نظرية الأحياز الخمسة : مدخل فلسفي تاريخي للوصل بين مسائل الفصلين الأول و الثاني

تنبيه مدير الصفحة :

من لا يريد الغوص في الخلفية الفلسفية والتاريخية لنظرية الاستراتيجيا من حيث هي جوهر السياسة ووظائف الدولة المحققة لحماية الجماعة ورعايتها فلا حاجة له لفتح هذا الملف. وخاصة أولئك الذي يشكون مما يتصورونه تعسيرا مقصودا وليس سعيا بالقدر المستطاع لتيسير ما هو بذاته شديد العسر. فمجرد الوصل بين جوهر السياسة وجوهر الاستراتيجيا بتوسط وظائف الحماية والرعاية التي هي جوهر الدولة سيجد القاريء نفسه قد خرج عن المعهود ويعتبر ذلك تعسيرا وليس فتحا لأفق جديد يبين ما يخفيه التبسيط العامي الذي يفسد العقل والنقل في آن.

مدخل فلسفي تاريخي للوصل بين مسائل القسم الأول ومسائل القسم الثاني

فرغنا من القسم الاول في كلامنا على الاستراتيجيا تأسيسا وتعليلا لعلاقتها بنظرة الدولة القرآنية أولا وبالفرضية العلمية التي قدمناها لنفهم هذه النظرية والتراث العلمي الإسلامي المتعلق بها ثانيا.

المدرسة النقدية للفكر الفلسفي الموروث عن اليونان

والمقصود بالتراث العلمي الإسلامي في هذا المجال عمل المدرسة النقدية للفكر الفلسفي الموروث عن اليونان ممثلة بالغزالي وابن تيمية وابن خلدون في الفلسفتين النظرية والعملية. لكن ما يعنينا في هذا البحث هو الفلسفة العملية. فهذا التراث العلمي في الفلسفة العملية يختلف تماما عما كان يتداوله الفلاسفة بالمعنى التقليدي في حضاراتنا (من الفارابي إلى ابن رشد).
ولا ننفي أن الفكرين قد تبادلا التأثير وأن فكر الفلاسفة خاصة فيه دون شك شيء من فكر المدرسة النقدية مع غلبة تبعيتهم للمدرسة الأفلاطونية الأرسطية في شكلها المزيج الموروث عن المدرسة الهلنستية.

  1. فالمدرسة النقدية تأثرت بالفكر الفلسفي الموروث عن اليونان شكلا أعني من حيث المشتركات المنهجية وحتى من حيث علم اجتماع المعرفة (تحديد منزلة العلم والعلماء المتحرر من حصر المعرفة في المجال الديني).
  2. والمدرسة الفلسفية تأثرت بالفلسفة النقدية مضمونا أعني من حيث المشتركات المطلبية وحتى من حيث الهموم الوجودية (إيلاء أهمية لدور الخطاب الديني في الحياة السياسية والمدنية وخاصة ظاهرة الوحي والنبوة التي كانت ترد في فكر أفلاطون وأرسطو إلى الحماسة اللاعاقلة التي من جنس الفكر البدائي).

والتراث الفكري العملي الذي ننطلق منه في كلامنا على الفلسفة السياسية والاستراتيجيا التي تقتضيها بل وتتطابق معها ما كان ليكون كما وصفنا لو لم يكن مبنيا على إعادة النظر في الفلسفة النظرية اليونانية إعادة نظر قلبت العلاقة بين علوم الطبائع وعلوم الشرائع.
وهو قلب للعلاقة رمزنا إليه بما يعبر عن نظرة وجودية مختلفة تماما عن النظرة التي تأسست عليها الفلسفة القديمة كلها (منذ كتابنا حول السببية عند الغزالي 1972). فقد اصبح ما سميناه بما بعد التاريخ بديلا مما يسمى ما بعد الطبيعة في هذا التراث واعتبرنا ذلك راجعا لتأثير القرآن الكريم في الرؤية الوجودية وما يترتب عليها في نظرية المعرفة النظرية والعملية.

لست غافلا على أن الكثير لا يصدقون مثل هذا الكلام بعضهم بسبب العقد الناتجة عن الهزيمة التاريخية التي مرت بها الأمة بسبب الانحطاطين (الذاتي والموروث عن التوظيف الاستعماري للحداثة) وبعضهم بسبب الجهل المركب عند المتعالمين الذين لم يغوصوا في اسرار عمل الفكر الإنساني.
ذلك أن المقابلة هي في الحقيقة ليست مباشرة بين الفلسفة والدين بل هي بينهما بوصفهما حدين متطرفين إذا أهملت الوساطة بينهما الوساطة التي لاتفهم إلا بدور فاعلية الرمز.
وسر هذه الفاعلية هو الذي يعتبره القرآن في أمثولة الاستخلاف علة أهلية آدم له. فرغم ما قالت الملائكة في آدم (يفسد فيها ويسفك الدماء) وما قال إبليس فيه (من تراب دون معدنه من النار) فإن الله اعتبره أولى بالاستخلاف من كل المخلوقات لأنه علمه الأسماء كلها.
علم الأسماء كلها رمز للفاعلية الرمزية التي تتوسط بين الفلسفة والدين حدي المعرفة ليس مباشرة بل بفضل ضربي الإبداع الإنساني : الابداع الجمالي والإبداع الجلالي. والأول رمزه الإبداع الشعري والثاني رمزه الإبداع الشرعي أو الأخلاق بمعنى قوله صلى الله عليه وسلم “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” التي هي الاستراتيجيا السياسية لتحقيق شروط استعمار الإنسان في الأرض بقيم الاستخلاف.

لذلك فالرسالة الأخيرة كانت معجزة رمزية وليست معجزة بخرق العادات : إنها معجزة أعجازها في كونها تخاطب الإنسان بجوهره الذي هو هذا الوعي الرمزي بعدم شفافية الوجود وبحدود القدرة مع لا حدود الإرادة أو بتجاوز المنشود للموجود سر كل الإبداعات الإنسانية.
و هذا النوع الجديد من الإعجاز الذي يعتمد نظام العادات لا خرقها استفهاما وإفهاما لطبيعة الرسالة بما هي تشريع يحقق شروط الاستخلاف تلك هي معجزة الدين الخاتم وتجاوز الحرب الدائمة بين الحدين المعرفيين الأعظمين الفلسفة والدين بتوسط الجمال والجلال والجامع هو سر أسرار الإنسان : الإسلام أو نظرية الاستعمار في الأرض بأخلاق الاستخلاف.

ولذلك فإنه يمكن بعبارة حديثة أن أقول إن المدرسة التي أعتمد على تراثها هي التي تقدم علوم الإنسان والتأويل على علوم الطبيعة والتحليل : أي إن الطبيعة تفهم بالإنسان وليس الإنسان بالطبيعة والشرائع متقدمة على الطبائع لأن علم الطبائع هو نفسه شرائع إنسانية فرضية (النظريات العلمية) حول شرائع إلهية عقدية (سنن الوجود). فهذه لا تتحدد إلا في إطار تلك نظريا وعمليا :

  • فنظريا كل تحليل يتسلم تأويلا معينا لمنطلقاته المفهومية ولطبيعة علاقتها بموضوعها الذي يدرسه بها.
  • وعمليا ليست النظريات والعلوم إلا أداة من أدوات التكيف الحيوي للإنسان من حيث هو حيوان ناطق ومتعال على شروط حياته المتناهية الفانية.

ولعل أول عمل أكاديمي عبرت فيه بصراحة عن هذا التوجه كان رسالتي حول مفهوم السببية عند الغزاليLe concept de causalité chez Ghazali. لكن تعقيد المحاولة وغرابتها في مناخ من الوضعية والماركسية بين النخب العربية وحرب اليسار العربي على الغزالي وابن رشد (بعد بلع خرافتين سبق أن حللتهما لرنان وبلوخ) -إذ تم تهميش العمل بسبب الحرب عليه بل وحوربت بسببه حتى زعم بعضهم أني اخطر على الفلسفة من الغزالي وظلاميته- حالا دون بروز هذا الخيار بوضوح : فقد اتهمني حداثيو العرب وفي تونس خاصة بأني ظلامي وأن توجه البحث يمثل خطرا على التنوير.
لذلك فالموقف لم يصبح محل جدل فكري إلا بداية من مناقشة رسالتي حول الكلي وإصلاح العقل وبعد أن نشرت بعض الترجمات وخاصة حول كواين ولايبنتز وهرتون.
ففي رسالتي حسمت خرافة مثلث الجابري فبينت وهاء السلم الذي وضعه المرحوم عابد الجابري في تصنيفه للخطابات المعرفية الثلاثة ذي النزعة الوضعية وسيء الفهم لنظرية الابستمي الفوكلدية. لذلك كان المرحوم قد جن جنونه وقد كان أحد أعضاء لجنة المناقشة (الكثر من الطلبة حضروا حالته العجيبة يومها). فقد بينت وهاء هذا المثلث -البيان والعرفان والبرهان- وأنه حتى لو قبلناه -وأنا أرفضه جملة وتفصيلا- فينبغي قلبه ليس من منظور الفوكلدية فسحب بل حتى من منظور المنعرج اللساني حديثا فضلا عن كون كل من له علم باللسانيات والمنطق يعلم أن اللغة الطبيعية -لغة البيان -أكثر تعقديا من اللغة الصناعية- لغة البرهان-.
لكني طبعا لم أختر هذا التوجه انطلاقا من هذين المنظورين بل من هذا المنظور اللساني والمنطقي (كما بينت في كتاب الشعر المطلق) ومن ثورة متقدمة هي ما سميته بالمدرسة النقدية العربية (كما بينت في ضميمة المثالية الألمانية).
فلا يمكن أن يكون للخطاب البرهاني الأولوية على الخطاب البياني لأنه أدنى أنواع الخطاب شمولا وأقلها تعقيدا ومن ثم فهو لبساطته لا معنى له إلا بوصفه أداة عرض للمعرفة وليس مسار غوص في أسرارها. ولما كان البرهاني لا يتصور إلا ساكتا عن منطلقه التأويلي لمقدماته المفروضة حقائق ذاتية لموضوع البرهان -أي تسليم ميتافيزيقا حول شفافية الوجود تجعل مدارك العقل مطابقة لقوانينه- وليست فرضيات تأويلية مؤقتة فإن التحليلي هو في الحقيقة تأويلي غير واع بمفروضاته التأويلية. فيكون البياني الذي هو محاولة لنقل التأويلي المضمر إلى تأويلي صريح متقدما على كل خطاب.
أما ما يسمى بالعرفاني فليس هو إلا دعوى تجاوز البرهاني الذي رددناه إلى البياني اللاواعي بمقدماته التأويلية للغفلة عن التوسطين الجمالي والجلالي. ومن ثم فهو اعتقاد غفل بأن التأويلي يثمر معارف متجاوزة للمعرفة الإنسانية الوحيدة الممكنة وهي التأويلية المحتكمة إلى التجربة إما الحسية أو الذوقية (كما بينا في الشعر المطلق والإعجاز القرآني) في الجماليات (الفنون الجميلة) والروحانيات (وهي من جنس الفنون الجميلة في التجربة الوجودية كالوحي).
وتلك هي العلة التي جعلتني أعتبر نظرية الرمز وفاعليته متقدمتين على كل الفاعليات الإنسان الفردية وخاصة الجماعية مع صلتها بما تكلمنا عليه حول أهلية آدم للاستخلاف في أمثولته القرآنية. وقد وصلناها بكلامنا على الفلسفة السياسية والاستراتيجيا في الجزء الرابع أي قبل الأخير من القسم الأول.

والجدير بالذكر أنه حتى نسبة هذا الدور لما بعد الطبيعة في الفلسفة فإنها هي بدورها ثمرة نقلة نوعية حدثت خاصة في المرحلة الإسلامية من تطور الفكر الفلسفي التقليدي. والفضل يعود إلى ابن سينا الذي حلل مفهوم “مابعد” ليبين أن الأجدر به أن يسمى “ما قبل” بمعنى أنه هو العلم المؤسس أو العلم الباحث في شروط تأسيس المعرفة عامة والمعرفة الرئيسة خاصة لأن نظرية المعرفة اليونانية عامة والأرسطية خاصة تجعل مبادئ كل علم مؤسسه في علم متقدم عليه. ولقطع التسلسل كان لا بد من وجود علم يؤسس مبادئه ومباديء كل ما ينبغي عليه من بعده.

ولا بد هنا من الاعتراف بأن أول من حاول تأسيس هذا العلم ولم يفلح بالحد الذي حصل عند ابن سينا هو الاسكندر الافروديسي الذي سعى إلى بيان وحدة مضمون كتاب ما بعد الطبيعة ليجعله علما رئيسا كما قصده أرسطو وحققه ابن سينا وحاول ابن رشد مناقشته دون أن يضيف شيئا يذكر لأن مسعاه ظل دون ما توصل إليه ابن سينا (مقدمة تفسير مقالة اللام من تفسيره الكبير).
فقد كان أرسطو مترددا بين نسبة دور العلم الرئيس والمؤسس إلى ما بعد الطبيعة أو إلى السياسة (أخلاق نيقوماخوس) وفضل النسبة إلى مابعد الطبيعة التي بقيت كذلك وتبناها الفكر الفلسفي الإسلامي بصورة جعلتها بحق تصبح العلم المؤسس وليس مجرد كناشات جامعة لبحوث متفرقة كما كانت عند أرسطو.
ولما كانت محاولة الأسكندر لم تؤت أكلها فإن المؤسس الحقيقي إذن لهذا الدور ليس أرسطو ولا الاسكندر بل هو ابن سينا خاصة في ما يسميه بالإلهيات أعني الشكل الميتافيزيقي الذي ظل سائدا إلى نهاية العصر الكلاسيكي وبداية النقد الكنطي.
ولذلك كانت بداية القطيعة -أي بيان الطابع الجدلي لا العلمي لما بعد الطبيعة- القطيعة مع هذا الوجه من فكر ابن سينا كذلك رغم أنه هو الأقرب إلى خصوصيات فكر الحضارة العربية الإسلامية (حتى باعتراف ابن تيمية مدحا وابن رشد قدحا).

وقد اعتبرت المنعرج الحقيقي في الفكر الفلسفي الإسلامي صادرا ليس عن المنازلة بين الغزالي وابن رشد بل عن المنازلة بين ابن سينا والغزالي. فالنقد الرشدي للغزالي نكوص إلى دغمائية تنسب إلى أرسطو وما هي بالأرسطية لأنها في الحقيقة ناتجة عن انحطاط الفكر الأرسطي من بعده في المدارس الهلنستية في حين أن نقد الغزالي لابن سينا والفارابي كان تجاوزا لتعثر الفلسفة القديمة أو بصورة أدق لمآل الحلين الأفلاطوني والأرسطي إلى الحل السوفسطائي المتنكر حتى قبل الدغمائية المدرسية الهلنستية :
فظن أفلاطون وأرسطو السفسطة ناتجة عن سوء نية من السوفسطائين وليس عن شكوك حقيقية في طبيعة المعرفة وعلاقة العقل بالوجود.
وتوهمهما أن العقل الإنساني يمكنه بالمنطق وتصحيح المنهج أن ينفذ إلى حقيقة الوجود على ما هو عليه يحولان دون إدراك المعضلة الحقيقية.وهذه المعضلة لم تعالج العلاج الملائم إلا من منطلق النقد الديني للميتافيزيقا النقد الذي مكن من تجاوز عقدة الفكر القديم.
فنفي الشفافية المطلقة للوجود وحدود المعرفة العقلية إذا أرادت أن تبقى عقلية كان بدافع ديني لتأسيس إمكان ما يتجاوز المعرفة العقلية. لكن النتيجة -وإن بصورة غير مباشرة لأنها لم تكن بالقصد الاول في النقد الديني للخطاب الفلسفي- كانت نتيجة معرفية. وهي تتعلق بفهم ما في الوجود من عدم شفافية وما في المعرفة العقلية من نسبية فاقتضت إعادة النظر في نظرية الوجود والمعرفة.
وإعادة النظر هذه تعني اكتشاف منظور شامل -هو أساس موقفنا- لا يقابل بين الدين والفلسفة بل يجد الوساطة التي تجعلهما حدي المعادلة المعرفية والإبداعية الإنسانية (أي وساطة مجالي الجمال والجلال) والوحدة التي تجمعها أربعتها والتي هي جوهر المعجزة المحمدية : الإنسان المستعمر في الأرض بقيم الخلافة أو “ما بعد الأخلاق » التي تحررنا من المقابلة بين الإلهيات الفلسفية والإلهيات الدينية والمقابلة بين العمليات الفقهية (السياسة) والعمليات الصوفية (الأخلاق) ومن ثم التحرر من علل أزمة الفكر الإنساني على الأقل كما تعينت في تاريخ فكرنا العربي الإسلامي.
فأفلاطون وأرسطو في نقدهما للسوفسطائية بهذا الظن والوهم أطلقا من حيث لا يعلمان الحل السوفسطائي الذي يظنان نفسيهما قد قضيا عليه. فقد عادا إلى نظرية الإنسان مقياس كل شيء وجودا وعدما كما بين ابن تيمية الذي يعتبر الحل الميتافيزيقي لا يعني إلا جعل الإنسان مقياس كل شيء وبعده ابن خلدون الذي يعتبر الحل الميتافيزيقى حصرا للوجود في الإدراك.
لذلك فنقد الغزالي ووضعه نظرية “طور ما وراء العقل” مفهوما حدا يبين عدم شفافية الوجود وضرورة وعي العقل بحدوده -وأفضلية هذا الحد من حد الشيء في ذاته الكنطي- يمثل التحول الذي نعتبره أهم ثورة عقلية فلسفية في تاريخ البشرية.
ولا شك أن هذا التحول لم ينل حظه من الفهم والاستثمار لإعادة النظر في تاريخ الفكر الفلسفي بسبب العقد التي سيطرت على النخب الحداثية التي تصورت نقد العقل نفيا له وليس تدقيقا لدوره بصورة تجعله أكثر فاعلية.
ومن هذا الباب سخف المعتزلة المحدثة والرشدية المحدثة التي تتصور العقلانية الوسيطة عقلانية حقيقية في حين أنها دغمائية لم تدرك معنى عدم شفافية الوجود وحاجة العقل لمراجعة دعاواه حتى يتمكن من علاج عدم الشفافية الذي يمكن التعامل معه بعد التخلص من سذاجة العقلانية البدائية كالتي تقول بها المعتزلة وابن رشد.
وهذا التحول النقدي الذي بدأ مع الغزالي واكتمل مع ابن تيمية وابن خلدون متقدم حتى على ثورة ديكارت وثورة كنط لأنه يتجنب خطأين :
أحدهما منطقي إذ كيف يمكن الكلام على نفي علم الشيء في ذاته ثم الزعم بتقديم نظرية في المعرفة هي علما بها بما هي في ذاتها؟ ذلك أنه لو صحت فرضية الشيء في ذاته الكنطية وكان علم الإنسان لا يعدو المظاهر لكان علم كنط بالمعرفة علما بمظاهرها وليس بحقيقتها.
والثاني وجودي وهو ناتج عن هذا الخطا المنطقي الذي برزت نتائجه بعد كنط أعني اضطرار الفكر الألماني -في المثالية من بعده- إلى التخلي عن الشيء في ذاته بطريقتين ولدتا الوضعية النظرية (على سبيل المثال أوغست كونت : النزول بالعمل إلى النظر بمفهومهما الكنطي لفرض نسبية العلم الوضعي على الأخلاق) والفاشية العملية (على سبيل المثال ماركس : الصعود بالعمل إلى النظر بمفهومهما الكنطي لفرض إطلاق العلم الوضعي على العمل).

تأسيس الحل المتقدم على النقدية

ما وصل إليه ابن تيمية وابن خلدون في النظر وفي العمل غاية للمدرسة النقدية العربية حاولنا تأسيسه في مقال ما بعد الأخلاق بصورة جامعة بين النظر والعمل.
ونحن نطبقه هنا في العمل وهو حسب رأينا حل يمكن من وصل الفكر العربي الإسلامي في فلسفة السياسة بالفكر الراهن بل ويمكن من منافسته. فهو يتجاوز النقد الهيجلي لفلسفة الأنوار والنقد النيتشوي لفلسفة الأخلاق دون الوقوع في إطلاقية الأول ومنظورية الثاني.
لذلك فهو حل يمكن من إعادة النظر في وهم الوصل المباشر وغير الأمين بين الفلسفة الأوروبية الحديثة والفلسفة اليونانية وصلا يتجاهل ما نريد بيانه من ثورات حصلت في المدرسة النقدية العربية التي بينا فضلها في ضميمة المثالية الألمانية ويفتح آفاقا جديدة للفكر الإنساني. ونحن نعتمد نتائج هذا التحول الثوري في نظرة الإنسان للوجود وللمعرفة في آن.

ولا يمكن أن نتجاهل محاولة أوغست كونت في تقديم حل يجمع بين المدخلين اللذين تردد بينهما أرسطو ولكن بصورة تعتمد على منطق الرد الذي لم يتجاوز المسألة الوضعية إلى ما يتجاوزها أعني المسألة التأويلية.
فالتردد الأرسطي بين الميتافيزيقي والسياسي علمين رئيسين (ارشيتاكتونيك) حسمه اوغست كونت بأن جعل الفلسفة الوضعية المدخل البديل من الميتافيزيقا و علم الاجتماع البديل من السياسة وبأن اعتبرهما كليهما رئيسيين أولهما في النظر والثاني في العمل.

لكن الحل الوضعي أغفل المنظور التاويلي الذي لم يتم اكتشافه ثانية إلا في محاولات تأسيس علوم الإنسان في المدرسة الألمانية التي حاولت الوصل بين ابستمولوجيا علوم الطبيعة Naturwissenschaften وابستمولوجية علوم الإنسان Geisteswissenschaften أي بين التفسير والتحليل والفهم والتأويل.
وهو ما ييسر علينا الوصل بين الفكر العربي الإسلامي في المدرسة النقدية التي نؤسس عليها بحوثنا والفكر الغربي الحديث إذ يلتقيان في الإدراك العميق والمتواضع لعدم شفافية الوجود شرط تواضع العلم وفاعليته الحقيقية.

فروع الاستراتيجيا

وننتقل الآن إلى الكلام في الاستراتيجيا ذاتها فنعين تفريعاتها التي ستكون موضوع هذا القسم الثاني.
فرغنا من تأسيسها في القسم الأول وبينا المضمون الحقيقي لهذه النظرية وصلتها المباشرة بهذا التراث أولا وبالقرآن والسنة ثانيا مع بقائنا في مجال الفكر الفلسفي الخالص الذي لا يعني خلوصه الانفصال عن الفكر الديني لأن ذروتهما واحدة ومطلوبهما واحد وإن اختلفت اساليب العلاج ودوافعه (وهذه المسائل ليست مجرد مسلمات في عملي بل دللت عليها في غير موضوع وصنفت فيها كتابا بعنوان وحدة الفكرين).ولنختم هذه المحاولة للوصل بين القسمين بتقديم ثبت في فروع الاستراتيجيا كلها ببيان أقسامها وفروع كل قسم منها مع التذكير بأن مفهومنا للاستراتيجيا هو عينه مفهومنا للفلسفة السياسية من حيث هي علم العلاج المحقق لوظيفتي الدولة أي حماية الجماعة والفرد ورعايتهما مطبقا على الداخل والخارج بمعنى أن السياسة هي بالجوهر كونية لأن كل دولة تعالج داخلها وعلاقته بخارجها فتكون بذلك حتما من جنس جانوس ذات وجهين سياسيين داخلي وخارجي وتلك هي علة كونها استراتيجيا بالجوهر :

