لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله نظرية الاحياز
كيف تتكون الأمم وكيف تتحلل؟
ما زلت غير مطمئن لاستعمالي نظرية الأحياز التي وضعتها لتفسير الكثير من ابعاد السياسة والدولة وحتى صفات الذات المقومة: هل استطعت إيضاحها بحق؟ فثلاثة منها تبدو شديدة الغموض. ذلك أن القارئ يمكن يفهم بسهولة أن المكان الزمان حيزان. لكن يعسر أن يفهم أن التراث والثروة والمرجعية أحياز. وتوضيح ذلك يقتضي أولا فهم معنى الحيز. وليكن ذلك بالانطلاق مما يعتبر يسير الفهم: ما معنى الحيزية في المكان والزمان؟ كلاهما ظرف يحل فيه الموجود. فأي الموجود يحل في ظرف المكان بمعنى أنه يشغل قسطا منه بقدر حجمه هو مساحة مثلثة الابعاد ويبقى الامتداد فاضلا عنه بلا حد في كل الجهات. لكن هذا الانحياز في الامتداد يصبح مقياسا للقدر الذي جعله أولا ورتبية في سلم المتحيزات ومنزلة في الامتداد إذا اعتبرناه سلما تترتب بمقتضاه. فإذا قسنا عليه الزمان الذي هو ظرف زمان فإن المنحاز فيه يشغل مدة منه على قدر مدة وجوده فيه فيكون الزمان نظاما وسلما تترتب فيه بسلم مددها. وقد اعتبرت تفاعل هذين الحيزين في الاتجاهين منتجا لنوعين آخرين من الحيز يمثلان سلم ترتيب للبشر خاصة وبدلالة أعمق لها صلة بالمكان وبالزمان. وسأبدأ بأثر المكان “الواحد” خلال توالي الزمان المرتبين لأهل تلك الحصة من المكان في تلك الحصة من الزمان: سيحدث فيهم شيء يكون حيز تراتب هو بدوره. وهذا الحيز المركب هو التراث أو تاريخ تكون الأواصر الرمزية من المبدعات الإنسانية العلمية والفنية وتطبيقاتهما في تحقيق شروط الحياة الجماعية. وفيه يتراتب البشر فيكون وكأنه سلم ينزلهم منازل مختلفة بحسب دورهم في إنتاج التراث وفي حيازته لأنه في آن انتاج وملكية رمزية تنسب لمبدعيها. ولما كانت الملكية الرمزية خاضعة للتوارث فإن الجماعة سيشغل فيها كل إنسان منزلة بمقتضى ما ورثه أو ما أبدعه من “سمعة” و”منزلة” في هذا الحيز الجديد. وهذا الحيز هو التراث أو تاريخ الإبداع الرمزي وتوارثه في الجماعة المتحيزة لمدة معنية في امتداد مشترك معين: الادب، الخبرة، وانماط العيش. ولنعكس الآن وننظر في أثر حيز الزمان في المكان الواحد. فبقاء الجماعة في نفس المكان يقتضي أن تنتج شروط عيشها مستمدة إياها منه: إنه حيز الثروة. والثروة تتراكم فتصبح حيزا للتراتب بين الأغنياء والفقراء وفيها سلم التراتب هو الاوضح على الإطلاق. وصلته بالزمان هي كونه ثمرة فعله في المكان. والحصيلة أن المكان والزمان حيزان طبيعيان لكل الموجودات. لكن الإنسان له حيزان آخران ينتجان عن تفاعلهما بفعل المكان في الزمان وبالعكس. والتفاعلان ينتجان التراث فعلا لوحدة المكان في مدة الزمان والثروة فعلا لوحدة الزمان في امتداد المكان. وهما حيزان أكثر تأثيرا إذ هما زمكان. والتفاعلان ينتجان التراث فعلا لوحدة المكان في مدة الزمان والثروة فعلا لوحدة الزمان في امتداد المكان. وهما حيزان أكثر تأثيرا: زمكان بمعنيين. فالتراث هو تزمن المكان بالتاريخ الحضاري الرمزي. والثروة هي تمكن الزمان بالتاريخ الحضاري المادي: وتلك هي شروط الوجود الروحي والمادي للجماعة. لكن المكان لا يصبح جغرافيا والزمان لا يصبح تاريخا من دون أن يوجد شيء يجعل البقاء في الامتداد والمدة ناتجا عن “أمر ما” يوحد الجماعة خلالهما. وذلك هو أصل الأحياز الفرعية الأربعة التي عرفناها جمعا ومنعا وهو في آن حصيلتها: إنها المرجعية التي هي ذاتية الجماعة بأقدار مختلفة من الوعي. ويمكن تسميتها “الهوية” التي هي وعي جمعي قيمي مرتبط بجغرفة المكان وأرخنة الزمان بفضل البقاء في امتداد محدد لمدة محددة أنتجا التراث والثروة. وبهذا التحليل والتعليل نفهم أن الجماعات تتكون خلال تحقيقها لشروط وجودها في المكان والزمان بأن تجعلهما جغرافيتها وتاريخها بالتراث والثروة. إلى حد الآن تكلمت على تكوينية الجماعات بتكوينية الأحياز التي تبدو وكأنها ظروف خارجة عن مقومات الكيان لكنها في الحقيقة هي عين كيان الجماعة. ويتبين ذلك بوضح عندما نعكس التكوينية فننظر في تحلل الجماعات كيف يكون أو بصورة أدق كيف تصاب الجماعات بمرض يجعلها تعمل عكس ما وصفنا نكوصيا. وككل الأمراض حصيلته هي نسبة قوة الحصانة الروحية (التراث) والمناعة المادية (الثروة) لكي تحفظ مصدريهما الجغرافي والتاريخي بأصلها المرجعي. وهي أمراض ليست عرقية بل هي ناتجة عن عاملين: – التنافس بين الجماعات على الامتداد والمدة لما فيهما من شروط العيش والقوة – وتمانعها في حيازتها وهنا يكون دور المرجعية التي هي لحمة الجماعة الروحية عين الحصانة الروحية الممسكة بالمناعة المادية لقوة الجماعة في هذا التنافس الذي قد يفنيها. ذلك أن العلم بدور هذه الأحياز والعمل به هما شرط وضع الاستراتيجيات التي تحمي الاحياز الذاتية وتغزو احياز الجماعات الأخرى المنافسة عليها. واستراتيجية الغزو هي التي تعنينا بوصفها أمة مغزوة حاليا بهذا الاستراتيجية التي وضعت النظرية لتفكيكها وبيان شروط مقاومتها بعمل على علم. فاستراتيجية الغزو وخاصة بعد العلم بما وصفت في الحروب الحديثة لا تكون مباشرة في أعيان الأحياز بل في تصورها في الاذهان: حرب لطيفة. فتبدأ بوحدة التراث لتفتته ثم وحدة المكان فوحدة الثروة فوحدة الزمان لتصل إلى وحدة المرجعية. والتراث يحقق وحدة الجماعة الروحية فيبدأ به. إذا فتت التراث يسهل تفتيت المكان بأهله لأن كل فتات في التراث يتحول إلى جماعة جزئية تريد الانفصال بحظها من المكان الذي كان واحدا فتضعف. فإذا ضعفت روحيا تفتت مكانها وهزل حظها منه ولما كان هو المصدر الاساسي للثروة تصبح جماعات المتناحرة عليه ضعيفة ماديا وروحيا ويبقى المرجعية. وهي خط الدفاع الأخير على لحمة الجماعة القصوى التي إذا تحللت انقرضت الجماعة. إنها مرحلة غزو دار الإسلام الحالية: والنظرية لفهمها واحباطها. والمرجعية ليست خط الدفاع الأخير فحسب بل هي الحيز المحدد لدور الأحياز الاخرى في الترتيب والمنازل وخاصة لدولها في مراتبها القيمية هي بدورها. وحتى يفهم القارئ القصد من تحديد المرجعية لتراتب الأحياز الاخرى قيميا فلينظر في علة تقدم أخوة العقيدة على أخوة الرحم في القرآن والسنة. فأحداث حروب النبي وصراع الابن مع أبيه مثلا أمر لا يمكن تصوره في الجاهلية وإلى اليوم ما يزال المسلمون في علاقة تعاطف قوي في العالم كله. ولا يزال الشرف عند المسلمين مقدما على المال وفوق كل القيم. ولايزال المسلمون لا يولون أهمية كبرى للمواطنة المتجاوز للحدود الترابية. والعلمانيون يعيبون على المسلمين اعتبار دار الإسلام وطنهم وتقديمها على مفهوم الوطن الملتصق بفتات منها معتبرين ذلك من نتائج تفتيت الامة. وهو السر في أن الأعداء عاجزون عن الانتصار على المسلمين: فإذا هزموا قوما منهم تصدى لهم غيره مثال ذلك الأبرز هو دور الأتراك في حماية الخلافة. الإسلام لن يهزمه بشر لأن كل شعوب العالم لها به صلة وكل من له صلة بالإسلام يشعر بأن وجوده الذاتي رهن عزته وهو مستعد للموت من اجلها: الجهاد. وتلك هي علة حربهم على الإسلام ورمزه محمد. لكن من يجاهد بغير علم بما بيناه في تأصيل الدولة ووظائفها يشوه الإسلام وقيمتيه: الاجتهاد والجهاد.
الكتيب