ه
الفصل الأول
تمهيد:
لما شرعت في قراءة القرآن قراءة فلسفية كان أول مشكل اعترضني تعريف القرآن الكريم من حيث طبيعته -دون الحكم في كونه نصا دينيا أو نصا فلسفيا لأن الوجهين فيه لا ينفصلان وهما جوهر السياسة بمعناها الكوني الذي لا تفصل بين العالم وما بعده وبين النظر والعقد في رؤيته المعرفية لقوانين الطبيعة وبين العمل والشرع في رؤيته القيمية لسنن التاريخ.
فانتهيت إلى اعتباره كما هو بين من عنوان القراءة “استراتيجية التوحيد القرآنية ومنطق السياسة المحمدية” معتبرا القسم الاول من العنوان قسما النظرية الاستراتيجية والقسم الثاني قسم التطبيق الاستراتيجي. والتوحيد هو في آن المعنى الديني (توحيد الله) والمعنى السياسي (توحيد الإنسانية بعبادة الله وحده).
وهذه المحاولة هدفها التدليل على ما تتميز به رؤية القرآن الاستراتيجية ليس بالاعتماد على نص القرآن لأن ذلك قد لا يقنع إلا المؤمنين به وهدفي يتجاوزهم إلى الإنسانية كلها تبعا للغاية من الاستراتيجية القرآنية التامة. وسأعتمد لتحقيق ذلك التحديد الدقيق والسريع بشرط الجمع والمنع لأصناف الاستراتيجيات المستعملة حاليا كما وردت.
وهي كما سيتبين أربعة أصلها هو المرض الذي يعالجه القرآن لتحرير العباد من عبادة العباد الذي هو شعار الفتح التطبيق الحرفي لهذه الاستراتيجية القرآنية.
وقد نسبت المحاولة إلى ابن خلدون لأني اعتبر مقدمته محاولة لبيان هذه الفرضية التي اعتمدها في قراءة القرآن حتى وإن بقيت محاولته في شكل مسودة اعتبر من واجبي في مسعاي لبناء خلدونية محدثة أن اطورها بما يؤسسها وبما يترتب عليها وذلك بقيسها إلى أصناف الاستراتيجية المعلومة حاليا وبيان مصدرها القرآني كما فهم ذلك أحد تلاميذه الذي يرمز إلى النكبتين (الأندلس بدايته مالقة وفلسطين نهايته القدس) وصائغي مضمون المقدمة في شكل مضاعف يتوازى فيه الدليل التاريخي والدليل القرآني في كتابه بدائع السلك في طبائع الملك.
الفصل الأول
أنوي اليوم الكلام على الحرب والاستراتيجيا مع العلم الأكيد الذي يلامس عين اليقين أن ذلك ليس مما يعني العرب حكاما ومعارضين لأن من همهم الدنيا وربهم هواهـم لا يعشقون إلاه. والحروب لا تجري إلا بين الشعوب الحرة أما العيال (ابن خلدون) الذين فسدت فيهم معاني الإنسانية فصاروا أسفل سافلين فيتحاربون في ما بينهم ولا يحاربون من يحاربهم بل يستسلمون له تماما كما وصفهم ابن خلدون في كلامه على «العيال» الذين فسدت فيهم معاني الإنسانية.
كلامي إذن لا يتوجه لمحاربين عرب موجودين حاليا بخلاف ما كان عليه احدادهم وصناع مجدهم. لكنهم منشودون في المستقبل. وكل مستقبل يكاد يصبح حاضرا إذا أحيا ما كان له في الماضي مما يشجعه على الحضور. فـما كان ممكنا مرة يعسر أن يصبح مستحيلا في المستقبل بخلاف رأي من يزعم استحالة دولة الإسلام في المستقبل. لذلك فالكلام يمكن أن يصلح في مرحلتي الدفاع المعد للهجوم في حروب المطاولة.
وأبدأ بدحض خرافة يكثر الجميع تكرارها وهي حرب الأحزاب والخندق التي تجعل نصر المسلمين ثمرة نصيحة جاء بالصدفة من أحد الصحابة. الملحون على أن الخندق فكرة سلمان الفارسي قد يكونوا على حق لكنهم على خطأ في نسبة النصر لهذه الفكرة. قد تكون أسهمت لكنها ليست علة النصر. فالحرب لم يربحها المسلمون بفضل الخندق لأن الخندق كان سهل التجاوز حتى بقفز الخيل أو بملئه بالرمال والماء أيسر من الحفر فضلا عن وضع جذوع النخل لتجاوز الخنادق. ثم هو لم يحط بالمدينة كلها بدليل الخيانة التي حصلت.
ليس قصدي تكذيب القصة بل تكذيب طابعها الحاسم. وهي لا تعنيني إلا بوصفها أفسد مدخل لفهم تاريخ الحروب الإسلامية التي تعرضها المسلسلات وكأن النصر فيها هو دائما ثمرة صدفة لكأن المسلمين كانوا يحاربون كما يحارب عرب اليوم «دزها تخطف» يعني (بالتونسي بالصدفة) أي دون استراتيجية ودون علم بالجغرافيا والشعوب على الأقل.
فهذه النسبة هي التي أخفت سر نجاح الفتح كله أعني الاستراتيجية الحربية التي مكنت شعب شبه بدائي كان مفتتا كحال العرب الآن استطاع أن يتحد وأن يسقط أكبر امبراطوريتين في عصره حتى وإن لم تكونا في أحسن حال. هدفي البحث في الاستراتيجيا الحاسمة التي جعلت المسلمين الاول يحققون في أقل من نصف قرن ما صار يعتبر من المعجزات.
ومرة أخرى فالمنطلق من ابن خلدون -في السعي لمواصلة ما نصح به في خاتمة المقدمة. فقد كتب فصلا مطولا في فن الحرب ورغم أهميته فهو ليس عمدتي في هذه المحاولة. وغالبا ما يتكلم الناس على نظريتين كبريين في الحرب واحدة لفيلسوف ألماني والثانية لفيلسوف صيني وسأضيف نظريتين اخريين في غاية البحث كلتاهما مبنية على دين العجل واحدة للصهيونية والثانية للصهيونية اليهودية المسيحية. ورغم أن الاستراتيجية التي سأتكلم عليها متقدمة عليها جميعا في الزمان فهي أكثر مناسبة للحرب التي تهدف إلى بناء الإنسان وتحريره من الحرب التي تهدم إلى تهديم الإنسان واستعباده.
لكن نظرية ابن خلدون قلما تجد لها ذكرا في الكلام على الاستراتيجية الحربية. ودونها ذكرا استراتيجية القرآن التي طبق بعضها في حروب الفتح. ولا أدعي أن ذلك بسبب الإهمال فحسب بل لأن ابن خلدون هو بدوره كما في كل فصول المقدمة يرمي بالنظريات في شكل مسودات لم يحررها ولم يعد عليها ليضفي عليها الطابع النظري المكتمل الذي يجعلها نظرية بالمعنى العلمي.
وسأعتمد التبسيط قدر الإمكان فأبدأ بتقسيم الحرب بمنطق الفيلسوفين إلى الحرب العنيفة (كلاوس فيتز) والحرب اللطيفة (سن تسو) علما وأن كليهما يستعمل النوعين لكن الألماني غالب كلامه على العنيفة والصيني على اللطيفة حتى لا يكاد الأول يهتم باللطيفة والثاني بالعنيفة. وفي الحقيقة فكلاهما يجعل ما أهمله تابعا لما اهتم به ولا يستغني عنه بالكلية.
فسون تسو (الصيني) تكاد نظريته تتمثل في السعي للاستغناء عن الحرب العنيفة بالحرب اللطيفة التي تجعل العدو ينهار من الداخل فيستغني الإنسان عن محاربته بالسلاح. وكلاوسفيتز بالعكس يذهب بالتدمير الحربي إلى حد تيئيس العدو من المقاومة فيستسلم بعد كسر الجيش واحتلال الأرض وقتل روح الصمود.
ولم أختر هذين القطبين في نظرية الحرب بقصد الكلام على نظريتهما في الحرب -وكذلك النوعين الآخرين اللذين سأختم بهما البحث وهما من وضعي الشخصي-بل بقصد فهم علة الرؤيتين وراء النظريتين: فلو سألنا عن علة الحل الصيني والحل الألماني لوجدنا أنها علة واحدة وهي كيفية تطويع إرادة العدو أو فرض إرادة الذات عليه. وإذن فاختلاف الحل يتعلق بما يعتبر أنجع وسيلة لتطويع إرادة العدو التي الهدف من الحرب ومن ثم فهي تسعى لإلغائه من حيث هو إنسان حر. وسنرى أن ذلك هو جوهر الفرق مع الاستراتيجية القرآنية وأساس الفتوحات: الهدف تحرير إرادة الإنسان وتخليصه من عبادة العباد بعبادة رب العباد.
وإذن فالخلاف المتعلق بأداة تحقيق الغاية الواحدة هو مفهوم القوة وشروط استعمالها الأقل كلفة لتحقيق الغاية من الحرب أي لتغيير إرادة العدو وتطويعها لتصبح خاضعة لإرادة صاحب الاستراتيجية الأنجع. والقوة كما أسلفت نوعان: عنيفة وهي التهديم المادي ولطيفة وهي التخريب المعنوي. ولا ينبغي أن نخلط فنتصور الأولى سلاح والثانية ذكاء.
فلا وجود لحرب من دون السلاح والذكاء إلا عند عرب الانحطاط حيث إنها بلا سلاح وبلا ذكاء لأن كليهما مستوردان أي إن من يحارب ليس العرب بل مرتزقة يدفع لهم العرب ليفكروا ويقاتلوا بدلا منهم (طبعا اقصد الأنظمة العربية الغنية ولا أقصد كل العرب ولا خاصة الشعوب التي تقاوم) لأنهم متفرغون للأخلاد إلى الأرض والاكل أكل الأنعام.
فالحرب العنيفة لا بد لها من الذكاء والحرب اللطيفة لابد لها من السلاح. والمشكلة ليس في وجودهما بل في التراتب بينهما وفي “الدوزة” من دورهما. وهنا يأتي دور ابن خلدون ونظريته التي هي أفضل من نظرية الصيني والألماني رغم أنها مهملة ولم تبرز للعيان لأن صاحبها لم يضع منها إلى مسودة يعسر ترجمتها في نظرية مكتملة الأركان.
وهي ليست حلا وسطا بين هذين الحدين. فالكل يعلم أني أكره التعريف بالسلب المضاعف من جنس الإسلام ليس ماديا مثل اليهودية ولا روحانيا مثل المسيحية أو اقتصاديا مثل الرأسمالية ولا اجتماعيا مثل الاشتراكية إلخ… منه خرافة الحل الثالث والوسطية وهلم جرا من كاريكاتور التفكير الوسطي تقليدا لأمر غير مفهوم في نظرية الفضيلة والأخلاق الأرسطية.
وقبل الغوص في عرض النظرية التي يمكن استخراجها من “مسودة” ابن خلدون في نظرية الحرب -والفصل المخصص للحرب جزء منها وليس هو وحده المقصود-لا بد من القول إن الذراعين والعدوين المساندين لهما حاليا يستعملون أربعتهم نفس الاستراتيجية التي جعلت العرب بفضل الإسلام يستطيعون رغم عدم التناسب في القوة هزيمة أكبر جيوش عصرهم في فارس وبيزنطة. لكنهم بخلاف استراتيجية الإسلام يستعملونها بنفس الغاية التي وضعها الصيني والالماني أي التخريب الروحي والتهديم المادي لاستعباد الإنسان وليس لتحريره.
وإذن فهم يستعملون شيئا قريبا من استراتيجية الإسلام من حيث الأدوات ولكن بنقيض الغايات التي تحددها الاستراتيجية التي نبحث عنها في مسودة ابن خلدون. فهم يكتفون بالجمع بين الصيني والألماني كالحال في كل الحروب الحديثة التي تعتمد على ما سميته بعدي دين العجل أداتي كل سلطان مادي ولا مادي أو عنيف ولطيف: الأموال (معدن العجل) والأقوال (خوار العجل).
فالحرب العنيفة تستعمل المال شرط القوة المادية أو الحرب المسلحة والأقوال شرط القوة اللامادية أو الحرب الدبلوماسية. والحرب اللطيفة تستعمل الأقوال شرط القوة الرمزية أو الحرب الإيديولوجية والمال شرط القوة العنيفة بشراء الضمائر وجيش العملاء من الطوابير الخامسة لدى العدو.
وبهذا المعنى فلا إيران تستطيع التأثير في إسرائيل ولا إسرائيل في إيران ولا روسا في أمريكا ولا أمريكا في روسيا إلا بالحرب العنيفة لأنهم جميعا يستعملون نفس الحرب اللطيفة. فيكون معيار الغلبة في الحرب هو عين معيار الغلبة في السلم. كلامي على ضعف إيران وروسيا حكم مؤسس استراتيجيا: خسرا السباق في القوة المادية ولا يمكن أن يكون لهم القوة المعنوية أكثر من عدويهما.
ومثله حكمي على علاقتهم بالعرب. فهؤلاء لسوء الحظ الحرب اللطيفة تخترقهم اختراق السكين للجبن. والحرب العنيفة يكفي انهيار67 حتى نعلم أن جيوش العرب يخترقها الأعداء أكثر مما يخترق السكين الجبن. وما أظن جيوشهم اليوم أفضل من جيش مصر67 ويكفي دليلا حرب اليمن لتعلم ما عليه الحال دون سؤال.
وبهذا المعنى فقد اقتربنا من منطلق البحث في ما أنسبه إلى ابن خلدون. ولا بد من الانطلاق من مفهومه لـ”فساد معاني الإنسانية” المؤسس على رؤيته الانثروبولوجية (نظرية الإنسان). والمنطلق هو الحكم الذي جاء في القول إن عرب اليوم “فسدت فيهم معاني الإنسانية” ففقدوا المنزلة الوجودية التي هي حقيقة الإنسان بوصفه كما عرفه ابن خلدون «رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له».
وإليكم كيف يعرف ابن خلدون فساد معاني الإنسانية وفقدان المنزلة الوجودية:” وفسدت معاني الإنسانية التي له (للإنسان) من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل سافلين” (المقدمة الباب9 الفصل 40).
وصف سياسي وخلقي يترتب عليه فقدان المنزلة الوجودية بالعودة في أسفل سافلين وهي منزلة يحددها القرآن باعتبارها نكوصا عن منزلة الإنسان الأصلية (في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين). وهو نكوص ينتج عن التربية والحكم العنيفين في الرؤية الخلدونية وهي رؤية مستمدة حتى من مراحل الرسالة لان المرحلة المكية هي للتربية والمرحلة المدنية هي للحكم. وبهما تكونت الأمة التي تمكنت باستراتيجية التوحيد القرآنية ومنطق السياسة المحمدية الشروع في تحقيق الدولة الإسلامية باستراتيجية بناء الإنسان بدل تهديمه وتحريره بدل استعباده.
نظرية ابن خلدون في الحرب تتجاوز الكلام على الحرب كحالة منعزلة وتعتبرها وضعية ملازمة لوجود الجماعات وبحضور الآية 60 من الانفال-من هنا كلامه على العالة على الغير في الدفاع عن النفس والمنزل في صلة مباشرة بمنزلة الإنسان الوجودية التي بها يعرف الإنسان اساسا لفلسفة العمران والاجتماع.
الكلام في الحرب والاستراتيجية المناسبة لها لا يمكن أن يكون كلاما مفيدا إذا لم ينطلق من نظرية الإنسان (الانثروبولوجيا) ومن نظرية المجتمع (السوسيولوجيا) ومن دور التربية ودور الحكم فيهما أي مما يكون في الإنسان وازعه الذاتي (الضمير) ووازعه الأجنبي (القانون) أي فلسفة الأخلاق وفلسفة السياسة.
وحتى يكون الأمر واضحا وجليا شديد الجلاء فلأشرح مفهوما يتكرر حتى صار يفيد عكسه تماما. فالتمييز القرآني بين “حياة” و”الحياة” يقال بعبارة أخرى هو “من يهاب الموت” لا يحب الحياة. فصار عند حداثيي العرب مثلبة لأن من لا يقبل أن يكون عالة يعتبر كارها للحياة لفرط الخلط بين “حياة” و”الحياة” عند من شبعوا من الإذلال وفقدوا معنى الجلال.
ولذلك فتهمة الإرهاب التي توجه لأي مقاوم للاحتلال ليست تهمة استعمارية فحسب بل هي صارت “لازمة=لايتموتيف” عند نخب العرب الجامعية حداثية كانت أو تقليدية بدعوى علاج الكراهية وتأسيس المحبة لكأنه من المحبة أن تتنازل على دارك لجارك وعلى حريمك لغريمك. فهما تعتبران القبول بالتربية والحكم العنيفين وبالعيش في المحميات من نعم الحياة السعيدة التي يحسدون عليها.
الفصل الثاني
ختمت الفصل الأول بعبارة ذات صلة بالحياة والموت. ولا عجب. فالكلام على الحرب وفنونها لا معنى له ما لم يكن ذا صلة بصلة الحياة والموت وإذن بمعنى الوجود عامة. فلا يمكن تصور الحرب من دون عمق ديني في أي حضارة وفي أي مرحلة من مراحلها. وأكثر من ذلك لا يمكن تصور أي شيء في مخاطرة مقامرة من دون اعتقاد في الغيب.
فحتى لاعب القمار والميسر والرياضي في أي مقابلة لا يمكن أن يكون “واقعيا” بالمعنى المبتذل للحداثيين العرب الذين لا أكاد أصدق أن لهم بعدا وجدانيا يغوصون فيه بل جلهم قشة رماها القدر على سطح الأمواج. كل إنسان ذو وجدان وفرقان يكون دائما ذا بعد عقدي خفي يجعله يؤمن بما هو مستحيل التوقع بكامل اليقين ومن ثم فلا بد من شيء من الإيمان باللامتوقع وبالا منتظر خيرا أو شرا. وفي الحرب اللامتوقع يكاد يكون هو الغلب وهو يحصل مهما استعلمنا عن العدو.
ولهذه العلة فإذا وجدت مجتمعات نخبها تحارب هذا الوجه من أعماق النفس البشرية فاعلم أنها جماعة أخلدت إلى الأرض و”فسدت فيها معاني الإنسانية” بلغة ابن خلدون و”عادت في أسفل سافلين” وصارت “عالة على الغير” في رعايتها وحمايتها: وهذه حقيقة حال قيم التربية والحكم عندنا حاليا.
فإذا اعتمدت نظرية الصيني ونظرية الألماني فإني أستطيع القول إن غاية الحرب كما تحددها الرؤيتان هي استسلام المغزو وتخليه عن المقاومة وهذه الغاية تبدأ في كل جماعة من نظام تربية وحكم يفسدان معاني الإنسانية ويغيران منزلة الإنسان الوجودية من الرئاسة بالطبع والاستخلاف إلى العبودية بالعادة والانكشاف.
ومعنى ذلك أن نهاية الحرب التي يسعى إليها الغازي حاصلة بحسب سياسة العرب الحالية في التربية والحكم بحسب فكر النخب الساهرة عليهما التي تمثل في الحقيقة-طبعا بغير قصد ربما-مقدمة جيش الغازي ومؤخرته أي إنها تفتح له الطريق وتختم المعركة لصالحه بمجرد إفساد معاني الإنسانية والرد أسفل سافلين.
بدأنا الآن ندرك الأعماق التي يغوص إليها ابن خلدون للكلام على “الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره في ذلك” ثم يعرف ذلك بكونه “معاني الإنسانية التي له (للإنسان) من حيث الاجتماع والتمدن”. وما أن نفهم ذلك حتى نفهم علة بدايتي المحاولة بقصة الخندق في حرب الأحزاب.
فقصدي ليس استنقاص دور سلمان-وإن كنت اعتقد أن المبالغة في دوره من توابع الأكاذيب الشيعية لأنهم ضموه إلى آل البيت وهي أيضا كذبة شيعية لأن أهل بيت رسول الله (وليس آل بيته) هم أمهات المؤمنين لا غير وقد نضم إليهن بناته-بل القصد البحث عن سر النصر ما هو ومن ثم طبيعة الاستراتيجية التي اعتمدت عليها الفتوحات.
فيمكن للعرب اليوم أن يشتروا أفضل سلاح ابتدعه العقل الإنساني لكن ذلك لن يغير أمر كونهم نفسيا وروحيا وتربويا وحكميا مهزومين بمعنى أن غاية حرب أي عدو عليهم حاصلة بعد لأن الغاية في كل حرب سواء بالمعنى الصيني أو بالمعنى الألماني هي استسلام العدو وهم مستسلمون قبل خوض أي حرب وتلك علة تنازلات نخبهم بلا حساب ولا عقاب.
وإذا كان كلامي على سلمان سيعده الكثير من ذوي النفوذ في كل المحافل العربية طائفية- وما هو كذلك لأن دحض أسس الطائفية لا يعد طائفية وإلا لكان بيان الحقيقة بدحض الكذب كذبا-فكلامي على العرب قد يعتبر عنصرية عند يزايد البعض علي في العروبة لكونه يستعملها “اصلا تجاريا” لا مصيرا وحقيقة قيام مثلي.
وحتى يتأكد القارئ من كذبة التعليل للهزائم بتفوق العدو التقني والعلمي فليذكر أنها كانت حجة الاستعداد للتكافؤ الاستراتيجي التي كان آل الأسد يخفون بها اتفاقهم مع اسرائيل على ما يجانس اتفاق إيران وحزب الله معها لمغالطة الرأي العام العربي بالعنتريات والعمل على الثأر من الفتوحات.
وهو ما نراه في الأفعال رغم الأقوال التي تجعل القوميين العرب يعتبرون الأسد وحزب الله مقاومين وإيران تنوي تحرير فلسطين وهي تحتل كل الهلال ومعه اليمن. وحتى أكون عادلا فنفس اللعبة ونفس الأدوار تجدهما عند من يدعون مقاومة إيران الآن وهم في الحقيقة يقاومون ثورة شعوبهم المطالبة بالحرية والكرامة والسيادة. ذلك أنهم لو كانوا حقا يريدون ردع إيران فليس أيسر من ذلك. فتمكين المقاومة العراقية سابقا والسورية حاليا من حد أدني كاف وزيادة لو أرادوا ذلك حقا.
فالمقاومة السورية رغم ما عوملت به من تلاعب وتنكر من العربان استطاعت أن تهزم النظام وإيران وكل ميليشياتها وجزب الله. ولولا التدخل الروسي لكانت أيران قد خرجت من سوريا تجر ذيل الهزيمة. لكن من يدعون الحرب عليها هم من مول التدخل الروسي لمنع هزيمة إيران ومول طيران أمريكا وبنى له القواعد في ارضه لحماية الحشد في العراق ومول انقلاب الحوثي وهلم جرا.
لكن ما يعنيني ليس الحاضر حتى وإن كان ضرب الأمثلة منه يساعد على فهم المسألة التي أريد علاجها لأن الاستراتيجيا الحربية بالمعنى الخلدوني الذي له صلة بحروب الفتح والتصدي لما تلاه من غزو لبلاد الإسلام التي عاش ابن خلدون نوعيها وخاصة حرب المغول وحرب الاسترداد وكان ذا صلة مباشرة بهما. نظرية ابن خلدون في الحرب ذات مستويين:
- الأول يتعلق بالحرب مباشرة ويمكن اعتباره النظرية الاستراتيجية التي تقبل المقارنة مع نظرية الصيني والألماني أي نظرية الحرب منصلة عن شروطها العميقة وهي ليست همي الأول في المحاولة لأنها تتعلق بالأمر الواقع بسبب انحطاط الامة وفي وضع صارت فيه الحاميات جلها مرتزقة أجانب لخوف الحكام من شعوبهم.
- الثاني وهو الأعمق هو النظرية الاستراتيجية التي ينفرد بها وهي إسلامية خالصة وسر الفتوحات وهي مضمون المقدمة كلها بوصفها محاولة تشخيص الادواء التي أوصلت الأمة إلى النوع الأول وتقديم البدائل المحررة منها لاسترداد الاستراتيجية القرآنية.
وأعود مرة أخرى إلى حرب الأحزاب وقصة الخندق. فكما بينت فالخندق لم يكن محيطا بالمدنية بدليل خيانة من أوهموا المسلمين بالحلف معهم. كما ان الرياح العاتية وإن ساعدت ربما كما ساعد الخندق فإنها مثله لا تفسر نصر المسلمين لأن الأعداء كان يمكن انتظار انتهاء الزوبعة لمواصلة الحرب لو لم يكونوا قد حسبوا أمورا أخرى تأكدوا منها لما رأوا تحفز المسلمين وخاصة حضور القائد في الصدارة.
وقد يعجب القارئ إذا سمعني أقول إن الذي جعل الخندق يؤثر ليس الخندق بل “دلالة حفره” أي كون الرسول قد نزل بنفسه ليشارك في حفره. فهذا هو المؤثر: دور القائد الحكيم الذي يندمج في جيشه. لو كان القائد مثل قادة الجيوش العربية في حرب 67 لاستحال أن يحدث الخندق الفرق. لما يكون القائد في الصدارة وجاهزا للموت مع جيشه يحصل الفرق.
وسأبدأ بالمستوى الأعمق ما دمت قد عدت لمثال الخندق ودلالة دور الرسول في حفره الذي هو المفيد عندي وليس الخندق. فلأشرع في الكلام على أعماق الاستراتيجيا التي تفسر الفتوحات. وأول شيء يلفت الانتباه لدلالته الثابتة على ما كان في وعي المسلمين من فهم للرسالة. فالطابع العفوي لإدراك حقيقة هذا العمق يتبين من خلال جواب ربعي ابن عامر دون أن يلقنه أحد الجواب عن سؤال لم يتوقعه أحد لما بعث رسولا للجيش بطلب من قائد الجيش الفارسي:
“الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضِيق الدنيا إلى سعَتَها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإِسلام”.
والآن فلأسأل السؤال الجوهري: لماذا قضى الرسول نصف زمن الرسالة في وظيفة التربية والنصف الثاني في وظيفة الحكم؟ ولماذا كان الإسلام دستورين؟ فيمكن بصورة دقيقة القول إن القرآن المكي هو دستور التربية وإن القرآن المدني هو دستور الحكم. والأول كون نواة الجماعة المسلمة التي هي عينة من الإنسانية في مفهوم القرآن بوصفه رسالة كونية. والثاني كون نواة الدولة الكونية للإنسانية بمنطق النساء 1 والحجرات 13 وبترجمة قانونية دستورية هي دستور الرسول. ويمكن الآن تعريف الحرب: - فهي سلبا ليست قتالا بين جيشين وشعبين كل منهما يسعى للقضاء على الثاني كما في الرؤية الصينية بالتخريب الروحي وفي الرؤية الألمانية بالتدمير المادي.
- بل هي إيجابا جزء من التسابق في الخيرات بين أمتين ورؤيتين للحياة والوجود انطلاقا من منزلة للإنسان إما بوصفه كما يعرفه ابن خلدون فلسفيا ودينيا “رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” أو بوصفه عبدا لأصحاب دين العجل.
ما ينقص الصيني والألماني هو النظر في الحرب من حيث هي صراع قوى مادية وروحية هو صرف النظر عن تحديد طبيعة دورها في منزلة الإنسان الوجودية بوصفها جزءا من التسابق في الخيرات بين من يعتبر الإنسان “رئيسا بطبعه (فلسفة) بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له (دين)” ومن يجعله عبدا لأصحاب دين العجل. فمن هم أصحاب العجل؟
إنهما: - النظام الثيوقراطي الذي يستعبد به بعض البشر بقية البشر باسم الله وساطة في التربية (الكنسية) ووصاية في الحكم (الحق الإلهي). ومثاله إيران.
- النظام الأنثروبوقراطي التي يستعبد به بعض البشر بقية البشر باسم الإنسان بنفس الأداتين بعد إضفاء الطابع العلماني عليهما ومثاله إسرائيل.
الثيوقراطية والانثروبوقراطيا يبدوان في الظاهر متنافيتين ومتعاديتين. لكن بنيتهما العميقة واحدة: وهي الأبيسيوقراطيا أو نظام التربية ونظام الحكم باسم العجل ببعديه معدنه وخواره. فمعدنه هو أداة الحكم الوصي على الإنسان في أمره (المال) وخواره هو أداة التربية الواسطة بين الإنسان والحقيقة (الإيديولوجيا). وكلاهما أدوات استعباد الإنسان للإنسان وليس تحريره منهما أي النقيض التام لجواب رسول المسلمين لقائد الجيش الفارسي. وذلك هو جوهر الفرق بين الفتح والغزو. ولست غافلا بأن الاعتراض الجاهز مضاعف وهو اتهامي بأني أجمل الفتح على حساب الغزو خاصة والاعداء يحاولون الآن تجنيد علمانيي العرب والأكراد والأمازيغ وقبلهم الأتراك لاعتبار الفتح غزوا والإسلام إيديولوجيا عربية لاستعمارهم رغم أنهم كلهم بمن فيهم العرب لم يكونوا شيئا مذكورا قبل التاريخ الإسلامي بل كانوا مستعمرين من فارس وبيزنطة: - اولا لا يمكن أن توجد دولة من دون العملة والكلمة أي من دون معدن العجل وخواره. وهذه المغالطة الأولى وهي أصلية.
- وثانيا لا يمكن أن ننكر أن الدول الإسلامية ربت وحكمت بهما مثلها مثل غيرها من الدول. هذه المغالطة الثانية وهي فرعية. فكيف ذلك؟
وجوابـي على الاعتراض الأصلي هو التمييز بين ضرورة العملة والكلمة أداتين للتبادل والتواصل وجريمة تحولهما إلى أداتي سلطان على المتبادلين والمتواصلين. في الحالة الأولى هما أداتان لا سلطان لهما على المتبادلـين والمتواصلين. وفي الحالة الثانية العكس يصبح المتبادلون والمتواصلون عبيدا للمستحوذين عليهما: والعلة هي ربا المال وربا الأقوال.
أما جوابي عن الاعتراض الثاني فيسير. لا أحد يزعم أن التاريخ من حيث هو أمر واقع يمكن أن يكون دائما مطابقا للأمر الواجب. لم أزعم أن العرب لم يحيدوا على رؤية الاسلام. ذلك أنهم لو حافظوا عليها لما انحطوا. فتلك هي علة وضعنا. والمشكل هو توهم تقدم الغرب كافيا للظن أن ما يفعله هو الواجب. وعلة يه الهزيمة الروحية التي أتكلم عليها: استسلامنا له مثالا هزيمة تغنيه عن محاربتنا. فكلام الغرب مثلا على حقوق الإنسان أقوال وليس أفعالا. فلماذا يصدق الحداثيون في الإقليم كلامه ويتغافلون على أفعاله؟
لماذا يقارنون أفعال المسلمين بأقوال الغرب ولا يقارنون أفعاله بأفعالنا وأقواله بأقوالنا لو كانوا حقا باحثين عن الحقيقة؟
الفصل الثالث
سيقال تعريفك للحرب لا يطابق حقيقتها إذ جعلتها شاملة لكل حياة الجماعة وليس أحد أنشطتها التي تتمايز بينها عن بعض حتى وإن تداخلت بنحو ما. وإذن فالتشكيك في التعريف هو ما ينبغي مناقشته. سبق ان كتبت منذ كنت في ماليزيا محاولات في الاستراتيجيا بمناسبة مقاومة احتلال وإيران للعراق بتوسط القوة الأمريكية والخيانات العربية (نشر العمل). ونبهت في تلك المحاولة إلى ضرورة التمييز بين مستويين من الحرب وخاصة في المقاومة الشعبية تقني وخلقي:
- فالحرب عمل تقوم به الجماعة كلها من حيث وجهها التقني والخلقي. إذا كانت المقاومة لا تستطيع التمييز بين الحكم والشعب في الوجه التقني.
- فالواجب أن تميز بينهما في الوجه الخلقي. وكل مقاومة تنتصر على أي جيش بهذا التمييز لأنه شريط تشتيت صف العدو.
وأسست هذه القاعدة على إحدى وصايا اخلاق الحرب في الإسلام وفيها آية قرآنية حول معاملة الأسرى. فـحسن معاملتهم يجعلهم سفراء المقاومة لدى شعوبهم عند عودتهم. وقد كتبت ذلك احتجاجا على ما سموه بغباء “التوب تان” في التعامل مع القتلى الأمريكان وتعليقهم على الجسور. فهذا خطأ استراتيجي لأنه يقوي صف الحكومة الأمريكية بما فيه من تحد لشعور الشعب.
وليس من مصلحة أي مقاومة خسران شعب العدو بل عليها جعله معها بنزع الحجة الخلقية التي تجعل الشعب يؤيد العدوان. ومن هنا جاء تعريفي للحرب. فهي قبل التقدم التقني بالقوة البدنية والشجاعة المباشرة أو بعده بالقوة التقنية والخداع تبقى دائما حرب تسهم فيها الجماعة كلها ماديا وخلقيا.
وقبل التقدم التقني كان الدفاع خاصة فرض عين على الجميع لأن الحرب لم تكن بحاجة لكفاءة تقنية كبيرة. وكان يكفي السلامة البدنية والشجاعة الخلقية. وكانت تشمل الجماعة كلها بجنسيها وخاصة بين القبائل والأقوام خلال الترحال والصراع على أسباب العيش. ولا يزال الأمر كذلك مع تغير طبيعة المساهمة.
فقد صار دور البحث العلمي والتقدم التكنولوجي والقوة الاقتصادية لتمويل ذلك أهم عوامل الحرب وشروط الانتصار فيها طبعا مع العامل الخلقي في مستوى هذه الأمور لإبداعها وانتاجها أولا ثم في مستوى استعمالها وهذه هي مهمة الجيش. فيكون الجيش مجرد رأس حربة في الحرب وليس هو المحارب الوحيد.
وبهذا المعنى فجيوش العرب خسرت منطق الحرب القديم دون الحصول على منطقها الجديد. فلا هي محافظة على الحرب التي كانت الجماعة كلها تشارك فيها بأبدانها وشجاعتها. ولا هي وصلت إلى الحرب التي تكون فيها الجامعات والتقنيات والاقتصاديات قادرة على أداء الدور الجديد في الحروب: فهي لا شيء من الناحيتين بل هي أعجز حتى على أنتاج أدوات عملها: كل الجامعات العربية سواء كانت علمية أو أدبية مستوردة لأدواتها ولا تنتج شيئا عدا الخريجين للبطالة أو للهجرة.
وإذن فالحرب سواء بين الشعوب البدائية أو بين الشعوب المتقدمة علميا وتقنيا تبقى حرب بين جماعتين وليس بين جيشين إلا في الظاهر. ومن يعتبرها بين جيشين فحسب لماذا لا يعتبرها كذلك بين سلاحين دون حاجة للجيشين. فالجيش في الحرب من دون ما ذكرت يصبح مجرد أداة مثل السلاح لولا حضور أخلاق الجماعة فيه بفضل التربية والحكم ومشاركة بقية الجماعة كل بسهمه.
وبهذا المعنى فكل المقاومات التي لا تستطيع الفصل بين الحكم الذي يحاربها وشعبه لا يمكن أبدا أن تربح الحرب مهما طالت لأن العدو لن يخسرها ما ظل شعبه معه ليس تقنيا فحسب فهذا لا يمكن الفصل بينهما فيه بل خلقيا. ومعنى ذلك أن البحث العلمي والتنقي والاقتصادي يبقى مشاركا في الحرب العدوانية.
لكن المقاومة تعلم ذلك ولا يخيفها لأنها أولا -إذا كانت ذات قيادات راشدة-لا تدخل مع جيش العدوان في حرب مناجزة ومباشرة لكأنها جيش مثله بل هي تقود حرب مطاولة بالكر والفر وبالعامل الخلقي في أخلاق الحرب إزاء الجيش وإزاء شعبه حتى تحد من الدوافع الخلقية لديه وجعله يتكاسل في الدفاع عن الظلم. والمفاجئات في الحرب الشعبية لا تفعل بكثرة خسارة العدو بل بحصولها نفسه: لأنه ما يخيفه ليس الخسارة الحاصلة بل الممكنة ما ظلت المفاجئات تحصل.
وهنا أكون قد وصلت إلى سر نجاح الفتوحات رغم الفارق الكبير بين جيوش الامبراطوريتين الفارسية والبيزنطية فضلا عن كون العرب حينها لم يكادوا يخرجوا من حرب أهلية هي حرب الردة وما سبق الإسلام من ثارات بين القبائل ومن فوضى الجاهلية وحتى من ذل الاستعمار بين المناذرة والغساسنة. فهذه معجزة لا بد من فهمها.
فيكون البحث لفهم هذا السر لا يكتفي بدرس الحرب من حيث شروطها وفنياتها التقنية فحسب سواء تعلقت بالحرب العنيفة أو بالحرب اللطيفة-الوجهان الغالبان على رؤية الصيني والألماني بصرف النظر عن رهان الحرب القيمي والاقتصار على صدام القوى-بل من حيث شروطها القيمية ومنزلة الإنسان الوجودية.
ولتيسير فهم القصد فلنقارن بين حروب العرب في الفتح وحروب المغول في الغزو. فلو كان العرب مثل المغول غزاة-وهم قد كانوا جماعة بدوية ليست متحضرة مثل الفرس والبيزنطيين وأقرب إلى بداوة المغول منهم إلى حضارة الفرس والبيزنطيين-من دون رسالة مبدؤها إن عبدتم الله بدلا من العباد يصبح لكم ما لنا وعليكم ما علينا هل كانوا يحققون ما حققوه في نصف قرن؟
لن أتكلم على سند من الملائكة ولا على نصر سماوي لأن القرآن نفسه يعتبره قد حصل في غفوة أو سنة نوم ولعله -حلم-بل اكتفي بما يمكن التأكد منه علميا دون حاجة للتصديق الإيماني لأن الكلام ليس مع المسلمين وحدهم بل مع أي إنسان بصرف النظر عن رأيه في الأديان. فما حدث تاريخي فعلي وليس قصصا تحكى عن بطولات يغلب عليها الخرافة. فأثرها ما يزال موجودا. ومن ثم فلست معتمدا في كلامي على الأحاديث بل على الاحداث: الإسلام أنهى الامبراطوريتين وحرر اهل الاقليم من استعمارهما لهم ومعهم بقية دار الإسلام.
ولعل أفضل مثال يبين ما أدعيه هو أن الفاروق وهو في ذروة قوة دولة الخلافة قبل شرط رجل دين طلب منه القدوم إلى القدس فاستجاب وكتب العهدة العمرية التي ليس لها مثيل في التاريخ الإنساني أو كذلك ما عرف عن صلاح الدين من أخلاق التعامل مع الصليبيين رغم وحشيتهم. وهذا دليل على ما أقول.
بهذا وحده -ولم أحتج لدليل آخر-عرفت أن ما يسمى بالخلافة أو داعش لا يمكن أن تكون ممثلة للإسلام ولا حتى للإسلام بعد أن صار فقهاؤه أميين وحمقى مثل أمرائها وفقهائها يتصورون القوة هي الفرقعات التي تزيد العدو قوة والتي إن لم يفعلوها يتطوع هو ليفعلها بدلا منهم لأنه يحتاجها حتى يجعل شعبه معه في العدوان.
ومن يظن هذه الأخلاق دليل ضعف لا يمكن ألا يكون ضعيف العقل والوجدان. ذلك أن القوة ليست وحشية إلا إذا كانت قوة مادية عمياء وليست قوة روحية ذات بصيرة. فالقوة أداة. والأداة يكفيها تحقيق الغاية أي ما هي أداة له. فإذا كان ما فعله الفاروق جوهر القوة الروحية فإن ما يفعله الحمقى هو الوحشية والضعف الروحي والخلقي.
ولهذه العلة راجعت تعريف كلاوسفيتز لمراحل الانتصار في الحرب التي عدها ثلاثا وبينت أنـهـا خمس وليست ثلاثا لأن الأولى والثانية كلتاهما مضاعفة لتضمنهما لب الأخيرة الذي يوجد فيهما يوجد فيها بوصفها قائمة بذاتها في الشعب كله.
فالأولى عنده هي انكسار الجيش والثانية هي احتلال الأرض لمنع إعادة بنائه. والأخيرة عنده هي قبول الجماعة بالأمر الواقع والتسليم وعدم المقاومة.
لكن انكسار الجيش له دلالتان في الحروب: - انكسار سلاحه.
- وانكسار معنوياته.
واحتلال الأرض له معنيان في الحروب: - السيطرة على الثروات.
- والسيطرة على البشر.
وصمود الجماعة هو حضور روحها في جيشها وفي أفرادها رجالا ونساء وفيها من حيث هي جماعة حرة. وكلتا المرحلتين الأوليين سر قوتهما هو سر روح الجماعة وهي مبدأ وحدتها كجماعة تقاوم لأن من يقاوم هو الشعب كله بمن فيهم الجيش بمعنوياتهم والتضحيات التي هي ما يقدر به وعي الإنسان بمنزلته الوجودية رفضا للإذلال وتمسكا بالجلال.
ومن علامات التمييز بين السلاح والمعنويات علامتان لا يجادل فيهما إنسان شريف: فالجندي الذي يرمي سلاحه ويفر من موقعه هزمت معنوياته وليس سلاحه. وهذا رأيناه كثيرا في 67 وحتى قائدهم-عبد الناصر- يحكى أحد قادته أنه فر من القتال في 48 بنفس الطريقة.
واحتلال الأرض ليس احتلال البشر. وكلنا يعلم أن من هزم نابليون في روسيا ليس جيشها ولا معنوياته ولا ثروة روسيا بل أهل الأرض الذين فهم نابليون من سلوكهم أن معركته خاسرة لا محالة. فإذا فر اصحاب الأرض التي احتلها العدو بعد انكسار الجيش لما استطاعت روسيا أعادة بناء القوة واستئناف المقاومة وهزيمة نابليون في بداية القرن التاسع عشر ثم هتلر لاحقا في منتصف القرن العشرين.
ولو كان الأمير عبد القادر في الجزائر أو بطل الريف في المغرب أو أسد ليبيا ضد الإيطاليين قد فرو أو استسلموا للأعداء لما كان للأمة أبطال تفاخر بهم حتى لو لم يستطيعوا هزيمة العدو في الحال لكنهم هزموه ف المآل لمجرد أن الأمة لم تستسلم وظلت تقاوم حتى هزمة ولو بعد حين. وفلسطين شاهدي.
وهذا المعيار هو الذي يجعلني أعتبر إيران أخطر على الأمة عامة وعلى المسلمين خاصة من إسرائيل. ذلك أن قوتها ليست مادية وهي لا تعتمد عليها في حربها على العرب بل هي تسعى إلى احتلال الأرواح قبل الأرض فمن يتشيع يصبح أداتها لاحتلال أرضه وعبدا للملالي. هي إذن أميل لرؤية الصيني. وهو مستحيل على إسرائيل مهما فعلت لذلك فهي أميل لرؤية الألماني.
واحتلال الأرض قابل للرجع بمجرد تغير ميزان القوة. لكن احتلال الروح لا يقبل الرجع. فاليوم مشكل المشاكل مع العلمانيين العرب والأمازيغ والأكراد والأتراك هي أنهم أكبر حلفاء الاستعمار الجوهري أعني الاستعمار الروحي الذي يجعلهم أكبر المدافعين عن الاستسلام الحضاري بدعوى التنوير المقلوب.
ولما تسأل أكثره عداوة للذات وللتاريخ عن علة عدم اقتناع مثالهم الاعلى برؤاهم التي يدعون محاكاته فيها ليصبحوا متقدمين مثله لأنه هو بدوره يؤسس مشروعه على هويته وهي بالأساس دينية حتى لو لم يكن مؤمنا بل حتى لو كان من عتاة الملحدين فحمقهم يمنع فهم الحاجة لأصل الكيان ومضمون الوجدان.
الفصل الرابع
في الفصل الرابع أبدأ بالإشارة إلى ما لا يمكن أن تجده في نظرية الصيني ولا في نظرية الألماني الحربيتين. يتكلمان على الحرب بوصفها صدام قوى منفصلا عن أصل القوى ذاته فيصبح كلامهم في الحرب من جنس كلام الطبيب الذي يصف السم ولا يصف البلسم (الانتيدوت).
وابن خلدون يبحث علة الداء والدواء ككل نطاسي.
وأولى نصائح ابن خلدون- وهي جوهر النظرية الإسلامية في الحرب- هي أن الأمم لا تحميها الجيوش بل الشعوب وأن الجيش إذا صار حامية مختصة في الدفاع وصار الدفاع فرض كفاية صار هو الدولة وأصبح مهيمنا على أمة من “العيال” تحتمي بالحامية وتعجز عن حماية نفسها لأن “معاني الإنسانية” تكون قد فسدت فيها.
وبهذا المعنى فأكثر شعوب العالم التي جردت من شروط حماية نفسها هي شعوب الإقليم عامة والعرب منهم خاصة. ما يزال اليمن شعبا مسلحا لكنه ليس جماعة واحدة إلا بالتراث الإسلامي واللغة العربية. لكن القبلية تحول دونه والتحول إلى جماعة يمكن أن تستقر فيها دولة إذ كما قال ابن خلدون إذا كثرت العصائب استحال استقرار الدولة حتى لو كانت شكلا موجودة كالحال في اليمن.
أمة واحدة وغير منزوعة السلاح ذلك هو معنى الشعب الحر والكريم. وبهذا المعنى فملكية السلاح ليست دليلا على الفوضى إذ الفوضى موجوده حتى من دون سلاح. فما بين العرب من مناكفات فوضى يمكن أن تتحول إلى حروب أهلية حتى بالعصي والسكاكين كما كانوا في جاهليتهم ولا حاجة للسلاح الحديث. وتسليح الأمريكان أو الإسرائيليين لم يلغ النظام فيهما دون سيطرة جيش يحتل الشعوب كما عند العرب.
وأبرز مثال على صحة هذه النظرية هي أنه لو كان جيش الفتح جيشا محترفا وكان الدفاع فرض كفاية لما قبل خالد بن الوليد عزل الفاروق له ولكان ربما انقلب عليه بجيش يعتبره مثالا أعلى قي القدرات العسكرية وليس مثل الخونة الذين من جنس قيادات الجيش الذي انقلب على الشرعية في مصر والذين ليس لهم من الجيش إلى النياشين التي تدل على الغباء والنذالة والعمالة.
لست أشكك في إيمان خالد وليس لي علم بسريرته. والأمر لا يتعلق بشخصه بل بثقافة كان فيها الدفاع فرض عين وليس فرض كفاية وكان كل المسلمين جيش الدولة بل إن الرسول كان يشكوا أحيانا من عجزه المادي عن تجهيز المتطوعين (أي الذين ليس لهم ظهر يركبونه). أما اليوم فجل الجيوش من الأميين والمتعلمون لا يقوم بالواجب والمثقفون جلهم عملاء أو جبناء.
ولست غافلا حتى أدعي أن الأمة لا تحتاج لمحترفين في الدفاع لأنه فرض عين إذ لو فعلت لكنت كـمن يقول الأمة لا تـحتاج إلى معلمين لأن العلم فرض عين. ما هو فرض عين هو الدفاع وليس القدرة على تعليم الشباب فن الدفاع مثله مثل العلم. ما هو فرض عين هو العلم وليس القدرة على تعليم العلم. ذلك هو القصد.
والمعلم في الحالتين في الدفاع وفي العلم من المفروض أن يكون صاحب الخبرة والنموذج في المجال تقنيا وخلقيا بمعنى أنه ليس مثل جل جنرالات العرب عديم الخبرة الفنية وعدمي الشرط الخلقي لأنه النموذج في التهاون بدليل كروشهم وسعيهم للعروش بدل الشرف والتضحية من أجل أمتهم وقيمها.
والآن هل الجامعات العربية تساهم في الدفاع عن الأوطان؟
هل طول اللسان في ترديد “الخوار” واللغو فكر ناهيك عن العقم الإبداعي في العلوم التي يمكن أن تكون تطبيقاتها مصدرا لأدوات الثروة أولا ثم لأدوات الدفاع ثانيا؟
إذا كان التعليم ما يزال دون مرحلة محو الأمية فكيف يمكن انتظار مشاركة فعلية؟
وهل الاقتصاديون والتجار والمزارعون يشاركون في الدفاع عن شيء أم هم “بقر الله في زرع الله” بل ومستعدون للتعاون من المحتل بعضهم بداعي الحاجة اليومية وبعضهم لأن في ذلك فرصة ليصبح من الأعيان ومن ثم فجل حكام العرب صاروا أمراء وهم أحفاد غفراء نصبهم الاستعمار؟
وهل يمكن بهؤلاء أن تقاوم وأن تصمد؟
وهل يحتاج الصيني أو الألماني لاستعمال فينات الحرب التي يتكلمان عليها؟
فالنتيجة التي يستهدفانها حاصلة بعد دون حاجة لنهجهما. لما تعلم أن مستعمرات إسرائيل بناها عمال ورجال أعمال فلسطينيون فمن ستلوم؟
ألا يوجد من يخلص لفلسطين وهم أصحاب الحق إخلاص اليهود لإسرائيل وهم المغتصبون؟
وعندي مثال آخر تونسي كان سببا في خلافات بيني وبين بعض قيادات النهضة.
إنها مسألة تعويض المجاهدين الذي قضوا عمرهم في السجون وحرمت أسرهم من كل الحقوق وضاع أبناؤهم وأزواجهم. أما كان تعويضهم يتم حتى بزكاة المنتسبين إلى الحزب بدلا من جعلها قضية سياسية عليهم لا لهم؟
ألا يوجد اغنياء فلسطينيون-فضلا عن أغنياء العرب-كان يمكن أن يحدثوا في الضفة من المشروعات الاقتصادية ما يغني الشعب الفلسطيني من أن يبني ما به يحتل العدو أرضه؟
لذلك فإني أعجب من طوال اللسان الذين قد يعيبون على الجوعى أنهم لا يقاومون لكأن من يموت جوعا يمكن أن يقاوم غير الموت.
إن نظرية ابن خلدون في الحرب التي هي كما أسلفت مسودة نظرية وليست نظرية ينبغي أن نقرأها بمعنيين:
- وصفا للموجود دون معيارية مع بعص التعليقات المعيارية حول التقنيات والأخلاقيات الحربية.
- تحديدا لـمنشود مضمر أو ما كان يمكن أن تكون عليه الحال لو لم تفسد معاني الإنسانية وبقي الإنسان رئيسا.
وقد أتجرأ فأقول إن القسم الأول هو وصف الأمر الواقع في الدويلات الإسلامية التي نتجت عن تفتت أرض الخلافة الأولى لأن كل ما تلاها كان تفتيتا -بعد الأموية تعدد الخلافات وانقسمت كل خلافة إلى دويلات شبه مستقلة بما في ذلك في الخلافة الأخيرة العثمانية-وهو ابن خلدون ليس راضيا عنه.
أما القسم الثاني فهو ما يمكن اعتباره فهم ابن خلدون لاستراتيجية الإسلام ومحاولات تحقيق نواتها في الدولة الإسلامية الراشدة وهو أمر لم يستطع الصمود أمام الحروب الأهلية الأربعة التي تمكنت الدولة الأموية من اخمادها لكنها انتهت تقريبا بانتهائها لأن العباسيـين غرهم الدهاء الفارسي.
وأبطال الدولة الاموية مثل معاوية وعبد الملك بن مروان -وخاصة الحجاج-صاروا ملعونين بدعوى الدفاع عن المبادئ والقيم لكأن الدول عندما تسقط في الحروب الأهلية يمكنها الخروج منها بالمثاليات. وهو أمر يشارك فيه مفكرو السنة ليس بسبب الحرص على القيم والمبادئ إذ بينت الثورة نفاق جلهم بل لعدم فهم معنى الاستراتيجيات في بناء الامم وخاصة عندما تكون من جنس العرب الذين كانوا على هامش التاريخ وفي حرب أهلية دائمة.
ولو طبقت الدولة الأموية ما يخرف به هؤلاء الحمقى لكانت العراق منذ ذلك الحين قد صارت ما هي عليه الآن بعد احتلالها الإيراني. العراق وبعدها سوريا ولبنان وقد تلحق اليمن والكويت والبحرين والإمارات وقطر إذا واصل العرب سياستهم التي تتمثل في دفع الجزية لأمريكا وإسرائيل وروسيا وإيران بدلا من أن يصبحوا قوة.
وقد كانت محاولات هارون الرشيد سدى لأن تغلغل الباطنية في الدولة حال دون عمل شيء معتبر. ولو لم يقيض الله التدخل التركي الأول في بداية القرن الخامس-السلاجقة عسكريا وعلميا لأن أول تنظيم مؤسسي للتعليم السني هم أصله للتصدي للتعليم الباطني في القاهرة-لصارت الأمة عبيد ملالي فارس الذين أراد ابن بنتهم المأمون بإخضاع الفكر الديني لسلطان الدولة رسميا.
فقصة خلق القرآن أبعد غورا من كونها مسألة كلامية اجتهادية. إنما القصد كان استعادة دور الوساطة الكنسية والوصاية السياسية للدولة بمعناها الذي كان سائدا في فارس وبيزنطة قبل أن يهزمهما الإسلام. ولو لم يوجد ابن حنبل لكانت الغالبية السنة قد انقرضت ولأصبح الإسلام دينا ذا كنيسة وذا حكم بالحق الإلهي ولقبرت ثورة الإسلام. وثورة الإسلام على نظام فارس ونظام بيزنطة وعلى تحريف الديني والفلسفي مضاعفة: - تحرير الإنسان من الوساطة بين المؤمن وربه في التربية.
- وتحريره من الوصاية بينه وبين أمره في الحكم.
والثورتان وردتا في الآيتين 21-22 من الغاشية “فذكر أنما مذكر (تربية) * لست عليهم بمسيطر (حكم)”. وإذا كان الله ينهى الرسول عن تجاوز دور التذكير وعن ادعاء السيطرة فليس ذلك بالصدفة. فالتذكير يعني أن ما يذكر به الرسول موجود في ما فطر عليه الإنسان وهو إذن علاقة مباشرة بين المؤمن والله والرسول يذكره بما يعلم ونسيه وليس بشيء لا يعلمه وهي الطريقة السقراطية: المعلم يذكر الناسي.
تمسك ابن حنبل بقدم القرآن أو بقدم علم الله الذي فيه يعني أن ما فطر الله الإنسان عليه يوجد في القرآن كذلك وليس للدولة عليه سلطان فتكون هي التي تحدد دلالاته بدعوى كونه مخلوقا وعلماؤها -الكنسية الاعتزالية-هي التي تحددها وليست علاقة مباشرة بين القرآن والمؤمن في حوار مباشر بينه وبين ربه.
وإذا صار القرآن يحدد دلالاته سلطة روحية -كنسية هي علماء الاعتزال -فإن المقابل هو أن هذه السلطة الروحية -الكنيسة -هي التي ستضفي الشرعية على “الحكم بالحق الإلهي” للأيمة من آل البيت وهذا ما كان يميل إليه المعتزلة وما لم يخفه الباطنية وخاصة المأمون والهدف هو استرداد سلطة أخواله بتوسط دولة العباسيين.
وما كنت لأتكلم على كل هذا لو لم يكن جزءا من قضية الحرب. ذلك أن منزلة الإنسان في هذه الحالة تصبح من جنس العلاقة بين الشعب المختار والجوهيم. فنحن السنة نوجد أمام هذين المدرستين: - واحدة تتكلم على أسرة مختارة وهي النزعة الصفوية.
- والثانية على قبيلة مختارة وهي النزعة الصهيونية.
فالإسلام يحرر الإنسانية من هذين النزعتين إذ هو قد حدد منزلة للإنسان عامة هي منزلة الاستخلاف. ولذلك فأساس نظرية الوجود الإنساني في السلم وفي الحرب هو كونه خليفة مكلف بتعمير الأرض بمنطق الأخوة البشرية (النساء1) والمساواة بين كل البشر (الحجرات 13) فلا يبقى إلى التفاضل بالتقوى أي باحترام الشرع.
ومنزلة الإنسان الوجودية هذه “رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” تجعل الدفاع عنها عين المقوم الأساسي للإيمان أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انشاء (آل عمران 104) وخبرا (آل عمران 110) وهما شرط الانتساب إلى الخيرية: خير أمة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.
وبهذا المعنى نفهم قصدي بأن الحرب جزء من التسابق في الخيرات (المائدة 48) لأن التسابق يقتضي تطبيق أمرين هما مضمون ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض: - حماية الحرية الدينية بحماية دور العبادة كلها.
- حماية البشر والمستضعفين من الفساد في الأرض.
وذانك هما مدلول الجهاد الهجومي وليس الدفاعي عن الذات وهما من جنس حق التدخل الإنساني في القانون الإنساني الحديث.
الفصل الخامس
من يصدق أن الخراسانيين ثاروا على دولة بني أمية حبا في اسلام العباسيين ينبغي أن يكون درويشا خاصة إذا علم مآل دولة العباسيين في أزهى عهدها كمن يتصور احتلال إيران الحالي للعراق من أجل اسلام العراقيين. ومن يتصور الانقلاب على عثمان كان من أجل الإسلام كمن يصدق أن انقلاب السيسي كان من أجل الديموقراطية.
ومهما قيل في دولة بني أمية من سفهاء الشيعة ومن اغبياء السنة فله صلة بتضخيم الأمر الواقع ونسيان الحروب الاهلية التي تلت اغتيال عثمان. فلا تجد فقيها واحدا فرضت عليه دولة بني أمية أن ينفي أن شرعية التغلب أمر واقع وليست نظرية الإسلام الواجبة. لا أحد جدل منهم جادل في مبدأ البيعة الحرة ومبدأ لجنة الترشيح ومبدأ شروط المرشح ومبدأ مرجعية الشريعة.
لم يجادل فيها أحد في الأمور الواجبة شرعا ما يعني أن الأمر الواقع كان هو بدوره خاضعا لمبدأ الضرورة التي تبيح المحظور بسبب الحروب الأهلية ولم يكن عن طيب خاطر حتى وإن كان طبيعيا أن يواتي ميلا في النفس التي كما قال ابن خلدون لا يسهل عليها التخلص من «حب التأله» في السياسة خاصة والعرب لم يتخلصوا بعد من العصبيات وليس من اليسير أن تغير أربعين سنة من عمر الدولة ثقافة دامت قرونا قبل الإسلام.
لذلك فـحتى الانقلاب على عثمان فإن ابن خلدون لا يفسره بما ينسب إليه من انحراف بل بموقف القبائل العربية الكبرى التي كانت تحتقر قريش ولا تعتبرها جديرة بحكمها فهي أكبر وذات حضارة من أطراف الجزيرة ومتأثرة بفارس(المناذرة) وببيزنطة (الغساسنة): انتقال عاصمة الخلافة إلى الكوفة ثم دمشق ليس صدفة.
لماذا أقول هذا-وأنسبه إلى ابن خلدون إذ هو ذكر ذلك في فصل ولاية العهد من الباب الثاني من المقدمة حيث وضع نظرية عدم التأثيم بنظرية الطابع الاجتهادي لمسألة الحكم لقلب صفحة الفتنة الكبرى-لأني شرعت في الكلام على الأمر الواقع قبل الكلام على الأمر الواجب. فقد بدأ بهذه الحالة الاستثنائية.
ولا يمكن أن تكون الأمة قد انتقلت بالطفرة من العهد الراشدي إلى الخلافة العضوض من دون ما حصل من مقاومة لثورة الإسلام في نظرية التربية وفي نظرية الحكم أي في بعدي السياسة التي تتردد بين حفظ رئاسة الإنسان كما حددها القرآن أو تفسد معاني الإنسانية كما آلت إليه بفعل الأمر الواقع الذي كان يكفي فيه الاستناد إلى السنن التي كانت سائدة في الامبراطورتين اللتين كانتا مسيطرتين على الاقليم فضلا عن عادات الجاهلية.
وبهذا المعنى فكل تحليلات التشيع والاخوان -وخاصة السيد قطب-مبنية في حالة حسن النية والسذاجة عند الثانين مبنية على عدم اعتبار سنن التاريخ وتوهم قيم الاسلام قابلة للتطبيق من دون تغيير ثقافي يتطلب قرونا حتى يصبح الأمر الواقع ساعيا للاقتراب من الأمر الواجب. وأولى مراحل هذا الانتقال هو الانتقال في التشخيص الذي لا يكتفي بتعليل أحداث التاريخ بالإرادات بل لا بد من اكتشاف الموانع الموضوعية وتلك هي غاية المقدمة.
فحتى قبل دور الخراسانيين الذين أنهوا مع العباسيين دولة بني أمية كانت الحرب الاهلية قد بدأت بين العرب مباشرة بعد وفاة الرسول أولا بين ما كانوا تصورونا الخلافة وراثية (جماعة علي) ومن يتصورونها قبلية (منا أمير ومنكم أمير) ومن حاولوا الشروع في تطبيق المفهوم القرآني للخلافة (الفاروق وأبو بكر). فانقسمت قريش يوم توفي الرسول واكتمل انقسام العرب مباشرة في حرب الردة. فهذه لم تكن حربا دينية من أجل دفع الزكاة -حتى وإن كان تبريرها كذلك-بل كانت حربا أهلية من أجل الاعتراف بالحكم بعد وفاة الرسول وعدم الرضا بالحل الذي حصل.
فتردد علي في البيعة لم يكن من أجل دفن الرسول لأن الدفن لا يدوم شهورا بل كان رفضا للحل وكادت الدولة تضيع منذ اليوم الأول لولا حزم الفاروق والصديق. وأنا شخصيا أعتقد أن عليا لم يكن أهلا للخلافة حتى لما وصل إليها بدليل أني لا أعلم أن الرسول كلفه بقيادة معركة واحدة من حروبه التي فاقت الستين بخلاف الاساطير التي تتكلم على بطولاته وقيادته. وحتى البيعة بعد وفاة عثمان فهي لم تكن مكتملة فضلا عن موقف المتردد أمام الانقلاب على الشرعية بحضوره.
كما أن اغتيال الفاروق وبيد من كان ذلك دليلان قاطعان عن طبيعة المشكلة ودور وضع العرب الهش في الدولة الجديدة وخاصة بعد الانقسام والشروع في الانتقال من العهد الراشدي إلى حالة الاستثناء أو حالة الطوارئ.
وقد اضطررت لعرض هذا المنطق للأحداث حتى نخرج من السردية التي فرضها تأويل التاريخ بالمنظار المتشيع أو بالمنظار المثالي الذي لا يجيد قراءة التاريخ في بدايات تأسيس الدول. والقاضي ابن العربي مثلا لم يكن يمزح عندما قال إن يزيد قتل بشرع جده. فالخروج على خليفة -حتى وإن كانت شرعيته مقدوحة وقد فند ابن خلدون كل الحجج-في ظرف الطواري والحروب الأهلية لشرع جده فيه حكم معلوم.
ولا وجه للمقارنة مع موقف الجامية الحالي. فالقاضي ابن العربي ليس جاميا ولم يكن أي عالم فهو ند للغزالي وزميله في الدراسة. لكنه كان يعلم طبيعة ما مرت به الخلافة بعد الانقلاب على عثمان وكان يعلم أن المبادئ التي ذكرتها كلها والمتعلقة بالأمر الواجب كانت محفوظة وأن الجميع كان يعلم أن ما يحدث أمر واقع في حالة طوارئ بمعنى أنه كان فعلا من الضرورات التي تبيح المحظورات وليس هو الأمر الواجب كما يرى الجاميون.
فعندما أقرأ السيد قطب وكلامه على دولة الراشدين وكأنهم ملائكة وعلى الدولة الأموية وكأنها دولة شياطين أفهم أن الرجل لا يفهم في السياسة ولم يقرأ نظرية عدم التأثيم الخلدونية التي تؤسس التعددية السياسية وتنفي أن تكون السياسة بعدم التناقض وبالثالث المرفوع بل هي اجتهاد متعدد بالجوهر.
فالرهان كان المحافظة على وحدة الأمة وحماية الاستراتيجية التي كانت فلسفة الفتح لتحرير الإقليم كله من الامبراطوريتين اللتين كانتا مسيطرتين عليه وكانت نخبهما قد اخترقت صف أقرب المقربين من “آل” البيت المزعومين لبث الفتنة في قريش وانهاء حكم الإسلام والعودة إلى ما سعى إليه الخرسانيون.
ولهذه العلة اعتبرت دولة الإسلام التي وحدت داره وأقامت صرحه بنيت على خمسة أقوام هم أهل الإقليم وهم من يراد إدخالهم في حرب أهلية اثنية أو طائفية أو طبقية لمنع استعادتهم لدورهم التاريخي: العرب فالأتراك فالأكراد فالأمازيغ فالأفارقة أي أقوام ملتقى القارات القديمة الثلاثة ممن لم يكن لهم سبب للانتقام من الإسلام ولا من العرب بل كانوا مثلهم أقواما يستمدون دورهم ومجدهم من إنجازهم لتاريخه.
وهذه مناسبة لأنزه ابن خلدون من تهمة تقال عادة لادعاء أنه كان قلبا في السياسة وكان ماكيافيليا وانتهازيا بمناسبة لقائه مع المغول في دمشق. لقد كان ابن خلدون بذلك يبحث عما حدث بعده ببعض عقود قوة تعيد للأمة وحدتها. فحقق العثمانيون ما كان ابن خلدون يبحث له لما أصبحوا هم القوة التي يحلم بها لتحقق ما ظن اكتشافه في المغول (بعد وفاته بقرن ونيف).
وكان طبيعيا أن يفعل وأن يكون من يطلب هذا الانقاذ من الغرب الإسلامي لأنه عاش مآسي الاندلس موطن أسرته وكان فيها سفيرا لما بقي من الطوائف المتناحرة والتي في النهاية كلنا يعلم ما آل إليه حال الأمة فيها وفي ما حولها خلال حروب الاسترداد وسعيها لاستعادة المغرب كله إلى إسبانيا والخليج إلى البرتغال لولا العثمانيين.
وهذا هو بيت القصيد في كلامي على الاستراتيجيا الخلدونية. فما نراه اليوم من تشويه كلاب الثورة المضادة للخلافة العثمانية هو من سموم بقايا الصليبيين والباطنيين بين القوميين في القرن 19 وبداية 20 للتمهيد لدور لاورنس العرب و”الثورة العربية الكبرى” وسايكس بيكو الأولى ووعد بلفور.
فهم الآن يعدون لسايكس بيكو الثانية ووعد ترومب لإتمام صفقة بلفور بصفقة ترومب ولدور إيران وروسيا في ذلك دفع الأنظمة العربية العميلة للارتماء في أحضان إسرائيل وأمريكا بحيث تكون نفس الجماعة مرة ثانية ضحية للاورنسات متعددة هم الآن مستشارو “زعماء” الثورة المضادة ونخبها من الصفين.
ما قلته عن ابن خلدون وقضية المغول في دمشق هدفه بيان أن الرجل لم يكن مجرد منظر للاستراتيجيا بل كان ممارسا لها ويعيش مآسي الأمة في عصره. وقد كان يبحث عن نفس جديد للأمة بشعب أكثر حيوية -وهو يعتبر الحيوية رهن التوسط بين البداوة والحضارة التي تكون قاتلة للدول والعمران إذ بلغت أوجها. وهو ما سأختم به المحاولة.
وهذا الحل يصف الأمر الواقع ولا يتكلم على الأمر الواجب. ذلك أن الأمر الواجب هو نظرية الإسلام في حصانة الامم المتحفزة دائما للرعاية والحماية شرطي السيادة للجماعة وشرطي الرئاسة للإنسان إذ يكون نظام التربية ونظام الحكم يجريان بالغاشية 21-22 تربية الرسول وحكمة لحفظ معاني الإنسانية.
وبهذا المعنى فالمقدمة كلها محاولة لتحديد الاستراتيجية التي يمكن أن تخرج الأمة من مآسيها باستخراج القوانين التي تحكم العمران البشري والاجتماع الإنساني بالتخلص من المدرستين اللتين كانتا سائدتين في تفسير الظاهرات السياسية والتاريخية:
- مدرسة المدن الفاضلة ممثلة بأفلاطون وبنوع من الباطنية والتشيع عند الفارابي وابن سينا بمنطق مدرسة اخوان الصفا التي تقابل بين الظلام والأنوار ممثلا بالتعليمية التي نقدها الغزالي.
- مدرسة الأحكام السلطانية ممثلة بكل فقهاء السياسة الذي يعتقدون أن السياسة تطبيق للشريعة وان خلدون لا يعتقد أن السياسة بحاجة إلى التأسس على الدين حتى وإن لم ينف أن الدين يزيدها قوة لكن أساسها هو العصبية بمراحلها الخمس.
والآن فلنشرع في الكلام على تعليله لفساد معاني الإنسانية الذي يحول دون الرؤية الإسلامية دون أن يعتمد على مثالية أفلاطون ولا على الأحكام السلطانية. فإليك ما يقول: - (العلة الأولى الحكم) أما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس بالكلية لأن وقوع العقاب به (بالإنسان) ولم يدافع عن نفسه يكسبه المذلة التي تكسر من سورة بأسه بلا شك.
- (العلة الثانية التربية) وأما إذا كانت الأحكام تأديبية وتعلمية واخذت من عهد الصبا ارت في ذلك بعض الشيء لمرباه على المخافة والانقياد فلا يكون مدلا ببأسه (….).
“ولا تستنكر ذلك بما وقع في الصحابة من أخذهم بأحكام الدين والشريعة ولم ينقص ذلك من بأسهم بل كانوا أشد الناس بأسا لأن الشارع صلوات الله عليه لما أخذ المسلمون عنه دينهم كان وازعهم فيه من أنفسهم لما تلا عليهم من الترغيب والترهيب لو يكن بتعليم صناعي ولا تأديب تعليمي إنما هي أحكام الدين وآدابه المتلقاة نقلا يأخذون أنفسهم بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتصديق. فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما كانت ولم تخدشها أظفار التأديب والحكم. قال عمر رضي الله عنه “من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله” حرصا على أن يكون الوازع لكل أحد من نفسه”.(المقدمة الباب الثاني الفصل السادس).
وهنا يبرز البعدان في الاستراتيجيا التي تعنيني من كل هذه المحاولة: - تربية الإنسان الحر.
- وحكم الإنسان الحر.
والإنسان الحر هو الذي لم تفسد فيه معاني الإنسانية والذي هو “رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” والمفهوم يعني أنه لا يعبد العباد بل يعبد رب العباد ومن ثم متصف بالفضائل الـخمس. وهذا الفضائل الخمس هي التي تتأسس عليها استراتيجية الرعاية والحماية في الإسلام: - الإرادة الحرة.
- العلم الصادق.
- القدرة الخيرة.
- الحياة الجميلة.
- الوجود الجليل.
فمن كانت هذه صفاته فلا يمكن أن يقبل بـ”حياة” بديلا من “الحياة” وتلك هي قيمة القيم القرآنية وسر الجلال الوجودي. والاستراتيجيا التي يهتم بها ابن خلدون مضاعفة: ما الذي يفسد هذه المعاني أو القيم؟
وكيف يمكن إصلاحها؟
تلك هي الاستراتيجية التي ينبغي تحديدها في “علم العمران البشري والاجتماع الإنساني” بصورة مختلفة تماما عما كان سائدا في المدرستين الفلسفية والدينية في عصره أي في ما وصفته بعلوم الملة المحرفة الخمسة: التفسير أصلا للعلمين النظريين الكلام والفلسفة وللعلمين العمليين الفقه والتصوف.
الفصل السادس
سؤال الاستراتيجيا عند ابن خلدون ليس متعلقا بالحرب بوصفها نشاطا معزولا -وهذا سؤال تكتيكي وليس استراتيجيا-السؤال هو طبيعة دور الحرب في التسابق في الخيرات:
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)}
فتكون الاستراتيجيا هي كيف تكون الحرب من أدوات التسابق في الخيرات وله شرطان:
- الاعتراف بتعدد الخيارات الدينية.
- المترتب على شرط حرية المعتقد.
- الذي هو تبين الرشد من الغي.
- والكفر بالطاغوت.
- للإيمان بالله الذي هو المعبود الوحيد والذي كلفه بتعمير الأرض بقيم الاستخلاف.
وهذا التعريف إذن متعلق بأبعاد التسابق في الخيرات أو بأبعاد منزلة الإنسان الوجودية وشروط تحقيقها ومنع فسادها أو علل الانحطاط من التقويم الأحسن إلى الرد أسفل سافلين. فالآية 48 من المائدة تحدد الهدف باعتباره تحقيق فرصة الوصول إلى الحقيقة من خلال الاختيار الحر للطريقة الموصلة إليها.
وبهذا المعنى فالاستراتيجيا هي مضمون الأنفال 60 بمعناها التام أو الاستعداد الرادع الذي يغني عن الحرب. وإذا حصلت فهو يضمن النجاح فيها لأنها ليست صدام قوى فحسب بل هي تسابق في الخيرات أي الدفاع عن شروط حرية الخيار وتبين الرشد من الغي ومن ثم فهي استراتيجية سياسية خلقية للتربية والحكم بالأساس.
ليست إعداد جيش للحرب بل إعداد أمة لا أحد يجرأ على حربها لأن هزيمتها مستحيلة. فهي شعب من الأحرار لا يعبدون غير الله ولا يسمحون بأن يفرض أحد على أحد طريقه إلى الله. وهو معنى “ولولا دفع الله الناس بعضم ببعض لهدمت صوامع (مسيحية) وبيع (يهودية) وصلوات ومساجد (اسلام).
ففي البقرة 62 ذكر دينا طبيعيا هو الصابئة. وفي المائدة ذكر دينا طبيعيا ثانيا هو المجوسية وفي الحج 17 ذكر حتى الشرك فاعتبر خيارا دينيا كذلك. واشترط الوعد لأربعة بثلاثة شروط وأبقى اثنين (المجوسية والشرك ليوم الدين). والشروط هي الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح. وكلها تشارك في التسابق في الخيرات لتبين الرشد من الغي.
لست أدعي أن المسلمين عملوا بهذه الاستراتيجية بل ولا حتى حافظوا على مبدئيتها بحجة أن بعضها قد نسختها آية السيف. لكني أتكلم على استراتيجية السلم العالمية التي كان الإسلام يسعى إليها بمنع أهم علل الصراعات بين الأمم الصراع الديني الذي قضى بجعل حسمه يوم الدين وليس في الدنيا.
طبعا وهذه السلم العالمية لا يمكن أن تتحقق من دون القدرة على ردع من يعكرها وذلك هو مضمون الآية 60 من الأنفال وهي مضمون الاستراتيجية الدفاعية المؤلفة من القوتين ومن تحديد أصناف الأعداء المحتملين الخمسة الذين ينبغي الاستعداد لهم. وهو تصنيف جامع مانع للمتوقع واللامتوقع من الأخطار.
فأولا تحديد مفهوم القوة التي يحتاجها الردع ينقسم إلى نوعين: القوة عامة ثم القوة العسكرية برمزها الأقوى أي رباط الخيل لكأنك قلت الآن الطيران مثلا. أما القوة عامة فهي علة كل القوى الأخرى وهي صنفان كلتاهما ضرورية للرعاية والحماية وتستعمل علوم الطبيعة وتطبيقاتها وعلوم الإنسان وتطبيقاتها.
وقد يظن المتسرع أني أقضي في الأمر تحكميا إذ ما أدراني أن القوة عامة هي ما ذكرت؟ فلأورد الدليل. كلنا يعلم أن فصلت 53 تقول إن من يريد أن يتبين حقيقة القرآن فلينظر في ما يريه الله للإنسان من آياته في الآفاق وفي الأنفس. فآيات الله فالآيات التي في الآفاق هي قوانين الطبيعة وسنن التاريخ والآيات التي في الأنفس هي تجهيز الإنسان بما يجعله رئيسا بعلومهما وتطبيقاتها وخليفة بقيمهما وتطبيقاتها.
ومرة أخرى نورد شهادة ابن خلدون:
“واستولت أفعال البشر على عالم الحوادث بما فيه فكان كله في طاعته وتسخره وهذا هو معنى الاستخلاف المشار إليه في قوله تعالى “إني جاعل في الأرض خليفة” فهذا الفكر هو الخاصة البشرية التي تميز الإنسان عن غيره من الحيوان. وعلى قدر حصول الأسباب والمسببات مرتبة تكون إنسانيته. فمن الناس من تتوالى له السببية في مرتين أو ثلاث ومنهم من لا يتجاوزها ومنهم من ينتهي إلى خمس أو ست فتكون إنسانيته أعلى واعتبر ذلك بلاعب الشطرنج. فإن في اللاعبين من يتصور الثلاث حركات والخمس التي ترتيبها وعض ومنهم من يقصر عن ذلك ذهنه” (المقدمة الباب السادس الفصل الحادي عشر).
هل يحتاج الأمر إلى مزيد من البيان؟ طبعا علماء الملة لم يفهموا هذا الكلام بدليل أنهم بدلا من أن يبحثوا في هذه القوة التي هي سلطان الإنسان على ما سخره الله له ليقوم بمهمته بشرط معرفة قوانينها واستعمالها في التعمير بقيم الاستخلاف وتلك هي دلالة فصلت 53 فضلوا تركها من اجل ما نهت عنه آل عمران 7 والغرق في الرجم بالغيب.
ولذلك فكل علوم الملة كانت ثرثرة لا تجدي نفسها لأنها لا تحقق سلطانا على ما سخره الله للخليفة بل حاولوا بدعوى علوم بما في آيات النص من تأويلات تهم عالم الغيب مثل الذات والصفات في الكلام ومثل الكشف في التصوف ومثل الاحكام في الفقه ومثل الإسرائيليات في التفسير والمطابقة في الفلسفة.
والغريب أن أي متدبر للقرآن يرى أن القرآن لا يستدل بشرح آياته النصية بل بآيات الآفاق والأنفس أي بالنظام والترتيب الذي يتكلم عليه ابن خلدون في هذا النص البديع والذي يصل قدرة الفكر والذهن أو قوى الإنسان الإبداعية في تحقيق السلطان الذي للخليفة على شروط التعمير المادية والخلقية.
وطبعا لا ألوم من لا يصدق ما أقول في علوم الملة لأنه من العسير القول إن فشل الأمة الذريع في التعمير وفي الاستخلاف علته علوم الملة مضمونا والتربية والحكم شكلا وهي ثلاثتها أزالت معاني الإنسانية من المسلمين ولم تحقق أيا من شروط “رئاسة الإنسان بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”.
ولولا أن سبق وعد الله بحماية دينه وقرآنه لكانت الأمة قد انقرضت كما يتوقع ابن خلدون لكل أمة تفسد فيها معاني الإنسانية فترد في أسفل سافلين لأنها في الحقيقة انتقلت إلى الخسر فلم تعد تؤمن ولا تعمل صالحا ولا تتواصي بالحق ولا تتواصي بالصبر وتلك هي صفات جل الأمة حاليا إذا صدقنا القول.
وعندما أسمع تخريف جماعة الإعجاز العلمي والإعجاز العددي أتساءل هل أصحابها قرأوا القرآن حقا واتبعوا وصاياه أم هم مازالوا يخرفون بخرافة “أمك سيسي” (مثل تونسي على السذاجة) ولم يقرأوا ما يقوله ابن خلدون في سخافة اعتبار حساب الجمل ذا دلالة علمية وهو مجرد مواضعة لكتابة الأعداد.
وقد خصص ابن خلدون فصولا مطولة للعلوم الزائفة التي كانت سبب الانحطاط مثل علم الحروف والتنجيم وخفة الأصابع بالأرقام وحساب الجمل وكلها تدجيل في تدجيل ولا سلطان لها على أي شيء عدا مخيال العامة لأن القرآن يقول إن تبين حقيقتي ليس في نصي في الآيات التي في الآفاق وفي الأنفس.
القرآن يوجهنا لمكامن القوة وعلماؤنا المزعومون يبحثون عن مكامن الضعف أعني الخرافة التي ليست صالحة حتى لاستعمال الرياضية الفكرية مثل الشطرنج. فهب أن ما يقال عن الاعجاز العددي صحيح في نظم القرآن فذلك لا يقدم ولا يؤخر لأن نظمه لا يؤثر بطابعه العددي بل بطابعه الموسيقي.
وتأثيره الموسيقي يمكن أن كون له دور في نفسية الإنسان حتى تقبل السماع اليه والتمعن في استدلاله العقلي على وجود الله وحكمة أفعاله ووحدانيته وعلاقته بالإنسان وبالعالم من حيث هو خالقهما وآمرهما. لكنهم لم ينطلقوا من ثم إلى معرفة قوانين خلق العالم رغم أن القرآن حدد طبيعتها: بقدر.
لو كانوا يفهمون معنى علم لما اعتبروا الإشارة إلى ما يشير إليه القرآن يسمى سبقا علميا. فمثلا عندما يتكلم على ما يشبه الجاذبية فهذا ليس علما بل العلم أن يكتشف الإنسان العبارة الرياضية الدقيقة لقانون الجاذبية وقس عليه كل ما يتوهمون انه اعجاز مثل دحاها بمعنى كورها أو بسطها إلخ…
وهذا العبث يمكن اعتباره تعويض العاجزين عن العجز بادعاء أن القرآن صندوق أدوات يجدون في كل شيء ولا يحددون طبيعة هذا الشيء الكل ما هو. في حين أن القرآن يحدده. وهو نوعان لا ثالث لهما. فإذا تكلم على نفسه تكلم على دوره كرسالة وإذا تكلم على غيره أشار إلى ما ينبغي البحث عليه فيه.
وبعبارة وجيزة وحاسمة: كل علوم الملة لم تبق علوما بل هي موضوع تاريخ العلوم في مرحلة ماتت نهائيا وعلينا البحث عن بدائل وقد حاولت بما سميته المدرسة النقدية العربية بناء غزالي وتيمية وخلدونية محدثة متحرر من القول بالمطابقة المعرفية والقيمية واعتبار المعرفة والقيم اجتهادات إنسانية. والقرآن من حيث هو رسالة يشير إلى ما على الإنسان عمله ليحقق مهمتيه: - التعمير
- بقيم الاستخلاف.
وقد جهزه الله بشروط التعمير وهي ما أشار إليه ابن خلدون في النص الذي أوردته أي العلم وتطبيقاته والقيم وتطبيقاتها ولا علم ولا قيم إلى ما أبدعه العقل الإنساني وذلك ما يقوله القرآن صراحة. فلا يمكن أن يكون القرآن رسالة من مرسل (الله) إلى مرسل إليه (الإنسان) تحتوي على ما أعلنت صراحة أن الإنسان لا يستطيع علمه: ما أعلمته بوجوده واعلنت أن مضمونه لا يمكن أن يعلمه لا يمكن أن تحتوي عليه. وإلا أصبح مضمونه عديم الفائدة. إنها إذن لا تتضمن علما بالغيب بل إعلام بوجوده وبضرورة الإيمان به دون القدرة على علمه في الحياة الدنيا. ولما كان النبي نفسه لا يعلم الغيب فإن من يدعي وجود مضمونه وعلمه في القرآن دجال.
الفصل السابع
سأعود للكلام على تصنيف الأعداء في الأنفال 60. وسبق أن كتبت في ذلك. أما الآن فعلينا أن نتكلم في الاستراتيجية التي هي ليست متعلقة بجيش يحارب بل بأمة تستعد للمشاركة في سباق الخيرات لتحقيق شروط رئاسة الإنسان أو جدارته بمنزلته الوجودية التي هي الخلافة. وذلك بالتربية والحكم.
وإذا كانت التربية تعده علميا وقيميا بوصفهما فرض عين للرعاية (التعمير) والحماية (الخلافة) فإن التكوين في الدفاع جزء من التربية تماما كالعلوم وتطبيقاتها وكالقيم وتطبيقاتها حتى يكون الإنسان أهلا للرعاية والحماية. وهذا هو أول مرحلة في الاستراتيجيا أو البعد الأول من السياسة.
إذا كان التكوين العلمي والقيمي فرضـي عين على الذكر والأنثى وكان الغاية منهما هي اعداد الإنسان للتعمير بقيم الاستخلاف فالتربية العلمية والخلقية والدفاعية هي الجزء الأول من الاستراتيجيا الإسلامية للرعاية (سد الحاجات) والحماية (بقيم الاستخلاف التي تقلل من السلوك العنيف وتعوضه بالسلوك اللطيف). كيف ذلك؟
لا ننس نص ابن خلدون: التربية النبوية لا تفسد معاني الإنسانية لأنها تنمي الوازع الذاتي النابع من النفس وتحد من الحاجة إلى الوازع الأجنبي الذي يكون فيه الوزع آتيا من خارج الذات.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أمر لم يبرزه ابن خلدون. وهو كيف يخرج الإنسان من الخضوع لإنسان آخر؟
أو كيف يكون أمر من كلف بالأمر فرض كفاية ليس هو الآمر في الحقيقة بل القانون الذي أمده بشرعية أن يكون آمرا.
فعندما يطيع زيد أمرا صدر عن عمرو فإن الأمر يكون إما تعبيرا عن إرادة عمرو لا غير أو عن طاعة عمرو هو بدورة لإرادة كلاهما متساويان أمامها وهي الإرادة التي تضفي الشرعية على الأمر من الآمر والطاعة من المأمور. وذلك هو ما يضفي السلمية على العلاقة أعني المساواة أمام الأمر الذي يكون صاحبه ليس الآمر المباشر بل الآمر غير المباشر الذي يضفي الشرعية التي تجعل ممثلا لإرادة يتساويان أمامها: وهنا يتدخل الوازع الذاتي أي طاعة القانون أو التقوى.
وهذا العلاقة تقال سلبا: لا طاعة في معصية. زيد لا يطيع عمرو لأنه عمرو بل لأنه هو بدروه يطيع الله. فإذا رأي زيد أن أمر عمرو ليس طاعة لله بل فيه معصية صار من حقه رفض الأمر إذ لا طاعة في معصية. فيكون مطيعا لله وليس لعمرو. وهذا يعني أن الطاعة شرط فرض عين حتى وإن كان الأمر بيد من عين ليقوم به فرض كفاية.
ولما كان المأمور هو الذي يحدد إن كان الآمر مطيعا للشارع في أمره فإن الحكم هو بيد المأمور وليس بيد الآمر. زيد يطيع أمر ما أطاع عمرو نفس الأمر الذي يصدر عن الشارع سواء كان تشريع رب العباد أو تشريع الجماعة التي هي خليفته إذا شرعت بحرية بمنطق الشورى 38. لا يوجد عبد يأمر عبدا إلا إذا كان المأمور في وزعه الذاتي يشعر بأن الأمر فيه طاعة لتشريع شرعي وليس طاعة للمكلف بتبليغ الأمر في النظام.
وهذا يصح في المعرفة وفي القيمة وفي الرعاية وفي الحماية. ففي العلم المتعلم لا يطيع المعلم في مسألة البحث عن الحقيقة بل يطيع علاقة عقله المدرك الحقيقة المدركة باعتبارها هي المرجع المعبر عن إرادة الله أو آياته في الآفاق وفي الأنفس. في القيمة نفس الشيء. وفي المعاملات وخاصة في الحرب نفس الشيء: قيام الجندي بواجبه لا يطيع القائد إذا كان عاصيا.
وهذا يعني أن كل وازع أجنبي ينبغي ألا يكون وازعا بسبب الخوف أو الطاعة العمياء بل لأن الوازع الذاتي مقتنع بأن الوازع الخارجي (القانون) شرعي أي له شرعية الصدور عن ذلك الشخص الذي كلف فرض كفاية باسم الأمة التي هي صاحبة الأمر بأن يكون قائدا في تلك المهمة. فطيع القانون وليس الناطق باسمه.
وبذلك يصبح الجميع-وهذا فرض عين-رقيبا على شرعية القانون. فالقانون يعبر عن إرادة الجماعة إذا كان وضعيا وهـي في النهاية إرادة الله في ما فوضه الله للإنسان من اعتبار الأمر أمر الجماعة تديره بالشورى (الشورى 38). ومن ثم فالوازع الخارجي (القانون) يستمد قوته من الوازع الذاتي (الضمير الخلقي).
وقد يثير ما أقوله سؤالا مهـما: كيف يمكن أن تسير الأمور إذا كان كل فرد مراقبا لشرعية القانون؟
فهل يمكن للدولة أن تعمل في هذه الحالة وخاصة في حالة الحرب؟
والجواب إذا كان المجتمع قد ربى أجياله على هذه الأخلاق فإن الأمر لا يتعلق بالأشخاص بل بشرعية القانون وغالبا ما يكون الجميع مؤديا دوره بحرص لا مثيل له. والسؤال حينها يكون هل له شرعية الأمر والنهي باسم الجماعة أم لا وغالبا ما يكون المكلف بذلك حريصا على عدم المس بهذا المبدأ لأنه يتعامل مع من يقول للفاروق مثلا: لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد السيف.
وهذا هو معنى الجماعة المؤلفة من الأحرار. فالحر لا يطيع الحر إلا لأن الحر الآمر هو بدوره يطيع القانون وحاز منزلة الآمر باسم القانون حيازة شرعية وليس مغتصبا لهذا الدور. وهو معنى “والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون”. وهذا هو خط الدفاع الأول على منزلة الإنسان الوجودية بوصفه خليفة “رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”.
أما خط الدفاع الثاني فهو الحكم بنفس المنطق الذي ذكرناه في التربية. إذا كان طلب الحقيقة بالعقل هو الحكم بين المعلم والمتعلم وليس للمعلم سلطة على المتعلم غير سلطة العقل في إدراك الحقيقة ونفس الأمر في إدراك القيم فالأمر كذلك في إدراك المصلحة وشرعية من يتكلم باسمها نيابة شرعية عن الأمة.
ما من أحد يقرأ هذا الكلام على التربية أو على الحكم إلا ويعتقد أنه من المثاليات الأفلاطونية. وما من أحد يقع عليه ظلم إلا وينتهي في الغاية إلى مثلها ما يعني أن المشكل كله في ما سماه ابن خلدون “حب التاله” عند الإنسان الذي ينسى منزلة الإنسان الكونية فيتوهم إلغاء غيره ممكنا مع بقائه هو ولا يدري أن الغاء الإنسان في الغير إلغاء للإنسان في الذات.
فمنزلة الإنسان الوجودية من خصائصها أنها لا تكون إلا كونية وتبادلية وهو معنى التعارف في الحجرات 13: فكل من يتأله يلغي منزلته قبل الغاء منزلة من يتأله عليهم. فيكون من حيث لا يعلم يخادع نفسه قبل مخادعة غيره. فأي مستبد وفاسد-وهو المتأله بالقوة المادية أو بالقوة الروحية-يكون عبدا لمستبدين وفاسدين يحمي بهم استبداده وفساده.
وأبدأ بالمتأله بالقوة اللامادية-القطب الصوفي-هو أكثر الناس كذبا وتحيلا ويحتاج لإضفاء المصداقية على كذبه إلى شهود زور يمثلون بطانة يعلم أنها تعلم أنه كاذب فيقاسمهم ثمرة تألهه “تحت الطاولة” ويتظاهر الجميع بأن ما يدعيه حقيقة وأنه ذو كرامات وأنه يعلم الغيب وأنه إلخ… وكل ذلك كذب في كذب.
وقس عليه المتأله بالقوة المادية. هو أيضا يحتاج إلى شهود زور يكونون في الغالب أكثر انحطاطا منه. فلو لم يكن السيسي مثلا محيطا نفسه بمن هم أفسد منه ويستفيدون بما يقوم به لكانت رصاصة واحدة من رجل صادق كافية لمحوه من الوجود. التأله ماديا كان أو لا ماديا عرض لظاهرة هي السلطان الكاذب لمافية تختار من بينها من تدعي له قوى خارقة في الظاهرة وهو دمية.
والمثال هو المرجعيات في النظام الشيعي وهم كما يعلم الجميع أفسد مخلوقات على وجه البسيطة إلا من رحم ربي وكلهم دمى لمافيات ويصح ذلك على جل ما يسمى رجال الدين إلا ما ندر في كل الأديان. والدكتاتوريون في النظام العسكري دمى لمافيات وغالبا ما يكون جبناء. والممانعون أبطال أمام الشعب وهم دمى بيد المافيات الشيعية والتقدميون أبطال في راي المثقفين وهم دمى بيد المافيات العسكرية. ومن ثم فكل ما يجري من بطولات وهمية خدع الذراعين في الإقليم.
فالحمقى الثلاثة الذين يقودون الثورة المضادة-السيسي وأمير المنشار ووجه الحمار-دمى تحركها المافية الصهيونية والفرق بنيهم وبين من سبقهم هم أن هؤلاء بعد الثورة لم يعودوا قادرين على اخفاء هذه اللعبة. ونفس الأمر في للحمقى الثلاثة الآخرين الذين تحركهم المافية الصفوية: بشار ولسان الجرو وشلايك العراق.
الكلام على الحكم من حيث هو جزء من الاستراتيجيا القرآنية التي يعبر عنها ابن خلدون هو علاج هذه الظاهرات: كيف لا يكون الحكم تالها بيد دمى تحركها مافيات. حل القرآن هو ما وضعته الآية 38 من الشورى. وفيه خمسة عناصر وهي مقومات الحكم الراشد بحق والحائل دون التأله في التربية والحكم.
فماذا تقول الآية؟
أولا تحدد طبيعة الجماعة السوية بسلوكها ومرجعيتها: “والذين استجابوا لربهم”. الاستجابة سلوك والرب مرجعية. والاستجابة فعل حر. والرب أعم من الإله. وإذن فالاستجابة تشمل البشرية كلها. والكلام على الإنسانية كلها من حيث هي محافظة على منزلتها الوجودية استجابة حرة لرب.
ثم تذكر الآية علامة على الاستجابة وهي إقامة الصلاة -دون تحديد نوعها وإذن فالقصد عبادة الإنسان لربه بحرية ولا تعني صلاة معينة مثل صلاة المسلمين أو غير المسلمين أي عبادة وأدناها الدعاء وهو المعنى الأدنى لمفهوم الصلاة. وهي علامة على العنصر الأول وليست من عناصر الآية المقومة لها.
ثم يأتي العنصر الثاني وفيه ضمير لأن “وأمرهم” تعني “والأمر الذي هو أمرهم” أي سياسة الشأن العام وهو معنى الأمر ومنها الأمير والإمارة و”أمير المؤمنين” اللقب الذي اختاره الفاروق وهو أفضل من خليفة رسول الله ولو أبقينا على لقب الخليفة لكان الأفضل القول خليفة الخلفاء أي الامة. وهذا يعني تحديد طبيعة النظام السياسي. فهو أمر الجماعة التي استجابت لربها بالمعنى الذي شرحت أي سلوك حر كوني ليس تابعا لدين معين.
فتكون “أمرهم” تعني “أمر الجماعة التي استجابت لربها بحرية وعن قناعة” ومن ثم التي لا تعبد سواه فتخلصت من عبادة العباد برب العباد. وذلك هو “شعار الفتح” وما يترتب عليه من أن الذي يسلم يصبح له ما للمسلمين وعليه ما عليه. وهذا يسمى بالمصطلح الفلسفي لطبيعة الأنظمة السياسية في لغة العصر الذي نزل القرآن أي باللاتينية “راس +بوبليكا” أي جمهورية: النظام جمهوري.
ثم يأتي العنصر الثالث وهو “شورى بينهم” أي يدار بالتشاور بين الجماعة التي استجابت لربها لأن الأمر أمرها. فيكون المعنى تحديد أسلوب الحكم بعد طبيعته. فبعد تحديد سلوك الجماعة الوجودي (الاستجابة الحرة) وتحديد المرجعية الروحية (الربوبية) وتحديد طبيعة النظام (طبيعة النظام) يأتي تحديد أسلوب حكمه.
وأسلوب الحكم عرف هنا بالمصطلح الذي كان سائدا عند نزول القرآن وهو حكم الشعب لذاته “شورى بينهم”. وهو باليونانية في ذلك العصر ديموقراطية ولكن ليس بالمعنى التحقيري الذي كان للكلمة عند أفلاطون خاصة وحتى عند أرسطو في تصنيف الأنظمة بمعياري عدد الحكام وأخلاقهم.
وبذلك نصل إلى العنصر الأخير في تحديد السياسي عندما يكون في جماعة حرة وهو علة كل الصراعات بين البشر وهدف هذه المرجعية وهذا النظام وهذا الأسلوب هو حله سلميا: إنه الانفاق من الرزق. وتلك هي شروط الحكم الراشد الخمسة.
الفصل الثامن
من يعتقد الكلام على السياسة بوجهيها تربية وحكما من حيث الأدوات ورعاية وحماية من حيث الغايات ليس من الاستراتيجيا فقد أرشدته لمعناها عند الصيني (سنت تسو) والألماني (كلاوس فيتز). لكني مـهتم بها عند ابن خلدون الذي هو أبعد غورا من هذين الرجلين على ما لهما من فضل في تحليل فنون الحرب بالصورة التي وصفت بداية.
وقد بينت أن الحرب في الإسلام ليست معركة بين جيشين بل هي معركة بين أمتين على الأقل وهي في المنظور القرآني ليست للتخريب كما يراها الصيني ولا للتهديم كما يراها الألماني بل هي جزء لا يتجزأ من معركة وجودية هدفها التسابق في الخيرات لأن الحرب من أدوات احقاق الحق رغم أنها قد تستعمل في عكس غايتها مثل العلم الذي يمكن أن يصنع الدواء والسم وأن يسهم ي الحماية والعدوان.
ولأن الإسلام أقر هذه الحقيقة-وهي حقيقة سواء كان المجتمع بدائيا أو متحضرا-فإنه أنشا الجماعة التي لا يمكن أن تهزم أبدا. فإذا سقط شعب مسلم عوضه شعب مسلم آخر يعتبر حرب الأمة حربه فتتوالى الفزات ولا يمكن أن تسقط دولة الإسلام أبدا مهما ضعفت لتوالي الشعوب على حمايتها وقد ذكرت خمسة منهم.
وبهذا المعنى يعتبر ابن خلدون الدولة رغم كونها لا تتأسس إلى على العصبية أو القوة السياسية بدرجاتها الخمس (الدم والولاء المصلحي والولاء القومي والولاء العقدي الجزئي والولاء العقدي الكوني الذي يشمل الإنسانية وهو المعنى القرآني للأمة المخاطبة بالرسالة الخاتمة) فإنها يمكن أن تستغني عنها عندما تصبح جزاء من العقيدة التي تجعلها عين قيام أمة الأحرار التي تعمل كالجسد الواحد وهو معنى الأمة والدولة التي تتجاوز الأعراق والأقوام بمنطق “جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا”.
فلما ضعف الشعب العربي أخذ المشعل الشعب الكردي ثم التركي في المشرق ثم الأمازيغي وثم الافريقي في المغرب وبقي الإسلام عزيزا رغم كل ما مر به من مآس وهو اليوم يعيد السعي للاستئناف رغم تكالب جل قوى العالم عليه لما فيه ولموضعه المكاني والزماني في جغرافية الإنسانية وتاريخا العالميين.
ولا يعنينـي كيف نربح معركة بصرف النظر عن أهدافها سواء بالقوة اللطيفة أي بالتحيل والاختراق (الصيني) أو بالقوة العنيفة أي بوسائل تدمير العدو (الألماني) بل العكس من ذلك تماما كما يعنيني هو كيف نبني أمة هدفها تحرير الإنسانية من هذين الأسلوبين المنافيين للأخوة البشرية (النساء 1) وللمساواة بينهم (الحجرات 13).
ولهذه العلة فابن خلدون لم يسم علمه باسم خاص بأمته أو قومه بل سماه “علم العمران البشري و(علم) الاجتماع الإنساني”. والأول يتكلم في شروط التعمير من أجل البشر كلهم. والثاني يتكلم في شروط قيم الاستخلاف من أجل الإنسانية كلها. وهذه هي الاستراتيجية القرآنية في الرسالة الكونية الخاتمة.
وإذا كنت ألح على الطابع الكوني والإنساني في فكر المدرسة النقدية العربية (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون) فلأني في آن ألوم واعذر من يكذب هذا الموقف من الكونية في الرسالة الخاتمة. ألوم نفاتها لأنها بينة لكل ذي عقل سليم وحكم نزيه. واعذرهم فمآل الرسالة في علوم الملة وسلوكها يؤيد نفيهم.
والمعلوم أن الغزالي شرع في النقد ولم يصل إلى ثمرته لنكوصه إلى القول بالمطابقة من خلال القول بالكشف ثم من خلال تبني الرؤية السينوية وجعلها أصل ما سيتحقق بعده من قول الكلام بالمطابقة في النهاية.
لكن ابن تيمية عالج مسألة النظر والعقد ليبين امتناع القول بنظرية المعرفة المطابقة ومن ثم فقد غير نظرية الكلي الذي يطلبه العلم. لم يعد مقوما لموضوع العلم الذي نبحث عن شروط التعامل معه دون التأكد من أن ما نختاره من أعراضه هو حقيقته وبل صار مقوما للعلاج الإنساني عن طريق التقدير الذهني الذي يجعل المعاني نفسها رموزا لقول ما ندركه من الأشياء.
وابن خلدونه عالج مسألة العمل والشرع ليبين نفس ما بينه ابن تيمية ولكن في نظرية القيم المطابقة ومن ثم فقد غير نظرية الكلي الذي يطلبه العمل بمقتضى تطور العلاقة بين الطبيعة والثقافة لأنه عكس الرؤية اليونانية للعلاقة بين الدولة والنفس: ليست النفس هي نموذج الدولة (أفلاطون وكذلك أرسطو رغم توسيط الأسرة عنده وهي منفية عند أفلاطون) بل العكس هو الصحيح الدولة هي نموذج النفس بتوسط “نحلة العيش” التي هي علاقة بين الطبيعي والثقافي.
ولهذه العلة فإني اعتبر أدعياء التأصيل بسبب تعريف علوم الملة أكثر مسؤولية عن الوضعية الحالية للأمة من أدعياء التحديث لأن فكر أولئك وسلوكهم هو مصدر أهم أفكار هؤلاء وحججهم ضد الحضارة الإسلامية. ولذلك فقد اعتبرت كلتا المدرستين كاريكاتور مما تدعيانه. فلا الأولى تأصيلية على علم بالأصول ولا الثانية تحديثية على علم بالحداثة بل كلتاهما تمضغ قشور ما تغذي به تخريفها الإيديولوجي.
ذلك أنهم لو كانوا يفكرون حقا لتساءلوا عن علة الحرب على الإسلام واستعمال الطريقة الصينية والطريقة الألمانية مع اختلاف في الترتيب بينهما بسبب الاختلاف في طبيعة القوة الحاصلة عندهم:
- فإيران وروسيا أميل للطريقة الصينية لضعف ما في الوسائل المادية رغم وليس رأفة بالناس ولذلك فهم لا يترددون أمام من هم أضعف منهم في استعمال ما استعمله بوتين في الشيشان وفي سوريا.
- وإسرائيل وأمريكا أميل للطريقة الألمانية لقوة في الوسائل المادية لكنهم ليسوا ضعفاء في الطرية الصينية ثم هم يستعملون إيران وروسيا للقيام بهذه المهمة ودور الجرافة الميسرة لمهمتهم لاحقا. وبهذا المعنى فأمريكا هي التي تحمي الحشد الشعبي.
صحيح أنهم يتحاربون في ما بينهم -إيران وروسيا يستعملان الصينية ضد إسرائيل وأمريكا بسبب ضعفهما المادي وآخرة العمليات التدخل في الانتخابات مثلا-واسرائيل وأمريكا يستعملان الألمانية بسبب قوتهما المادية وأخرة العمليات مثلا محاصرة إيران-لكن رهان اللعبة هو السلطان على العالم بالتدمير.
وهو ما يعني أن الحرب على الإسلام ليست لما في أرضه أو لأرضه ومكانه في جغرافية العالم وتاريخه فحسب بل لأن استراتيجيته هي النقيض من الصينية والألمانية ليس في الوسائل فحسب بل وفي الغايات خاصة.
فالأولى للتخريب الروحي والثانية للتدمير المادي. والقرآن يريد الإصلاح الروحي والتعمير المادي. إنه مستقبل الإنسانية من منظور الشعوب التي ترى الآن نتائج الطريقتين المرضيتين في أمراض العولمة.
ولو كنت من المؤمنين بسياسة تخريب الآخر روحيا (الصيني) أو تدمير الآخر ماديا(الألماني) لكان الخيار الجمع بين الاستراتيجيتين كافيا ولقلت لا بد من الجمع بين أداتي الحرب التي يفضلها الصيني والتي يفضلها الألماني لكني أفضل عليهما الاستراتيجية القرآنية. فهما تخريب وتدمير للإنسانية والعالم قصيرا النظر لعدم حسبان خطر ذلك على الجميع.
فالأمر في هذين السلوكين أشبه بانتشار الأمراض بالعدوى. فمن يعتقد أنه يمكن أن يستعمل السلاح البايولوجي أو السلاح النووي لتدمير العدو يفسد الأرض كلها لأنه لا أحد يسيطر على حركة الرياح وانتقال الآفات. ومن جنسهما التلويث الصناعي والتلويث الثقافي اللذين هما جوهر العولمة.
وكل ذلك من ثمرات دين العجل. فالقوة التي تخرب الآخر (الصينية) وتدمره (الألمانية) هي عين منطق الصراع من أجل الرزق تماما كما كان الأمر في بداية تاريخ الإنسانية قبل أن تكتشف أنها أسمى من الحيوانات التي تتقاتل على لقمة العيش بدلا من التعاون عليها والعيش في سلام بالحفاظ عليها. وهذا هو جوهر ما يعتبر إيديولوجية العصر ممثلة في فلسفة هيجل وهي جوهر منطق الرأسمالية وسياسة الولايات المتحدة الأمريكية مغول الغرب (صراع أرواح الشعوب الذي صار صراع الحضارات) وفلسفة ماركس وهي جوهر منطق الشيوعية وسياسة الصين مغول الشرق (صراع طبقات الشعوب) الذي صار النكوص للفرعونية أو دين المادية الجدلية.
فلو انفقت البشرية واحد في المائة على التعاون بينها مما تنفقه على التقاتل لكانت البشرية أكثر سعادة أقل شقاء ولحافظوا على ثروات الأرض ولما جاع أحد. فعندما يسيطر واحد في المائة من البشرية على ما يساوي ثروة بقية البشر فإن ما يحدث من حروب ليس بالطبع بل ثمرة الاستراتيجيتين هذين
وذلك ما بينه القرآن. وهو جوهر التحريف. وقد لا يصدق من ربي على علوم الملة المحرفة أن ذلك جاء حرفيا في القرآن بالصورة التي أصفها هنا وأنه جاء في السورة التي قال عنها الرسول إنها قد شيبته ومعها أخواتها. وبالترتيب الذي نراه اليوم بصدد تخريب العالم بطريقة سن تسو الصينية وتهديمه بطريقة كلاوسفيتز الألمانية وإذن فالطريقتان هما جوهر استراتيجيتي العولمة ما يعني أن ما يسمى سلما في العولمة حرب عالمية صامتة ليس بين البشر فحسب بل بينهم وبين شروط بقائهم في العالم على الأقل بسبب التلويثين الصناعي والثقافي.
فمن من المسلمين لم يقرأ سورة هود؟
من يجهل أنها تبدأ بنوح ثم تمر إلى هود ثم إلى صالح ثم ابراهيم فلوط فشعيب فموسى؟
لو اعتبرنا الكلام فيها يخاطب الرسول المكلف بتبليغ هذه الرسالة للإنسانية واعتبرنا إبراهيم فاصلة بين الثلاثة الواردين فيها قبله والثلاثة الواردين فيها بعده في ترتيب الرسالات في سورة هود فماذا نلاحظ؟
سأطلب من القارئ بعض الانتباه وليقرأ معي هذه الرسالات الست وكأنها مصفوفة (ماتركس) فيقارن الأولـى بالأخيرة والثانية بالتي قبل الأخيرة والثالثة بالتي قبل قبل الأخيرة ومحاولة قراءة هذا التناظر.
فسيكون لديه (نوح +موسى) ثم (هود+شعيب) ثم (صالح+لوط) وفي القلب إبراهيم وقبله ثلاثة وبعده ثلاثة ثم المخاطب بها أي الرسول الخاتم الذي عاد إلى توحيد إبراهيم لتكون الرسالة الخاتمة هي ما سميته الحنيفية المحدثة أو الابراهيمية المحدثة. فيكون القلب هو بدوره مؤلفا من زوجين مثل الأزواج التي في السورة (إبراهيم+محمد).
فماذا فعل الزوج الأول نوح وموسى؟
نوح حرر الإنسانية من سلطان الطبيعية بالتقنية والزراعة لإعادة البناء الاقتصادي بعد استبداد الطبيعة بالطوفان. وموسى حرر الإنسانية من استبداد الثقافة بالفرعونية بـالهجرة طلبا للحرية وإعادة البناء الثقافي بعد الاستبداد الفرعوني.
وماذا فعل الزوج الثاني هود وشعيب؟ فهود طرح مشكل استبداد الأغنياء وشعيب عالج سر الاستغناء بالظلم فطرح الحل للتطفيف بالاستيفاء والإخسار لعلاج مشكل التبادل العادل شرط التعاون المؤسس لجماعة الأحرار إذا تحرروا من استبداد الطبيعة (نوح) ومن استبداد الحكم (موسى).
وماذا فعل الزوج الأخير صالح ولوط قبل الكلام على إبراهيم ومحمد؟ وضع صالح ضعا مشكل مصدر الحياة الأول أي الماء ووضع لوط مشكل مصدرها الثاني الجنس. وإذن فهما وضعا المشكل المطلق أي شروط بقاء الإنسانية: الماء والجنس.
وبقي دور الزوج الأخير ابراهيم ومحمد. فإبراهيم موجود بين الرسل الثلاثة الأول والرسل الثلاثة الأواخر وكأنه لا محل له من الإعراب في المسائل المطروحة. لكنه هو الذي جاءته الملائكة لتخاطبه في مسألة لوط وفي بشرى عجبت لها زوجته وضحكت منها. وطبعا البشارة يعتقد الكثير أنها بشارة بإسحق. لكن ذلك لا معنى له لأن هذه البشارة الأولى حدثت قبل ذلك بكثير وقبل أن تصل سارة إلى سن اليأس أي مباشرة بعد “طرد” هاجر وابنها إلى مكة.
اليأس هنا لا يتعلق بالإنجاب العضوي بل بالإنجاب الروحي. إنها بشارة بالخروج من اليأس الذاتي يمثله فشل محاولة علاج الإشكالات التي عرضتها السورة. ومن ثم فالبشارة هي بمحمد وبالإسلام. ولذلك فالبداية في الإسلام هي تأسيس الابراهيمية المحدثة أو المحمدية أو الإسلام الذي هو تحرير الرسالات السابقة من تحريفاتها وخاصة من تحريفين: - أحدهما هو دين العجل تحريفا لثورة موسى.
- والثاني هو دين الخطيئة الموروثة تحريفا للعفو على آدم.
فآدم تلقى كلمات فاتمهن فعفا عنه ربه ولم يبق مشكل الخطيئة الموروثة موجود ومن ثم فهو تحريف لتأليه عيسى وتأسيس الكنسية وساطة روحية بين المؤمن وربه والحكم بالحق الإلهي وصاية سياسية بين الأمة وأمرها. والتحريفان مترابطان وعلاجهما الإسلام بين لكل ذي بصيرة: - فدين العجل هو عبادة ربا الأموال وربا الأقوال وكلاهما من أكبر الجرائم في القرآن.
- والخطيئة الموروثة عبادة الوسيط في التربية والوصي في الحكم. ويجمع بينهما نظرية الشعب المختار الذي منه الإنسان المؤله شفيعا ترثه الكنسية (وساطة روحية) والحكم بالحق الإلهي (وصاية مادية). وهذان هما محاربا الإسلام.
فالثيوقراطيا حاربته في القرون الوسطى وكانت مسيحية من الخارج وباطنية من الداخل. وهي الآن تحاربه بنفس المنطق شيعية من الداخل صراحة ومسيحية من الخارج بشكل معلمن. الأنثروبوقراطيا حاربته في القرون الوسطى بالتصوف الهندي والفلسفة اليونانية وتحاربه حاليا بهما مع العلمانية الملحدة.
وكل هؤلاء يشتركون في دين العجل والحكم ببعديه أو الأبيسيوقراطيا التي هي نظام الحكم المافياوي المسيطر على البنك والاقتصاد وعلى الاعلام والملاهي. وكل الحروب هذا هدفها وأدوات السلطان على الإنسان هو ما سميته المثلجة الاستقبالية بعد المثلجة الماضوية: الإيهام بتاليه الإنسان لاستعباده.
فالصوغ الفلسفي للمثلجة القديمة التي تقيس عالم الآلهة على عالم البشر مصدرها أفلاطون وأرسطو. والمثلجة الأفلاطونية غنية عن الدليل. والمثلجة الأرسطية يكفي لفهمها قراءة المقالة الثانية عشرة من الميتافيزيقا. والصوغ الفلسفي للمثلجة الحديثة التي تقيس على البشر على عالم الآلهة مصدرها هيجل. والمثلجة الهيجلية غنية عن الدليل. والمثلجة الماركسية يكفي لفهمها قراءة وعود الشيوعية في المستقبل ولعل ماركس الأول أكثر صراحة في هذه الوعود الميثولوجية. والنخب العربية القديمة قبلت بسذاجة المثلجة الأولى والح والنخب العربية الحالية قبلت بنفس السذاجة المثلجة الثانية. وهما في علاقة مباشرة لأن الثانية تدعي مواصلة الأولى في دعوى العلمية والواقعية والعقلانية وهم من أكثر الناس غرقا في الميثولوجيا اللاواعية.
الفصل التاسع
وهكذا فعندما أتكلم على استراتيجيا بديلة من استراتيجية الصيني (سن تسو) واستراتيجية الألماني (كلاوسفيتز) فإني انتقل من استراتيجية التخريب والتدمير إلى استراتيجية الإصلاح والتعمير. ومن ثم فالمعركة الحالية هي بين استراتيجيتين:
- واحدة رمزها مآل العولمة التي تكاد تقضي على شروط بقاء الإنسانية.
- والثانية يمثلها الإسلام أملا للإنسانية أخوة ومساواة.
فالحرب هي إذن في المنظور القرآني من أدوات التسابق في الخيرات مثلها مثل العلم حتى وإن استعملت لعكس ذلك كما يستعمل العلم لصنع سلاح الدمار الشامل. والدليل أنها كذلك هو في القرآن آيتان وهما الوحيدتان اللتان تجعلانها شرعية دون أن تكون دفاعية عن الذات بل عن مبدأين عامين للعيش المشترك بين البشر والسلم العالمية: - فأما الآية الأولى فتتعلق بشرط الحريات الدينية كما هو بين من الآية 40 من الحج. ففي هذه الحالة الأولى الحرب تحول دون تهديم بيوت الله دون الاقتصار على الإسلامي منها.
- وأما الآية الثانية فتتعلق بشرط بقاء النوع كما هو بين من الآية 251 من البقرة. وفي هذه الحالة الثانية الحرب تحول دون الفساد في الأرض والعدوان على المستضعفين.
ولهذه العلة رفضت مفهوم “التدافع” الذي يكثر الإسلاميون من استعماله وهم لا يدرون أن ذلك كفر باستراتيجية الإسلام وقول باستراتيجية الصيني والألماني أي بمنطق الصراع الهيجلي (بين أرواح الشعوب) أو الماركسي (بين طبقات الشعوب). حرب التدافع تتنافى مع استراتيجية القرآن البديل التي تتكلم على دفع إلهي.
وبقدر ما الوم كاريكاتور الأصالة التي نفى هذه القيم باعتباره إياها قد نسخت وأعذر كاريكاتور الحداثة الذي اعتمد عليهم في الاحتجاج على ما ظنه الأمر الواجب في الإسلام في حين أنه أمر واقع لا يقره الإسلام أعكس فألوم كاريكاتور الحداثة الذي يظن ويوهم أن أمر الغرب الواقع هو ما في أقواله من الأمر الواجب. ولذلك استحق الفريقان وصفي إياهما بالكاريكاتور: - فالتأصيلي يحاكم الحداثة بأمرها الواقع وينسى أمرها الواجب.
- والحداثي يحاكم الإسلام بأمره الواقع وينسى أمره الواجب.
وكلاهما إن لم يكن متحيلا فهو ساذج. ذلك أن قيم الإسلام الكونية لا تختلف عن قيم الحداثة الكونية عند كبار مؤسسيها وعظامهم. واستراتيجية الصيني واستراتيجية الألماني تتعلق بالحرب في ظرف الأمر الواقع. وهذه لا يختلف فيها ابن خلدون عنهما لأنه يعلم أن الحرب لها طريقتان لا ثالث لهما: الحرب العنيفة والحرب اللطيفة. وهذه تعد لتلك وتقلل من كلفتها. ولا واحدة منهما بكافية. ومن ثم فالفرق بينهما في الكم والترتيب.
ولما كانت الوقاية خير من العلاج دون أن تغني عنه كان لا بد من تأسيس استراتيجية إيجابية وأوسع من استراتيجية الصيني والألماني تكون واقية تلغي التخريب والتهديم وتبقى على الحرب من حيث هي كما وصفت أداة تسابق في الخيرات أي منع التخريب والتهديم بدلا من استعمالهما سلاحا فيها. وهذا يصح على علاقة العلم بالخير وقاية ومنعا للشر علاجا.
واعتمادا على متابعتي -على محدوديتها-لـ”لمفكرين” من الصفين يمكن القول إن بعض الاستثناءات تثبت أن أصحاب التكوين الحديث الذين يبحثون عن فهم الإسلام أكثر انصافا للحضارة الإسلامية من أصحاب التكوين القديم الذين يدعون الحداثة. فهؤلاء من أسخف ما رأيت في حياتي جهلا بلب الحضارتين.
فأغلبهم ثقافتهم من جنس ثقافة الذباب في الصحافة العربية. يأخذون بعض قشور الحداثة ويتوهمون أنهم صاروا فلاسفة يمكن أن يتكلموا في ما يخلطون بينه وبين قشوره. فعندما تسمع البعض يتكلم على الفلسفة صانعة “المفاهيم” تفهم أنه بائع روبافيكيا فلسفية. أما إذا سمعته يتكلم على نقد الأديان فاغسل منه يديك لأنه من جنس الدعاة ولكن بالسلب أي إنه يدعو لعكس ما يدعون إليه ولكن بنفس الأسلوب الاستعراضي الذي لا علاقة له بالعلم والأخلاق.
ولذلك فلا تعجب إذا صاروا كلهم خدم المخابرات التي تدعي تكوين مراكز بحث علمي بتمويل مشبوه جعل جل النخب عملاء مخابرات بعضهم على دراية وبضعهم عن حسن نية أو بسبب الحاجة المادية. ولما كان المشرفون عن هذه المراكز خريجي مدارس مخابراتية وأصحاب نفوذ لا يمكن أن يفسر بمكانتهم العلمية فالأمر بين لكي ذي بصيرة.
ومعنى ذلك أن أهم وظيفة لتحقيق حصانة الأمم -البحث العلمي والتربية-صارت أدوات التخريب الذي يتكلم عليها الاستراتيجي الصيني والتي صارت الرديف الضروري لما يتكلم عليه الاستراتيجي الألماني بل هي مقدمة عليها لأنها هي الممهدة لها والمقللة من كلفتها بتكوين خيول طروادة في نخب الأمة.
لـما شرعت في قراءة القرآن قراءة فلسفية انتهيت إلى تسمية المحاولة “استراتيجية التوحيد القرآنية ومنطق السياسة المحمدية”. وكان قصدي أن الإسلام من حيث هو رسالة خاتمة هو الاستراتيجية التي يريد الله من الرسول وأمته استعمالها لتوحيد البشرية وطلب منه تقديم عينة منها هي أمة الإسلام. ولذلك فالقرآن ليس فيه من حيث هو رسالة إلا بعدا هذه الاستراتيجية وتكوين العينة: - علاج ما تعاني من الإنسانية برده إلى تحريف الديني والفلسفي ومحاولة إصلاحه بمنطق التصديق والهيمنة.
- بناء البديل الوقائي وهو المضمون الموجب من الرسالة وقد بينته سورة هود أي التعمير بقيم الاستخلاف.
فترتب على ذلك أمران: - أن حال الأمة الفكري والخلقي يحتاج إلى تفسير مستمد من تحريف علوم الملة التي كونت فكرها وأخلاقها فجعلت علل الانحطاط تصبح ما تنشره هذه العلوم الزائفة الملغية للبحث الفعلي في شروط تعمير الأرض بقيم الاستخلاف.
- أن حال الأمة السياسي والاجتماعي يحتاج إلى تفسير يستمد من تحريف أعمال الملة التي كونت نظام تربيتها ونظام حكمها لفهم فشل الأمة في التعمير والاستخلاف.
ولما كنت لا أرضى لنفسي نكران جميل من أدين له بما حاولت بيانه وإن في شكل بذرات وحدوس أعني المدرسة النقدية بمفكريها الثلاثة -الغزالي وابن تيمية وابن خلدون-فإني نذرت نفسي لكي يكون همي استكمال ما اعتبره مشروعات بقيت شبه مسودات في محاولاتهم للتحرر مما يحرر القرآن البشرية منه.
أذكر أني لما بدأت في قراءة الغزالي وكتابة أول عمل فيه حول السببية سنة 1971 في باريس ونشر الكتاب حال عودتي إلى تونس صرت في نظر “الحداثيين” العرب عدوا لدودا للحداثة لأني بينت أن الغزالي فيلسوف ثوري وابن رشد مجرد شارح لأرسطو لا يكاد يساوي مستوى تلميذ صغير عند الغزالي.
كانوا حينها في ذروة تأثيرهم وفرحهم بالعالمية الماركسية وينفخون في ابن رشد ويعتبرونه مؤسس الحداثة الغربية لأن أرنست بلوخ كتب كتابا وقدم محاضرة في ما سماه اليسار الأرسطي-بمناسبة ألفية ابن سينا- واعتبر ابن رشد زعيمه مدعيا ان الغزالـي يمثل اليمين الأرسطي قياسا سطحيا على المقابلة بين اليسار واليمين الهيجلي في الرؤية الماركسية. وهو قياس سخيف اضطررت لبيانه وفضح حماقات الماركسيين العرب.
فأما الجريمة الكبرى في نظرهم فقد كانت كلامي على ابن تيمية بوصفه أكبر فيلسوف عرفته الثقافة الإسلامية بل والإنسانية لأنه هو الذي أنهى بصورة فلسفية الفلسفة القديمة عندما ناقش نظرية التحليلات الثواني الأرسطية ودحض القول بنظرية المعرفة المطابقة والكلي الواقعي فيها ونظرية المجاز.
وعندما أقول دحض نظرية المجاز فالقصد نظرية المقابلة حقيقة مجاز للتضايف بين المفهومين حقيقة مجاز. فدلالة اللسان لا هي مجاز ولا هي حقيقة لأنها لا علاقة لها بحقيقة ما ترمز إليه أو بعدم حقيقته. إذ لو كانت ذات علاقة بحقيقته لكانت اللغات واحدة مثل لغة العلوم الصناعية التي يراد بها الدلالة على ما يعتبر قانون الشيء ويظن واحدا ومطابقا للحقيقة.
وقوة ثورة ابن تيمية في هذا المضمار هو أنه حتى هذه اللغة العلمية فهو لا يعتبرها معبرة عن قانون الشيء وليست مطابقة لحقيقته بل هي معبرة عن منزلة الشيء في النظام الكلي المعبر عن تناظر نسبي بين نظام الرموز ونظام المرموزات في التواصل عند جماعة من الجماعات. فالمعاني العلمية عنده رموز مثل اللغة والكتابة.
ولما كانت هذه الرؤى عصية عن فهم القائلين بالمطابقة المعرفية والقيمية خاصة من ذوي الثقافة الأيديولوجية والشعارية كحال الحداثيين العرب فمن الطبيعي ألا يصدقوا أن ابن تيمية يمكن أن يكون قد وصل إلى هذا الحد من الثورة على أرسطو وأفلاطون متجاوزا عصره ولم يصبح بالوسع فهم نظرياته قبل ثورة كنط الفلسفية وثروة بورس الوسمية وتجاوز نظرية المعرفة المطابقة.
وعندما اتكلم على الاستراتيجيا في المنظور الخلدوني واعتبره متجاوزا للصيني والألماني فيها فمن الطبيعي ألا يصدق القشوريون مثل هذه القصة فيعتبرونها من أوهامي وليست نظريات قائمة في عمل ابن خلدون وابن تيمية. ولهذه العلة أكثر من الشواهد حتى لا يظن أني أقول الرجلين ما لم يقولا فأدعي عليهما محتميا بهما في رؤية الأول للعمل والشرع والثاني للنظر والعقد.
فكيف يمكن أن تكون الحرب بخلاف المتعارف أداة تسابق في الخيرات للإصلاح والتعمير-وهي عند الاقتصار على الأمر الواقع أداة للتخريب والتدمير-إذا لم نصل ذلك بشروطها حتى في حالة طغيان الأمر الواقع عليها؟
فهل الجيش الأمريكي مثلا يحارب بمفرده؟
أم إن الجامعات والمؤسسات الاقتصادية المبدعة تحارب معه؟
أما كان يمكن أن يكون علمها للتعمير والإصلاح بدلا من أن يستعمل للتدمير والتخريب؟
وهل يمكن للبحث العلمي والانتاج الاقتصادي أن يكونا أداتين من أدوات الحرب إذا لم يكن الشعب حرا بحيث إن سهمه في الحرب بتأييدها أو بعدم تأييدها محدد لمجراها فيكون موقفه إما للتعمير والإصلاح أو للتدمير والتخريف؟
وهل يمكن في هذه الحالة التصدي للجيش الأمريكي إذا لم يكن المتصدي ذكيا بحيث يعمل على الحد من هذا التأييد ومحاولة الفصل بينهما؟
ذلك هو أهم علامات الحمق في المقاومات العربية التي تتصور الوحشية في المقاومة تخيف النظام الأمريكي وليست هي ما يطلبه بل وهي ما يضطر أحيانا لصنعه بنفسه حتى يحقق الالتحام بينه وبين الشعب الذي يمده بالتأييد في القيام بمغامراته. ومن ذلك داعش وكل ما يماثلها من الحماقات والعنتريات.
الفصل العاشر
وصلت إلى غاية البحث في الاستراتيجيا ولم أف بوعدين:
- الأول هو أني لم أحدد تصنيف الأعداء كما حددتهم الأنفال 60.
- الثاني لم أجمع كل الأبعاد التي أضفتها إلى مفهومي الاستراتيجيا اللذين نسبت أحدهما إلى الصين والثاني إلى الألمان.
فقد قلت إن أعداء الإسلام يستعملونها اليوم لمنعه من استئناف دوره في التاريخ العالمي كما سبق له أن أسهم فيه بوصفه قوة عالمية وله شروط استعادة دوره على الأقل بالقوة. والمسألتان مترابطتان. فأعداء الإسلام اليوم خمسة: - اثنان ضعفهما المادي علة تقديم الاستراتيجيا الصينية وهما إيران وروسيا.
- واثنان إسرائيل وأمريكا قوتهما المادية علة تقديم الاستراتيجيا الألمانية.
والعدو الخامس يمولهم بالمال والرجال (مليشيات السيف ومليشيات القلم) وهو ليس أجنبيا بل هو من خونة العرب حكاما ونخبا. لذلك فقوة أعداء الإسلام الأربعة الأول تغزونا دون ان يكلفها ذلك شيء لأن الخونة والعملاء منا هم الذين يمولون الغزو. وهؤلاء هم من النوع الذي أشارت إليه الآية بوصفه مما لا نعلمه ويعمله الله ليس لخفائهم بل لعدم إمكانية تحديد علل أفعالهم وسرائرهم.
وهم ليسوا من أهل الحكم إذ لا حكم له أصلا. فكل من يمول أعداء الإسلام الأربعة أي العدو الخامس ليسوا حكاما حتى بالاسم. فهل بشار يحكم في شيء؟ وهل من جاؤوا على الدبابة الأمريكية للعراق يحكمون في شيء؟ وهل السيسي يحكم في شيء؟
وهل صاحب المنشار يحكم في شيء؟
وهل وجه الحمار يحكم في شيء؟
وهل نخبهم نخب أم هي طبالة وأغلبها صار ذبابا؟
لو كنت أحلل بأحوال النفس لقلت هي سادية وجنون. فكل من ذكرت ممن يمول حرب الأعداء الأربعة على الاسلام بالمال والرجال يعلم أنه مجرد دمية لا حول له ولا قوة. ومع ذلك فهو يقبل تهديم كل سوريا وكل العراق وكل مصر وكل السعودية وكل الخليج لا ينتظر أدنى فائدة لعلمه أن مستعمله سيستبدله بغيره بعد نهاية دوره.
وإذن فالعدو الخامس لا تعنيه الأية بمن لا يعلمه إلا الله من حيث أعيانه بل من حيث الأمراض الخفية التي تنتج العداوات والتي لا حصر لها. ومن ثم فمطالبة الآية بالاستعداد لهم هو جوهر المعنى الذي عرفت به الاستراتيجية بالمعنى القرآني الإيجابي. فالمطلوب مأمورا به في هذه الإشارة هو تحقيق الحصانة الروحية والمناعة المادية.
أما الأعداء الواضحون فقد عرفتهم الآية. لكنها عرفت نوعين وأضمرت نوعين. عرفت نوعين هما: - أعداؤكم
- وأعداء الله.
وأضمرت نوعين هما: - من يعاديكم لأنه عدو الله
- ومن يعادي الله لأنه عدوكم.
فلماذا اعتبر 3 و4 غير 1 و2؟
لو لم توجد الآية 48 من المائدة لما ميزت ولما اعتبرت الحرب أداة في التسابق في الخيرات.
فواضح أن من يعادينا لذاتنا ومن يعادي الله لذاته فلا يدخل الله في الأولى ولا يدخلنا في الثانية الاستعداد لهما يختلف عن الاستعداد لمن يعادينا لأنه يعادي الله أو لمن يعادي الله لأنه يعادينا. والفرق هو العلاقة بين الدافعين ومستوى العداوة المضاعف في الثانية. وهو ما يمكن من وصف ما يجري حاليا.
فلا أحد يصدق أن أمريكا تحارب الإسلام لأنه دين وعبادات فهذا آخر همومها بل هي تعاديه لأن النيل منا مستحيل ما ظللنا مؤمنين به إيمان من يؤمن بقيمتي الحرية والكرامة وهو معنى الإسلام السياسي. وهي إذن تعادي هذا الإسلام لأنها تعادينا بعد أن صرنا نفهمه هذا الفهم وهي تصادق الإسلام التقليدي بل وتشجع حصر الإسلام في العبادات والشطحات الصوفية.
ولا أعتقد أن روسيا تعادينا لذاتنا بل هي تعادي الإسلام لأنها ماتزال تحلم بمجد الأرثودوكس واسترداد عاصمتهم التاريخية (تدارك فرصة سايكس بيكو الأولى التي اضاعتها ثورة 17) وتمجد المادية الجدلية في ما يتعلق بأديان الشعوب التي تريد استتباعها. والدليل أنها لم تصادق من العرب إلا الملحدين والطائفيين المعادين للإسلام.
وإذن فأمريكا وروسيا نموذجان من العدوين المضمرين في الآية: كلاهما يجمع بين الدافعين مع تقديم وتأخير. ومن ثم فالحلف بين إيران وروسيا علينا مفهوم والحلف بين إسرائيل وأمريكا علينا مفهوم. وإيران لا تدعي معاداة الإسلام بل السنة عامة والعرب منهم خاصة (ثأر) وإسرائيل لا تدعي معاداة العرب بل الاسلام السياسي (القدس).
ولا يعني ذلك أن إيران تحب الإسلام بل يعني أنها تعتبر تحريفها له هو أداة الانتقام بتحريفه ممن أطاح امبراطوريتها به. ولا يعني أن ذلك أن إسرائيل تحب العرب بل يعني أنها تعتبر العرب من دون الإسلام يمكن أن يكونوا مثل جل من تستعمرهم مافياتها في العالم فيصبحوا كما نرى منهم الكثير عبيدا لها وجوهيم.
ومما يثبت هذا التحليل هو أن إيران وروسيا يخوفان العرب من إسرائيل وأمريكا وإسرائيل وأمريكا يخوفان العرب من إيران وروسيا. لكن العرب الذين بيدهم المال والسلطان لا يعنيهم شيء من ذلك فما يعنيهم هو من يعتبرونه أكثر قدرة على بقائهم أطول مدة في ما يتوهمونه جنة الخلد وهم دمى في محميات.
اعتقد الآن أني بينت تصنيف الأعداء كما يمكن أن يستخرج من الأنفال 60 بالتعيين التاريخي في لحظتنا إذ يمكن أن يكون التعيين مختلفا في ظروف أخرى لأن القانون القرآنـي مطلق من حيث البنية المجردة لكنه نسبي من حيث التعيين التاريخي. وما يعنيني هو البنية المجردة والتعيين التاريخي الحالي.
وعلي الآن أن أبحث في الـمشكلة الأعوص والتي تتعلق بما أضفته للانتقال من الاستراتيجيا الصينية والألمانية التي تتعلق بالحرب من حيث هي فعل سلبي للتخريب والتدمير إلى الاستراتيجيا الخلدونية التي تتعلق بالحرب ا من حيث هي فعل إيجابي للتسابق في الخيرات أي من حيث هي جزء من مفهوم لم أذكره إلى حد الآن: الجهاد بمعناه القرآني السليم.
فمعلوم أن مشوهي الجهاد يقصرونه على القـتال. وفي ذلك سوء نية من المشوهين بقصد وربما سذاجة ممن يستعملون هذا المعنى بحمق كان ولا يزال من أسباب الجهل بالاستراتيجيا الإسلامية. فللجهاد خمس معان هي أدوات التسابق في الخيرات: - الأصغر هو جهاد رد عدوان الغير علينا سواء كان منا أو من الأجانب.
- والأكبر هو جهاد الامتناع عن العدوان على غيرنا سواء كان منا أو من الأجانب.
وكلنا يعلم أن منع العدوان على الغير أعسر من منع العدوان علينا لأن الأول شرطه جهاد النفس وهو الجهاد الأكبر. والثاني أيسر لأن النفس لا تقبل أن تُظلم وقد تقبل أن تَظلم. ولذلك سمي الأول أكير والثاني أصغر. والأصغر يحتاج إلى إبداع تقنياته. والأكبر يحتاج إبداع أخلاقه. وهما مجاهدتان معرفية وروحية.
وأصل هذه الفروع الأربعة من الجهاد: - الأكبر
- وشرطه علوم الروح والأخلاق (بالمعنى الألماني يعني علوم الإنسان)
- والجهاد الأصغر
- وشرطه علوم الطبيعة والتقنية (بالمعن الألماني علوم العالم المادي والبايولوجي)
- هو التسابق في الخيرات وقاية من الاحتراب الأهلي الإنساني وعلاجا لأن البشر اخوة (النساء 1 من نفس واحدة) ومتساوون أمام الله ولا يتفاضلون إلا بالتقوى (الحجرات 13).
وهذا هو جوهر الاستراتيجيا القرآنية الهادفة إلى توحيد الإنسانية بقيم الرسالة الخاتمة التي تحدد منزلة الإنسان وما يمكن أن يصيبها من خسر وكيف يمكن اخراجها منه بمضمون سورة العصر التي هي زبدة القرآن كله بوصفه هذه الاستراتيجية التوحيدية التي كلف الخاتم بتحقيق عينة منها هي دولة الإسلام.
فلا أحد ينكر أن صحابة الرسول يمثلون عينة من وحدة الإنسانية ففيها العربي والإفريقي والفارسي والرومي والمسلم واليهودي وحتى من ليس بمسلم عندما كون نواة الدولة وكتب دستورها. فكان دستور المدنية المعنى الأتم للعقد الاجتماعي والسياسي بمعنى أن الدولة تنشغل بالحماية والمجتمع بالرعاية.
وهي رؤية سابقة لعصرها ولم يكن بالوسع فهمها. ومن يقرأ المائدة 48 يجد التعليل والتأسيس لأن الدولة والمجتمع هما الفضاء اي يمكن أن يمثل مسرح التسابق في الخيرات المشروط بأمرين: - الحرية الدينية
- التعدد الديني ليحصل الاختيار الحر.
لكن الاختيار يتطلب تبين الرشد من الغي وإذن حرية الفكر والمعتقد.
فإذا واصل الباحث القراءة فقرأ البقرة 62 والمائدة 69 والحج 17 اقتنع أن المفتاح هو ترك الحسم بين الأديان إلى يوم الدين في ما يتعلق بمن هو على الحق والاقتصار على الاجتهاد للاختيار بينها خلال التسابق في الخيرات بثلاثة شروط لا غير: الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر والعمل الصالح. وهذه لا تفرض دينا معينا بل الديني من حيث هو ديني أيا كان شكله التاريخي.
لذلك فهي ينبغي أن تفهم كما حددتها الآية 256 من البقرة. فالقصد بالإيمان بالله الكفر بالطاغوت أي عدم عبادة العباد. والقصد بالإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بالعدل الذي يتدارك الظلم الدنيوي والعمل الصالح هو علامة المعنيين الأولين. والسلب يوضح المعنى الإيجابي المقصود في الشروط.
ولا أنكر أمرين: - أن هذه الرؤية المعقدة من العسير الوصول إليها لأن علوم الملة كلها تنفيها ومن ثم فهي تبدو وكأنها من خيالي.
- وأنها لا تبدو المعنى الأوضح للنصوص التي وردت في القرآن والتي مارسها الرسول وحاول العهد الراشدي التقيد بها ولم يصغ بعضها فلسفيا إلا الغزالي وابن تيمية وابن خلدون.
وإذا كان لي من فضل في ذلك فهو أني أخرجت فكر هؤلاء المبدعين -فلاسفة المدرسة النقدية العربية -من النسيان والإهمال بسبب سيطرة الكاريكاتورين على فكرنـا. فكاريكاتور الحداثة يعتبر الفلسفة التقليدية والمعتزلة والباطنية عقلانية وهم في الحقيقة من جنسهم أصحاب إيديولوجيا. وكاريكاتور الاصالة يقلد الماضي أو قشور الحداثيين. ولذلك فهم أفسد من كاريكاتور الحداثة.
اعتقد الآن أني بينت تصنيف الاعداء كما يمكن أن يستخرج من الأنفال 60 بالتعيين التاريخي في لحظتنا إذ يمكن أن يكون التعيين مختلفا في ظروف أخرى لأن القانون القرآن مطلق من حيث البنية المجردة لكنه نسبي من حيث التعيين التاريخي. وما يعنيني هو البنية المجردة والتعيين التاريخي الحالي.
الفصل الحادي عشر
لم تنل الاستراتيجيا التي تأسست عليها الفتوحات الإسلامية حظها رغم أني وصلت إلى الفصل العاشر وختمت به دون اقتناع. لذلك أستأنف الكلام في الموضوع. ولكن قبل ذلك لا بد من بيان النوعين الأحدثين من النوعين الصيني (سن تسو) والألماني (كلاوسفيتز) لأنهما يتجاوزانهما في الفاعلية ويشبهانهما فضلا عن كونهما قد يخلطان بالنوع الإسلامي لوجود وجوه شبه بينهما وبينه كذلك. وأكثر من ذلك فما يشبه مبادئهما موجود في النوع الإسلامي وجوده في النوعين الصيني والألماني وسنرى الفرق لاحقا. والنوعان هما:
- النوع الصهيوني بعد أن شرع يهود العالم في تأسيس دولة.
- والنوع الأمريكي بعد أن أصبحت أمريكا دولة عالمية.
وكلاهما يعتمد على رؤية فيها لدور البعد الدنيوي من وجود الإنسان أهمية كبرى دون اغفال المرجعية الدينية. والكلام دقيق وشائك. لأن دور البعد الدنيوي وعلاقته بالمرجعية الدينية من علامات تمايز الأديان الأساسية.
فمجرد التلميح لأوجه الشبه بين هذين الاستراتيجيتين والاستراتيجيتين الاوليين من جهة واستراتيجية الإسلام من جهة ثانية قد يصبح تهمة. ولست ناقصا فالنصال تكسرت على النصال. لكني أبحث عن الفهم ولا اهتم كثيرا بالتهم. والاستراتيجية الصهيونية تشبه الصينية لكنها تهدف للاستعباد الروحي-وهذا هو الخلاف مع استراتيجية الإسلام- وليس للنصر العسكري فحسب. والاستراتيجية الامريكية تشبه الألمانية لكنها تهدف للاستتباع السياسي -بعد أن أخلت أمريكا من أهلها وهذا هو الخلاف مع استراتيجية الإسلام- وليس للعسكري في حسب. وأداتهما بعدا العجل.
وما أسميه الاستعباد الروحي هو جعل الناس جوهيم دون وعي أي عبيد لبعدي العجل أعني معدنه (العملة) وخواره (الكلمة). والاستعباد بالبنك والاقتصاد وبالأيديولوجيا والملاهي. وبنفس الآلتين تعمل امريكا لكن الهدف ليس الاستعباد الروحي بل الاستتباع السياسي لعدم العناية برؤية الجوهيم بل بتأثير نموذج الحياة.
وبذلك يكون الفرق مع الرؤية الإسلامية في الحالتين رفض الاستعباد الروحي والاستتباع السياسي كما يثبت التاريخ ذلك. فالمسلمون الأول وخاصة العرب سرعان ما فقدوا السيطرة على فتوحاتهم وصارت سيدة نفسها. والعلة في ذلك أن الاستراتيجية الإسلامية لم تستعمل أداة بعدي العجل والقرآن يعتبر البشر متساوون ولا يوجد جوهيم أو تمييز عنصري على الأقل من حيث المبدأ لأنهما يعتبران من المحرمات: - رفض الأداة أي بعدي العجل أي ربا الأموال وربا الأقوال وكلاهما من المحرمات في القرآن: الحرب على الربا وأشد المقت لمن يقولون ما لا يفعلون.
- رفض الاستعباد والاستتباع الذي هو استعباد مخفف في نسبة المسيحية إلى اليهودية في تحديد منزلة الإنسان.
ولا شك أن الاستراتيجية الإسلامية في الفتح فيها استعمال المال والعقائد لكنها ترفض نوعي الربا وتعمل بنموذج الحياة المؤثر وحتى لا يبقى الكلام غامضا وكأنه ملغز: - فميزانية دولة الإسلام فيها باب الغاه الفاروق يسمى تأليف القلوب وهو بنحو ما استعمال المال لكسب الأصدقاء أو للتقليل من الاعداء.
- والتأثير بالنموذج هو الأقوى وهو سر الفتوحات سواء كانت حربية بعده أو سلمية قبلها. إنه الأداة الحقيقية في الفتح.
ذلك أن الانتصار على الجيوش لا يؤدي إلى إسلام الشعوب. وبعض الشعوب أسلمت دون حروب وخاصة في جنوب شرق آسيا بل أكثر من ذلك فالكثير من الشعوب التي هزمت جيوش المسلمين أسلمت بعد ذلك إذ إن المغول لم يكونوا منهزمين لما دخلوا الإسلام ولا الأتراك ولا الأكراد ولا الأمازيغ ولا الأفارقة بل بتأثير النموذج.
ولأعكس حتى يتضح القصد بتأثير النموذج. فأمريكا لم تسقط السوفيات بالحرب بل بالنموذج الأمريكي. صارت الشعوب تحلم به والعيش مثل الشعب الأمريكي. وهذا وحده كان كافيا لتحصل الهزيمة الروحية للشعوب التي كانت أنظمتها تريد مقاومة أمريكا. دولة الإسلام كانت بنحو ما أمريكا عصرها. لكن وجه الشبه يقف عند هذا الحد.
وقلت إن النموذج له علاقة بمنزلة الدنيوي في الوجود. وهنا يكمن الفرق: هل تأثير النموذج يقتصر على الدنيوي أم على طبيعة علاقة الدنيوي بما يتعالى عليه؟ وهل دور المال والمقال يقتصر عليهما أم على طبيعة علاقتهما بالعلاقة السابقة بمعنى أن المال والمقال في الإسلام متحرران من بعدي العجل.
والغاية من هذه المقارنة هي التالية: خذ الاستراتيجيات الأربع التي تكلمت عليها أي
• الصينية (التخريب الشيطاني)
• والألمانية (التدمير الحيواني)
• وتخريب الأرواح الصهيوني بجعل الناس جوهيم عبيد العملة والكلمة (بعدي العجل)
• وتخريب الأبدان الأمريكي أو تحول الناس توابع في عيشهم وستجد الأمراض التي يعالجها الإسلام بما يشبهها ولكن بحدود تجعله دواء بدلا من أن يكون داء.
فاستراتيجية القرآن -ولا أقول استراتيجية المسلمين لأن الأمر الواقع في التاريخ -وهي ظاهرة عامة-لا يطابق الأمر الواجب في المرجعية-هي علاج هذه الأمراض الأربعة بما يبدو مماثلا لها: التخريب الصيني والتهديم الألماني واستعباد الأرواح الصهيوني واستتباع الأبدان الأمريكي ولكن بحدود تحررها من ا لتخريب والتدمير والاستعباد الروحي والاستتباع السياسي وذلك هو مدلول النساء 1 والحجرات 13. فالرسالة الخاتمة أولا تخاطب البشرية كلها بوصفها اخوة من نفس واحدة وبوصف التفاضل الوحيد بينها أمام الله هو ا لتقوى أي تطبيق القانون الواحد للجميع: - فلا تقبل التخريب الشيطاني الصيني (الخبث).
- ولا تقبل التهديم الحيواني الألماني (عبادة القوة).
- ولا تقبل عبادة العجل والشعب المختار.
- ولا تقبل عبادة الدنيا رغم الاعتراف بالنصيب منها.
- فكان لا بد من التمييز بين الغدر والفكر وبين القوة والتهديم في العملة والكلمة أداتين وسلطانين وبين النصيب من الدنيا وعبادتها.
وليس في ذلك مثالية السذج بل هي السياسة الأكثر فاعلية بشرط أن تكون ممارسة حقا في الأفعال وليست شعارات في الأقوال. لذلك بينت أن مشكل الحضارة الإسلامية ليس في الفرق بين الأمر الواقع والأمر الواجب فحسب بل في التنافي المطلق بينهما: لكن قيم الإسلام كاد يقضي عليها لغو الكلام وعقم الأفهام.
كل البشر الأمر الواقع في أفعالهم ليس مطابقا للأمر الواجب في أقوالهم. لكن ولاءهم لقيمهم يقاس بالمسافة التي تفصل بين الأقوال والأفعال. وبهذا المعيار فلا يوجد شيء من أقوال غالبية المسلمين بقيت له صلة حتى ضئيلة بأفعالهم. ولذلك ينطبق عليهم معنى “فساد معاني الإنسانية” و”الرد في أسفل سافلين”.
وكما بينت في الفصول السابقة فالاستراتيجيا الإسلامية وقائية أكثر مما هي علاجية. وهي تعتبر الحرب من أدوات التسابق في الخيرات دون مثالية ساذجة لا أداة تخريب (الصيني وهو أداة إيران المفضلة) ولا تهديم (الألماني وهي أداة روسيا المفضلة) ولا استعباد روحي (وهو أداة إسرائيل المفضلة) ولا استتباع مادي (أمريكا وهو أداة أمريكا المفضلة).
والقرآن يحدد الاستراتيجيا بفلسفة تعوض تلك الشرور الأربعة بالأخيار في الخداع وفي القتال الحربيين وفي التأثير الروحي وفي التأثير المادي. والعلة هي أن القرآن كما عرفته في تفسيري الفلسفي لتحريره من هذيان الكلام “استراتيجية توحيد الإنسانية ومنطق السياسة المحمدية”: النساء 1 والحجرات 13.
ورغم ما تشكو منه الأمة من فساد معاني الإنسانية بالمعنى الخلدوني إلا أن خير الإسلام ما يزال حاميا لها ضد كل هذه الاستراتيجيات. وما يثبت ذلك هو أن المنهج الصيني فشل في تحقيق خطط إيران أي التخريف الخبيث فاضطرت للاستعانة بأمريكا في العراق وبروسيا في سوريا دون نجاح قابل للديمومة.
وما أتوقعه هو أن العراقيين حتى من كانوا شيعة قبل نظام الملالي -إذا لم يكونوا من أصل إيراني -لن يبقوا شيعة لأنهم رأوا ما لا يصدقه عقل من انحطاط خلقي وفساد واستبداد لا يرضاه أي إنسان ذو فطرة سليمة بل إن الإيرانيين أنفسهم إذا سقط النظام سيكونوا إما ملحدين أو مسلمين ولن يبقوا شيعة.
كما أن استعمال الطريقة الالمانية فشل كما فشل استعمال الطريقة الصينية. وأكبر علامة فشل فرنسا في المغرب الكبير. فقد قاومها الجزائريون مثلا 130 سنة رغم الفارق المادي والتقني المهول والاستعمال الذي تجاوز استعمال بوتين للقوة في الشيشان ومع ذلك أخرجوها صاغرة وقتلوا منها مثل ما قلت منهم.
ونفس الشيء في العراق رغم أن المقاومين كانوا من السنة وحدها فخسرت أمريكا المعركة لولا المليشيات والفتاوى الشيعية التي خربت المقاومة بالحرب الاهلية الطائفية التي عطلتها وحالت دون اخراجها صاغرة. وقبل ذلك مقاومة ليبيا للإيطاليين ومقاومة الأمة للغرب كله حفظا للقسم الأوروبي من تركيا.
أما الاستعباد الروحي الصهيوني فالإسلام يتصدى له مباشرة لأن خرافة شعب الله والمختار واختصاصهم بالنبوة ألغاها القرآن فصار لكل شعب رسول بلسانه والإسلام للإنسانية كلها بمنطق النساء 1 والحجرات 13. وهذا هو الدحض الحاسم لنظرية شعب الله المختار (اليهودية) ونظرية أسرة الله المختارة (الشيعية). وأما الإغراء الأمريكي فهو أولا لم يعد مغريا حتى لأهله فضلا عن المسلمين حقا. ثم إن الأمريكيين خلافا للأوروبيين أكثر شعوب الغرب تدينا رغم كل ما نشاهده في ثقافة الملاهي والإعلام الأمريكيين.
وهذا يعني سلبا أن الإسلام فيه البلسم ضد هذه الاستراتيجيات الأربعة المبنية على الغدر والعنف والاستعباد الروحي والاستعباد المادي. والبلسم مضاد للسموم لكنه ليس مبنيا على المثالية بل عليه للوقاية مع الاعداد للعلاج عند الحاجة وهو مضمون الأنفال 60 التي حللناها وبينا دورها العلاجي.
لكن الأهم من ذلك كله ليس الوقاية والعلاج فحسب بل الحصانة الروحية والمناعة المادية. وما كنت لأقدم الكلام على ما يبدو رد فعل أو وجوها سلبية للاستراتيجية الإسلامية-الوقاية والعلاج-لو لم يكن ذلك بسبب عرض الاستراتيجيات السائدة وبيان صمود الأمة رغم فارق القوة العلمية والاقتصادية.
بدأت بها مدخلا للوصول إلى الحصانة الروحية والمناعة المادية التي هي الوجه الموجب من الاستراتيجية وهي بعدا السياسة وبعدا علاقتها بالمنزلة الوجودية التي يحددها القرآن للإنسان من حيث هو مستعمر في الارض ومستخلف فيها ومكرم وخلق لعبادة الله دون سواه وتركت له حرية الإيمان بتبين الرشد.
والحصانة الروحية (هي ثمرة الوعي بمنزلة الخليفة في الأرض) والمناعة المادية (هي ثمرة الوعي بالاستعمار في الأرض) هما ما بهما تكون الأمة ذات سيادة لأن الأولى هي الحماية من العبودية والثاني هي الحماية من الحاجة الموصلة إليها: ومن هنا كان عنوان المقدمة مجرد شرح لهذين المعنيين.
والآن أستطيع القول إن المحاولة قد أتت أكلها وبلغت غايتها. فما لأجله نسبت الاستراتيجية إلى ابن خلدون ليس الفصل الذي خصصه للحرب في المقدمة بل المقدمة كلها فهي في الحقيقة بحث في الاستراتيجيا التي تحرر الإنسان من فساد معاني الإنسانية أو من الخسر باستراتيجية سورة العصر وأبعادها الخمسة.
فالخسر رد أسفل سافلين بتحريف تقويم أحسن والوعي به هو التذكير الذي تمثله الرسالة الخاتمة وهو أصل العناصر الأربعة الباقية في سورة العصر:
اثنان للفرد المؤمن أي الإيمان والعمل الصالح
واثنان للجماعة المسلمة أي التواصي بالحق(الاجتهاد) والتواصي بالصبر(الجهاد). تلك هي الحصانة والمناعة في الرؤية القرآنية وهي للفرد وللجماعة الإنسانية من حيث هي إنسانية لها الخلافة منزلة وجودية. وللخلافة لها خمس معان: - خلافة الإنسان من حيث هو إنسان.
- من تؤول إليها الخلافة في الارض بالفعل وليس كمنزلة بالقوة
- الخلافة من حيث هي وظيفة سياسية وهي خلافة الأمة بوصفها جماعة الخلفاء.
- بين 1 و2 ما يجعل الجماعة من الخلفاء يصبحون أهلا للانتقال من 1 إلى 2 أو من الخلافة منزلة وجودية بالقوة إلى منزلة وجودية بالفعل
- ما يجعل من هم أهل للخلافة بالمعنى الثاني يختارون من بينهم من ينوبهم في إدارة الشأن العام تحت رقابتهم.