  1. القسم الاول: الفروع المتعلقة بسياسة الأحياز وهي خمسة.
    1. الفرع الأول : استراتيجيا حماية المرجعية والهوية
    2. الفرع الثاني: استراتيجيا حماية المكان
    3. الفرع الثالث : استراتيجيا حماية الزمان
    4. الفرع الرابع : استراتيجيا حماية سلم الطبقات ورعايته
    5. الفرع الخامس : استراتيجيا حماية سلم المنازل ورعايته
  2. القسم الثاني : الفروع المتعلقة بوظائف الدولة وهي خمسة
    1. الفرع السادس : تشريح وظائف الدولة وعلاقاتها المتبادلة
    2. الفرع السابع : مقومات الحماية الداخلية
    3. الفرع الثامن : مقومات الحماية الخارجية
    4. الفرع التاسع : مقومات الرعاية التكوينية
    5. الفرع العاشر : مقومات الرعاية التموينية
  3. القسم الثالث : الفروع المتعلقة بجسد الدولة التنفيذي
    1. الفرع الحادي عشر: جسد الدولة التنفيذي
    2. الفرع الثاني عشر الفضاءان الطبيعيان: التعين المكاني والتعين الزماني
    3. الفضاءان الحضاريان : التعين بمقتضى الثروة التعين بمقتضى التراث.
    4. الفضاء التنفيذي والتشريعي أولا
    5. الفضاء التطبيقيي والإنجازي ثانيا
  4. القسم الرابع : الفروع المتعلقة بتوحيد الهوية من حيث هي جهاز تكيف رمزي بمعنى شروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف
    1. الفرع السادس عشر : الهوية والحصانة الروحية
    2. الفرع السابع عشر : اللغة
    3. الفرع الثامن عشر : العملة
    4. الفرع التاسع عشر : الموازين والمكاييل.
    5. الفرع العشرون : الأخلاق الموضوعية.
  5. القسم الأخير :الفروع المتعلقة بالنخب أي بغاية تلاحم الجماعة من خلال تعين القدر الضروري من صفات الكمال الخمس التي تكون في الجماعة في النخب بوصفها فرض كفاية للجماعة لكنها لا تكون كذلك إلا بوصف جمعها في الفرد فرض عين. فكل فرد له منها جميعا نزر. أما الجماعة فتتقاسمها كما تتقاسم العمل.
    1. القوى السياسية وتمثل الإرادة
    2. القوى المعرفية وتمثل العقل
    3. القوى العملية وتمثل القدرة
    4. القوى الحيوية وتمثل الذوق
    5. القوى الوجودية وتمثل الحكمة والدين.

ولا بد من الإشارة إلى أمر شديد الأهمية :
فالقسم الأوسط المتعلق بكيان الدولة من حيث هي جسد تنفيذي يلتفت إلى ماقبله وإلى ما بعده لأنه يمثل في الحقيقة الجهاز الذي تبدعه الجماعات للوصل بين مقومي الوجود الإنساني.
فهذا الكيان هو الذي يكون فيه الطبيعي والحضاري متلاحمين لأن الدولة التي هي جهاز آلي من إبداع الإنسان هي في آن المجسم الحي لفضاءات الوجود الطبيعية والحضارية التي تتحيز فيها الجماعة. وهي حصيلة ما تقدم عليها أي القسمين الأول والثاني. لكنها لا تكون حصيلة إلا بفضل ما تأخر عنها أي القسمين الرابع والخامس. وكل سر السياسة والاستراتيجيا يتمثل في فهم هذا الجهاز الآلي الذي يصبح كيانا حيا لكأنه كائن عضوي بفضل فعاليات الرابع والخامس في مفعولات الأول والثاني.


نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي