأحزاب في دور القوى السياسية ولا تخلو من تعدد ومعارضة حتى وإن كانت صامتة.
  2. أو عصبية الولاءات مع تعددها وتداولها إما سلما أو حربا. وهذا هو الغالب على المجتمعات العربية في الجمهوريات العسكرية التي تعتمد على الولاء والانضباط العسكري والطبقات المحظوظة مرحلة بين القبائل التي لم يعد لها وزن وبين الأحزاب التي لم يصبح له بعد ذا وزن.
  3. أو عصبية الأقوام التي فيها عودة إلى عصبية تجمع القبائل مع التوسيع وتداولها إما سلما أو حربا. وهذا ما حدث خاصة في الدولة العباسية التي حاول هارون الرشيد فيها العودة إلى الشعوبية لعل ذلك يحرره من هيمنة البرامكة وفشل كما يثبت ذلك التاريخ لأن عصبية العرب كانت قد تلاشت بسبب الحروب الاهلية والكيفية التي افنيت بها الدولة الأموية.
  4. عصبية الأديان أو المذاهب أو الطوائف وتداولها إما سلما أو حربا. وهي الحالة التي كانت غالبة على الدويلات أو السلطنات التي تكونت بعد أن ضعفت الخلافة ولم يبق لها إلا السلطة الرمزية التي لا تتجاوز التبرك الديني والوظائف التعبدية والأوقاف والقضاء والافتاء خاصة بسب دور التشريع السماوي والفقه.
  5. العصبية التي فيها شيء من ذلك كله. لكنها في تيارات دينية وعلمية في الجماعة التي تنتسب إلى حضارة واحدة متسالمة لاقتصار تناقضاتها على الأقوال في النظر والعمل. وهو ما استقرت عليه الخلافة فصارت ذات رأسين رمزي ديني وتمثله الخلافة وفعلي سياسي وتمثله السلطة.

وهي قد تكون مجال غزو من حضارات أخرى وخاصة من تجمعات قبلية بدائية كما حدث في الهجوم الصليبي أو المغولي على الخلافة.
وتكون القوى السياسية فيها جامعة لأبعاض من الأصناف الأربعة السابقة في شكل يشبه الأحزاب الأسمى من القبلية ومن الولاء ومن القوم ومن المذهب لتشمل حضارة كاملة.
وهذا هو الشكل الأخير من العصبيات.
وكلها قوى سياسية متعددة فيها التي تحكم بالفعل وفيها التي تعارض لكأنها تحكم بالقوة.
وهذا الشكل هو الأحدث حاليا في العالم كله وإن بأشكال مختلفة لكنها متقاربة. وجلها معلمن في شكل تجمعات مصلحيها ودجيواسترايتجية لها قرابة حضارية في الغالب (مثل الولايات المتحدة أو أوربا) ويعتبر ابن خلدون هذا الشكل الأخير مستغنيا عن العصبية بالمعاني الأربعة الأولى ومكتفيا بالشرعية التاريخية لنظام الحكم ونظام التداول عليه.

وهو يفسر بهذا الشكل العام بقاء الدول الكبرى أو الامبراطوريات أضعاف سن الدولة العادية التي تتداول عليها الأسر الحاكمة والتي لا يتجاوز عمرها الأجيال الأربعة التي يعتبرها محددة لعمر الدول أي 120 سنة (مثل الخلافة العباسية).
وفي هذه الحالة يوجد نظامان:

  1. نظام ذو سلطة يمثل الشرعية رمزية مثل الخلافة السنية التي تختلف جوهريا عن الإمامة الشيعية لأن الخليفة لا يحكم بالحق الإلهي والوصية.
  2. ونظام ذو سلطة فعلية مثل السلطة أو الولاية وهو يمثل بالشوكة بمعنى القوة التي تحتاج إلى التغطية بالولاء الرمزي للخلافة.

فتكون الدولة الكبرى امبراطورية في شكل يراوح بين الفدرالية والكنفدرالية التي يوحدها الرمز وغياب الحدود التي تحول دون المواطنين من الشعوب المنتسبة والحركة في كل الدولة الإمبراطورية بمعنى أن حدود السلطنات لا تحول دون تنقل البشر والعمل ورأس المال مع وحدة الثقافة الدينية والعلمية الأعلى من الثقافات القومية في المجالات الأدنى منهما.

وفي كل هذه الحالات فلا بد من تعدد القوى السياسية – وشكلها الحديث هو الأحزاب – لأنه شرط التداول سلميا كان أو حربيا.
والتعدد الداخلي مثله مثل التعدد الخارجي بين الدول المتساوقة أو المتوالية هما علة ما يجري من تغير في الجغرافيا السياسية العالمية وفي القوى السياسية الداخلية.

الجواب عن السؤال الثاني

كل محاولة لفرض نظام الحزب الواحد يرد الدولة إلى فئة من الجماعة.
فتكون في الغالب مافية حزب فاشي علماني او ديني ومافية حزب إيديولوجي عقدي مثل الماركسية والثيوقراطيا.
وحتى إيران فإنها حاولت الجمع بين هذا النظام الذي هو نظام الحزب الواحد الفاشي والشمولي بالأسلوب الثيوقراطي للولي الفقيه الذي لم يلغ الأحزاب حتى وإن حصر دورها في الديموقراطية الشكلية للحكومة التي تبقى خاضعة لامتحان سلطة الولي الفقيه في اختيار من يترشح للمسؤولية فيها رغم أن دورها لا يتجاوز الوظائف الخدماتية والسياسي فيها واجهة تخادع الشعب في الداخل وذات وظيفة دبلوماسية تخادع العالم وهي تطبق حرفيا سياسة الدولة الثيوقراطية.
وما كان ذلك ليكون كذلك لو لم تكن أداتا السلطة بيد هذه المافية الجامعة بين الديني أو الحكم باسم الله حكرا على ممثلي الأسرة المختارة – مثل الشعب المختار عند اليهود – والاقتصادي إذ إن الثروة تخضع لسلطة الولي الفقيه.
ويوحد بين هذين السلطانين القوة المليشياوية التي تسمى الحرس الثوري وغيره من التنظيمات المليشاوية التي عمموها على العراق وسوريا ولبنان واليمن ويسعون إلى نشر مثيلاتها في كل بلاد الإسلام.
ولعل ما يجري حاليا في تونس هو بداية لها ما وراءها.
وهي إذن دكتاتورية مطلقة تحكم ببعدي العجل:
معدنه (السيطرة على ثروة الشعب)
وخواره (والسيطرة على عقيدة الشعب).

أعتقد أن الخبر في هذه الحالة إذا جمعنا بين جزئيه يجعلنا ذاهبين إلى نفس النظام الإيراني حيث الحاكم الفعلي هو الولي الفقيه مع شعب تحول إلى مليشيات تحمي نظامه وتخضع لماله وخواره أعني لبعدي العجل الذهبي ما يعني أن تونس يهددها خطر داهم قد يلغي كل الخطوات التي قطعناها في تأسيس ديموقراطية ما تزال هشة.

وبالرغم من ذلك فليست يائسا إذ لتونس رب يحميها وشعب لم يعد غافلا فينطلي عليه خوار العجل أو معدنه.
لكن المشروع إذا لم ينفه الرئيس فهو لعمري نفي مطلق لمعنى الديموقراطية ولشرطها أعني تعدد القوى السياسية أو الأحزاب.

وقد يكون لسكوته ما يعلل سعي حلفاء أصحاب الممانعة الكاذبة وعبيد إيران في تونس إلى تعطيل المسار الحالي من القرائن التي قد تفيد ما يمكن أن يعتبر تواطؤا لعل ترجمته هي خرافة حكومة الرئيس.
وطبعا ليس القصد المرحلة الثانية من التكليف في حالة فشل المرحلة الأولى لأنها حينها لا تسمى حكومة الرئيس بل أمرا آخر أخطر وهو حل البرلمان وإعادة انتخاب أعضائه بنفس الخطة التي أوصلت الرئيس إلى ما حصل في نتائج الدور الثاني أي السيطرة على باردو والقصبة وقرطاج.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي