مقدمة
حددنا في محاولة الأمس مفهوم الاستراتيجية فأرجعناه إلى تطبيق الآية 60 من الأنفال بمعنى الاستعداد الرادع دون الحرب. ومن ثم فالاستراتيجا هي السياسة التي تهدف إلى تحقيق شروط السلم الدائمة ما أمكن ذلك.
والسلم لا تكون مع الغير من البشر في الداخل والخارج فحسب بل هي كذلك مع الطبيعي من الذات ومن المحيط.
لذلك فمفهوم الاستراتيجيا يتضمن مسائل قابلة للتحديد الجامع والمانع. فهي مهام العمل السياسي كما يحددها العقل وكما يؤيدها القرآن الكريم.
ومعنى ذلك أن ما نقوم به يجمع بين العلاج الفلسفي الخالص والاستئناس بالقرآن الكريم وممارسة الرسول الأكرم وخلفائه الراشدين.
محاولتنا ليست إلا محاولة وضع بناء عقلي فرضي استنتاجي لما يمكن أن يستخرج من فهم طبائع الأشياء التي يقتضيها تنظيم حياة البشر تنظيما يحفظ للإنسان حريته وكرامته وأمنه وأسباب عيشه والاستئناس بالآيات القرآنية المتعلقة بمفهوم شريعة الاستخلاف التي ينبغي أن يخضع لها استعمار الإنسان في الأرض ليعمرها ويحول دون الفساد فيها: وذلك هو معنى الحكم الراشد.
وما نعرضه هنا هو ثمرة التحليل النسقي الفرضي بوضع نظرية الأحياز الخمسة ثمرة الاستنتاج منها وليس الاستقراء من التاريخ -رغم الإشارات إلى بعض الأحداث التي تبين المطابقة بين النموذج النظري والحقيقة التي هو نموذج تفسيري لها. فمجالات السياسة الراشدة التي هي عينها موضوعات الاستراتيجيا التي نتكلم عليها هي المجالات التالية بتحديد يجمع بين ضربين من التحديد :
1- بمعيار الغاية والوسيلة (جوهر الفعل الاستراتيجي)
2-وبمعيار فروع الموضوع الذي تعالجه الاستراتيجيا (تعينات الاستراتيجيات الفرعية).
أولا: التحديد بمعيار الغاية والوسيلة
1-غاية السياسة الراشدة
فغاية السياسة الراشدة أو الاستراتيجيا هي تحقيق السلم أو منع الحرب أهلية كانت أو مع الغير إنسانا كان أو طبيعة من الذات أو من المحيط وحتى ومع الذات وتحقيق شروط السلم التي تجعل الناس إخوانا.
وإذن فالحرب هي غاية الشر ومنعها هو غاية الخير رغم أنها حرب في الحالتين : لكن الفرق بينهما هو الفرق بين الإصلاح في الأرض والفساد فيها وبين الدفاع عن الحق والعدوان عليه.
2-منطلق الرشد الاستراتيجي
ومنطلق البحث في الرشد الاستراتيجي تصنيف الأعداء وترتيب العداوات للتمكن من التعامل معهم سلما وحربا خلال تحقيق تلك الغاية بالوسائل المناسبة.
والوسائل المناسبة صنفان سابقة ولاحقة ثم مساوقة. السابقة واللاحقة هي أخلاق الاجتهاد أي مضمون الآية 60 من الأنفال التي تمكن الجماعة من إعداد أدوات الردع. أما المساوقة فهي أخلاق الجهاد أو الحرب بأخلاق الفروسية: لذلك وضع الإسلام أول محاولة لتأسيس قانون للحرب (تعليمات الصديق لجنده مثلا).
3-تصنيف الأعداء
ولا يتم تصنيف الأعداء إلا بتصنيف مجالات العداوة بمعيار العلاقة بالأحياز الخمسة التي تنتج عن تحول الحيزين الطبيعين إلى حيزين حضارين والحيزين الحضاريين إلى حيزين طبيعين. وارتهان صلاح التحويل وفساده بأصل الأحياز أو المرجعية الروحية للجماعة التي تطبق قيم العلاقة بالله والحق أو تحرفها.
4-تصنيف أدوات ردع العداوة
والتصنيفان السابقان يجعلان تصنيف أدوات ردع العداوة ممكنا إذا وصلناه بمعيار دور الأحياز في حياة البشر العداوة الناتجة عن الغيرية والتنافس على ما فيها من خيرات ومنازل يكون تقاسمها العادل شرط السلم بين الناس ومع المحيط وحتى مع الذات.
5-التوحيد بين مفهوم الاستراتيجا والسياسة الراشدة
وكل ذلك لا يفهم إلا بوصله بأساسه وعلة التوحيد بين مفهوم الاستراتيجا والسياسة الراشدة. ومن ثم فأداة الأدوات أو أصلها كلها -حتى إنها أصبحت رأس الغايات في الجماعات ذات الرشد السياسي- هي الشريعة أو الدولة بوظيفتيها : الحماية والرعاية.
ثانيا: تحديد الفروع بمعيار الأحياز
فإذا طبقنا هذه المبادئ أمكن لنا أن نحدد خمسة مجالات استراتيجية كبرى بها تبنى شروط الحماية والرعاية للجماعة أعني وظائف الدولة وغايات الاسترايتجيا في كل عمران بشري بلغ إلى درجة الوعي بما يسميه ابن خلدون معاني الإنسانية :
1-سياسة المكان
سياسة المكان وتحويله إلى جغرافيا أو استراتيجية النزول في المكان (=الجغرافيا).
2-سياسة الزمان
سياسة الزمان وتحويله إلى تاريخ أو استراتيجية النزول في الزمان (=التاريخ).
3-سياسة الثروة المادية
سياسة الثروة المادية واستراتيجية التقسيم العادل لأسباب العيش في الجماعة أو استراتيجية التوزيع العادل للثروة (العدل والتحرر من الطبقية).
4- سياسة الثروة الروحية
سياسة الثروة الروحية واستراتيجية التقسيم العادل لاسباب الكرامة في الجماعة أو استراتيجية التوزيع العادل للثراث (الاحترام والتحرر من العنصرية).
5-أخيرا سياسة الحكم الراشد
أخيرا سياسة الحكم الراشد -وكان من المفروض أن نبدأ به لأنه هو في الحقيقة ما يتحقق في الأربعة التي ذكرناها قبله. لكننا نؤخره لأنه هو بدوره له شروط غير التي ترد في ما تفرع عنه في الأربعة السابقة.
خاتمة
الحكم الراشد و الشريعة
فالحكم الراشد هو جوهر الشريعة التي أساء إليها الفقهاء لما تصوروها مقصورة على منظومة الأحكام الشرعية فحصروها في إحدى ثمراتها لأن الأحكام الشرعية لا يمكن تطبيقها إلا بشرط أن تكون الدولة هي نفسها مبنية على الحكم الراشد كما نبين إن شاء الله أي على سياسة الجغرافيا والتاريخ والثروة والتراث والحصانة الروحية التي تمنع الإخلاد إلى الأرض.
الشريعة
فالشريعة هي- قبل كل شيء وبعد كل شيء -قرآنيا وممارسة من النبي لما أسس أول دولة ذات دستور مدني قرآني اساسه جوهر الحرية والعدل والأمانة ومنزلة الإنسان المسؤول الوحيد أمام ربه- سياسة الحكم المدني المؤسس على التعالي على الإخلاد إلى الأرض واعتبار الناس سواسية قيسا للعلاقات السلطوية في الدنيا بها في الآخرة أي جعل الحكم السياسي في الدنيا مثاله الحكم الخلقي في الآخرة فيكون الله الذي هو أحكم الحاكمين نموذج كل من يوليه الناس دور الحكم بينهم في الجماعة الواحدة (القانون المحلي) وبين الجماعات كلها (القانون الدولي).
الفقه و الحكم الراشد
ومعنى ذلك أن الفقه في أغلبه عديم الأساس لأن أصحابه ينسون هذا الأساس ويريدون تطبيقه في دولة لا صلة لها بهذا المفهوم أي الحكم الراشد: لا معنى لقانون من دون دولة تؤسسه.
الفقه الإسلامي ينتسب إلى دولة أهملها الفقهاء وحاولوا المحافظة عليه دون شرطه: في دولة الاستبداد والفساد الشريعة تصبح أداة تبرير وليس أداة تشريع: هي تضفي الشرعية على ما يناقض الشريعة في جوهرها.
مثال أحكام العلاقات الزوجية
ولعل افضل رمز لهذا هو تطبيق أحكام الشريعة في العلاقات الزوجية. فهذه الأحكام لا تكون ذات معنى إلا بفرض أن الزوج مسلم بحق أي يطبق حدود الله كما وردت في الشريعة: لأن ما يتصوره حقوقا -مثل القوامة- مشروط بأن يكون مؤمنا بحق ومطبقا لأخلاق القرآن. أما أن يكون جاهليا ثم يستفيد مما يدعيه حقوقا ويقره الفقهاء على ذلك فهذا عين تحريف مفهوم الشريعة.
مثال علاقة المواطن بالحاكم
وقس عليه علاقة المواطن بالحاكم: فكل الاستبداد والفساد علته تطبيق الأمر بالطاعة دون الشروط والاكتفاء بشرط لا معنى له لأن الحاكم يمكن أن يقوم به نفاقا أي عدم معصية الله جهرا. لكنه عاص في كل سلوكه من حيث هو حام.
وإذن فالفقه تحول إلى تبرير الظلم والاستبداد والفساد في كل البلاد.
وبذلك فما سندرسه في المحاولة بالتوالي هو هذه الفروع الخمسة التي تتفرع إليها نظرية الاستراتيجيا من حيث هو جوهر السياسة الراشدة في الجماعة التي أسست شروط حمايتها ورعايتها الذاتيتين المغنيتين عن التبعية أعني جوهر ما ينقص العرب والمسلمين حاليا.
وتلك هي علة سعينا لعلاج القضية علاجا نسقيا يستند إلى التحليل العقلي والتأويل النقلي.
إعجاب تحميل…