تنبيه مدير الصفحة
نواصل نشر محاولة الأستاذ في الاستراتيجيا بمعناها العميق أعني بسياسة الحماية والرعاية شرطين للحرية وعدم التبعية من منطلق فلسفي وديني. ولا فائدة من التذكير بأن من لا يرغب في الغوص إلى جليل المعاني لا حاجة له أن يتعب نفسه لئلا يعاني.
مقدمة
منزلة مسألة المرجعية والهوية
كما أسلفنا في تحديد المسائل الخمس والعشرين من القسم الثاني من الاستراتيجيا فإن الكلام في مسألة المرجعية والهوية كان من المفروض أن يكون آخر المسائل الفرعية. فهو أصلها جميعا. ومن ثم فالكلام فيه يقتضي عرضها حتى نحدد فيم هو أصل لها. فالفرع الأول في عرضنا هو في الحقيقة الفرع الآخر. فلم نقدمه إذن؟
إن فرع” استراتيجيا حماية المرجعية والهوية” ينبغي أن يقدم لعلتين :
- أولا لأن الأمة اليوم بعد كل الهزائم التي حصلت لم يبق فيها صامدا إلا المرجعية والهوية وتعلقها بها.
- وثانيا لأن العدو لا يمكن أن يعتبر نفسه قد انتصر علينا ما لم يقض على الهوية وهذا التعلق بها.
وهذا التعلق يقاس بصمود الأمة وعدم التسليم بالهزيمة ومواصلة الصمود في حرب تؤمن أنها لن تنهزم فيه أبدا بفضل تلك المرجعية.
لذلك فإن هذا الفصل الثاني من مسائل الاستراتيجيا الفرعية ينطلق من أمرين ثابتين ولا يحتاج إلى طويل تدليل عليهما :
- الأمر الأول : هو أن الحرب الجارية حاليا في دار الإسلام عامة وفي قلبها -الوطن العربي- خاصة هي في هذه المرحلة المتعلقة بمحاولة تخريب المرجعية والهوية والتعلق بهما من الداخل بالتشويه الذي يحد من هذا التعلق فينهي المعركة لصالح العدو.
- الأمر الثاني هو أن نظرية الحرب التي وضعها كلاوسفيتز قابلة للتطبيق عليها خاصة إذا طورناها لنبين شروط هذه الصحة وقابليتها للعكس في حالتنا بسبب خصوصية المرجعية والهوية الإسلاميتين ومطالب معركة الاستئناف.
نظرية الحرب الإسلامية
قابلية عكس نظرية كلاوسفيتز في الحالة الإسلامية
انكسار الجيوش و احتلال موارد القوة
ونظرية كلاوسفيتز قابلة للعكس لأن المرحلتين الأولى (انكسار الجيوش) والثانية (احتلال موارد القوة) مضاعفتان في الحالة العربية الإسلامية لما نبين من الأسباب.وكان يمكن اعتبار الحرب كذلك بالنسبة إلى جميع البشر لكن الإسلام وصلها بعقائد سنحاول بيان دورها.
فالمرحلتان الأوليان اللتان تقع فيهما الهزيمة وتعدان للهزيمة النهائية -لا تنطبقان في حضارتنا لأنهما قابلتان للرجع ليس بالمرجعية والهوية وحدها بل بخاصية تجعل فاعليتها في المراحل السابقة عليها التي لم تحصل فيها الهزيمة التي يتصورها العدو قد حصلت.
فالحرب يمكن أن تكون كما وصفها كلاوسفيتز في حالة خوضها من قبل الدول وحدها. لكنها عندنا تخوضها الدول ومعها الشعوب أولا وحتى إذا انهزمت الدول فإن الشعوب تواصل خوضها بنفسها دون دولة إلى أن تستعيد شروط النصر-وأحيانا ضد العدو وضد ممثلي الدولة الذين استسلموا له.
حضور فاعلية المرجعية والهوية في المرحلتين الأوليين
فحضور فاعلية المرجعية والهوية في المرحلتين الأولين يتجلى بمجرد حصول ما يتصور هزيمة للجيش وانفراط عقد الجيش النظامي واحتلال للأرض (المرحلتان الأوليان في نظرية كلاوسفيتز). وما كان ذلك ليكون كذلك لو لم يكن الإسلام قد جعله أساس مفهوم الجهاد بما هو فرض عين على كل مسلم.
ومعنى ذلك أن هم الجماعة ليس مقتصرا على الحكام بل إن كل منتسب إليها يعتبر نفسه ممثلا لها ومدافعا عنها. وفي ذلك شيء من الفطرة التي يشترك فيها جميع البشر. لكنه لم يصبح مبدأ عقديا صريحا إلا في الإسلام.
الفلسفة الحربية الإسلامية
فمنذ النشأة الأولى جمعت الفلسفة الحربية الإسلامية بين نوعين من الحرب (حتى في الجيش النظامي) جمعا هو سر استحالة هزيمة المسلمين لأنه صار جزءا من المرجعية العقدية :
- الحرب العربية التقليدية (الكر والفر): لذلك فالجيش ليس دولة في الدولة بل هو الشعب كله يحارب باسم المرجعية والهوية وليس باسم نظام سياسي معين بل باسم الأمة كلها وتلك هي علة التطوع العام.
- والحرب العادية (الحرب النظامية) :فالجيوش لا تحارب بدون قيادة سياسية ودولة وهي إذا حاربت من دون قيادتها فلا شرعية لها إلا إذا كانت حربها تمردا على الاستسلام للعدو.
انهيار الجيوش الرسمية وحتى الدول عند المسلمين
ومعنى ذلك أن انهيار الجيوش الرسمية وحتى الدول لا يعني عند المسلمين نهاية الحرب بل هما يعنيان انتقال مسؤولية الحماية المباشرة إلى الشعب بكامله أي إلى الحرب الشعبية من دون دولة قائدة. فتصبح القيادة من صنع اللحظة بمقتضى عقيدة الجهاد التي تضع أن قتال العدو فرض عين وليس فرض كفاية : وعندئذ الحرب هي التي تصنع القيادات بمعيار البطولة.
الجمع بين الحربين الرسمية والشعبية
بعبارة أخرى فإن نظرية الحرب التي وضعها كلاوسفيتز تقتصر على الحروب النظامية التي تقودها دولة ولا تجمع بين النوعين من الحرب كما فعل العرب فاستطاعوا النجاح في النشأة الأولى وهم الآن بصدد النجاح في مرحلة الصمود المعدة للنشأة الثانية أو الاستئناف : الجمع بين الحربين الرسمية والشعبية أو بين حرب الصفوف وحرب الكر والفر.
وفي الحقيقة فإن كلاوسفيتز لم يأخذ بعين الاعتبار -أو لم يأخذه بالقدر الكافي- تجربة هزائم نابليون في اسبانيا المتأثرة خاصة بعقيدة الحرب الإسلامية كما هو معلوم ثم في روسيا.
المبدأ السني: الاستراتيجيا الدفاعية
عقيدة الحرب ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وما يزيد هذه العقيدة تدعيما المبدأ السني الذي يربى عليه المسلم وقد صاغه الرسول الأكرم بمستويات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : فالأمر بالجهاد معروف والنهي عنه منكر. وكلاهما يكون بخمس مستويات ثلاثة منها وردت صريحة في كلامه واثنان مضمران: اليد عند القدرة عليها (الجهاد بالقوة العنيفة) واللسان (الجهاد بالقوة اللطيفة) والقلب (الصمود على تأييد المعروف والتنديد بالمنكر).
مستويات الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر
فمبدأ الاستطاعة حضورا هو الذي يضيف مستويين آخرين وغيابا يحول دون النقلة من أحدها إلى الذي يليه. وهما مبدآن مضمران في عبارة « فإن لم يستطع ف.. ». ذلك أن من لم يستطع الجهاد باليد لا يمكن أن ينتقل إلى الجهاد باللسان إذا لم يكن يستطيعه. وقد يوجد من لا يستطيع إلا الجهاد باللسان. وإذن فالنقلة تقتضي الاستطاعة.
ولا ينبغي الظن أن هذا الجهاد باللسان دون الجهاد باليد قيمة أو عسرا إذا كان بشروط الجهاد باللسان: فهو أحيانا ذو قيمة تفوق الجهاد باليد. وهو أعسر لأنه قوة لطيفة. وأهميتها في الحروب تزداد كلما تحضر الإنسان : من هنا دور الإعلام والدعاية والخداع.
ونفس الشيء عن النقلة من اللسان إلى القلب : فالصمود الصامت يكون أحيانا من أهم أدوات المقاومة وخاصة عندما يكون الجهاد سلميا وليس حربيا.
تلك هي المستويات الخمسة : وردت نزولا من اليد إلى القلب ويمكن عرضها بالعكس لأننا الآن لسنا في وضع منع النزول بل في وضع تشجيع الصعود : فمن 1-الجهاد بالقلب إلى2- شجاعة الرفض الصامت إلى 3-جهاد اللسان إلى 4-شجاعة الجهاد باللسان إلى 5-الجهاد باليد.
وهذا هو مسار التراكم الكمي الذي يتحول بالتدريج إلى تحول كيفي فيكون المقاومات في كل الشعوب الحديثة. وهو المنتظر في مصر مثلا.
وما أوصلت إليه تجربة الأمم كان في الإسلام من البداية مبدأ متعلقا بالردع القبلي لمنع النزول المؤدي إلى الانحطاط جمعا بين المبدأين : مبدأ الجهاد والمبدأ الأعم منه لجمعه بين أصنافه الخمسة أي مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمبدآن هما أساس الآية 60 من الأنفال المتعلقة بالردع القبلي المعتمد على القوتين اللطيفة أولا (من قوة) والعنفية ثانيا(ومن رباط الخيل).
مبادئ تطبيق نظرية الحرب لتحديد حماية المرجعية والهوية
بعد هذا المدخل النظري الذي نعلل به تقديم هذا الفرع (الذي من المفروض أن يكون الأخير) وهو تعليل مستند إلى من مبدأين:
مبدأ حدثي ويتعلق بما يترتب على الحرب الجارية في اللحظة الإسلامية الحالية وهي حرب على المرجعية والهوية.
ومبدأ نظري ويتعلق بمراحل الحروب عامة وخاصة بمرحلتها الأخيرة التي بها يتحدد حصول النصر والهزيمة.
المبدأ الأول – حدثي : مرحلة الحرب التي تعيشها الأمة
إنه مبدأ يترتب على مرحلة الحرب التي نحن فيها. فهي حرب مضاعفة على المرجعية والهوية من الداخل والخاريج. ولذلك فخلفيتها في الحقيقة حرب أهلية صامتة بين الشعب والنخب المولاة عليه وحرب كونية بين الأمة وحماة هذه النخب:
الفرع الأول من الحرب الأهلية الصامتة:
الحرب التي تخوضها مقاومات متجاوزة للأقطار مقاومات لم يتنظم حالها بعد. وهي حرب شعبية بخصوص دولة لم تعد موجودة إلا في الأذهان. وغالبية الشعب تريد استعادتها في الأعيان أي الدولة الإسلامية الواحدة بشكل يناسب العصر.
الفرع الثاني من الحرب الأهلية الصامتة:
والحرب الرسمية التي تقودها نخب سيطرت على الأنظمة السياسية في الدول القطرية. والمقصود ليس كل النخب بل من صار من جميع أصنافها (الحاكمة والمربية والمنتجة رمزيا والمنتجة ماديا وحتى المتكلمة باسم المرجعية العقدية) تابعا للعدو وكافرا بهوية الأمة ومرجعيتها.
عالمية الحرب الأهلية
ولذلك فهذه الحرب التي هي أهلية هي في آن حرب عالمية لأنها تجري بتحالف مع العدو المسيطر على العالم مباشرة وبتوسط ذراعيه (إيران وإسرائيل) ومليشياتهما (الباطنية والصليبية والعلمانية والليبرالية والقومية الفاشية).
وجميع هؤلاء يخشون استعادة المسلمين لوحدتهم واستئناف دورهم الكوني. والمقصود بالمسلمين سنتهم : أولا لأنهم هم الأغلبية وثانيا لأن لا يوجد غيرهم. فالبقية -رغم الانتساب الظاهر إلى الإسلام-لا يمثلون إلا انحرافات عن الإسلام السوي الذي لا يفرق إلا بالرتبة التأويلية بين مصدري المرجعية الإسلامية القرآن والسنة النبوية.
شرط التخلص من الحرب الأهلية:
وأول مراحل استراتيجية الحماية للهوية والمرجعية هي السعي لإزالة أسباب الحرب الأهلية. وطبعا فنحن نسعى إلى ذلك في محاولتنا.
فنحن نريد إقناع المائلين إلى الحل الأول بأن ذلك يقتضي تعريف الدولة الواحدة المطلوبة تعريفا لا يجعلها عودة إلى الماضي بقشوره بل إلى لبه لبناء الوحدة المناسبة للعصر قياسا على الكيانات الكنفدرالية التي تبحث عن شروط السيادة أي شروط القدرة على الحماية والرعاية الذاتيتين.وهذا التمييز يحل مشكلي المقاومة :
- فهو يوحدها لأن الهدف التوحيدي الحديث يلغي كل خلافات التمزيق الماضية.
- وهو يمكنها من القبول بالحل الوسط بين القطري والإسلامي.
فلا تكون الوحدة نفيا للموجود بل إثراء له بالمنشود مع المحافظة عليه لأن التعدد مفيد للتنافس في الخيرات.
وإقناع المائلين إلى الأبقاء على الدول القطرية بأن ذلك بات مستحيلا إذ إن الدول القطرية لا سيادة لها. فهي عاجزة عن الحماية والرعاية. ومهما سلمنا جدلا بأن النخب التي استمالها الاستعمار فجعلها تعتقد أن الدولة الوطنية التي تستثني ما يتجاوزها هي الحل الوحيد فإننا لا نعتقد أنها غبية. فهي ترى أن الاستعمار نفسه تجاوز الدولة القطرية وبدأ يستعيد وحدات متعالية على القطرية وهي جميعا إحياء لوحدات ماضية أغلبها ذا مصدر ثقافي ديني. فالوحدة الأوروبية هي في آن إحياء لروما وللوحدة المسيحية ولكن بروح العصر الحالي.
وهذا أيضا يعالج مشكلي الأنظمة فيقربها من المقاومة :
- فبه تستطيع الأنظمة أن تتحرر من التبعية الخانفة فتسترجع بعضا من السيادة.
- وهي من جهة ثانية تصبح قادرة على المشاركة في الإبداع العالمي بفضل ما سيتوفر لها من إمكانات لا يمكن أن تكون في متناول الأحجام الصغرى من الدول : كالبحث العلمي وغزو الفضاء وانتاج شروط الحماية والرعاية.
ومن ثم فالحل يتمثل في اللقاء بين الميلين -ميل المقاومة الراغبة في الوحدة وميل الأنظمة الراغبة عن الوحدة-نحو مواطنة ذات مستويين كالحال في كل التجمعات الكبرى التي تناسب منطق العصر وخاصة منطق صراع القوى العالمية على ما حددناه في نظرية الأحياز الخمسة:
- مستوى محلي يعتمد على الخصوصيات والثقافات المحلية.
- ومستوى إسلامي يعتمد على الكليات والثقافة الإسلامية.
المبدأ الثاني – نظري : ما تفرضه نظرية الاستراتيجيا الحربية
فلسفة الاستراتيجيا الدفاعية:
سبق فبينا أن الضمني في نظرية كلاوسفيتز يمكن بتحريره أن يبين أن مراحل النصر(لأحد الصفين) والهزيمة (للصف الثاني) ليست ثلاثة بل خمسة كما ينتج عن فلسفة الاستراتيجيا الدفاعية التي تتأسس عليها نظرية الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضي عين لتحقيق مضمون الآية 60 من الأنفال بوصفها آية الردع القبلي (وأعدوا) والردع البعدي (لأن من أعد يردع قبل الحرب وخلالها).
مراحل النصر(لأحد الصفين) والهزيمة (للصف الثاني)
المرحلة المضاعفة الأولى:
فالمرحلة الأولى مضاعفة:
المرحلتان
فالجيش لا ينهزم إلا إذا استسلم. فإذا انكسر عتاده كجيش يمكن أن يبقى له عتاده كمقاومة إلى أن يسترد بنيته النظامية. وإذن فيمكن أن نميز بين مرحلتين قابلتين للفصل بحسب عقيدة الجيش الدفاعية.
دروس من الماضي
فهزيمة 67 كان يمكن ألا تحصل حتى بعد انكسار السلاح لو أن الجيش كان له عقيدة إسلامية في الدفاع أو الحماية بما هما فرض عين (الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
لكن الجيش المصري استسلم بسرعة لأن قياداته مستهترة وجنوده أميون فكانت هزيمتين: انكسار العتاد والروح المعنوية للمقاومة.
وما بقيت الجيوش العربية على هذا النحو من التكوين (قيادات مستهترة وجنود أميون) لا يمكن الكلام على جيش دفاع أصلا.
المرحلة المضاعفة الثانية:
والمرحلة الثانية مضاعفة :
المرحلتان
فجيش العدو بعد انكسار الجيش عتادا وروحا يمكن أن يحتل مصادر تموين الجيش أي ارضه ومصادر قوته. لكنه لا يستطيع أن يحتل الشعب إذا كان قد ربي على نظرية الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الإسلامية. وتاريخنا مليء بالأمثلة : ففرنسا احتلت الجزائر بعد أن كسرت الجيش. لكن الأمير عبد القادر قاومها بالشعب عقودا. إيطاليا احتلت ليبيا لكن المختار قاومها بالشعب عقودا. في الريف قائد المقاومة الشعبية غلب فرنسا واسبانيا. إلخ.. وإذن فالمرحلة الثانية مضاعفة. ففيها مرحلتان :
- مرحلة احتلال الأرض والثروات
- ومرحلة إخضاع المقاومة الشعبية.
مثال جامع للمرحلتين
والمثال الجامع بينهما مع التقابل ماثل أمام ناظرنا بوجهيه : ففي احتلال الضفة تمكنت إسرائيل من تحقيق الأمرين. لكنها في غزة فشلت على الأقل في الثاني. وما تخشاه هو عدوى غزة في الضفة.
المرحلة الخامسة
مفعولا المرحلة
المرحلة الخامسة ذات مفعولين :
فهي حاضرة في الأولى وفي الثانية. لكنها قائمة بذاتها كذلك حتى لو حسم الأمر فيهما.
ومعنى ذلك أن العدو يمكن أن يكون قد حقق المراحل الأربع السابقة (وهذا مستحيل في الثقافة الإسلامية). لكنه يفشل مع ذلك في تحقيق المرحلة الأخيرة التي هي المرحلة الجوهرية والأساسية والتي ينطلق منها كل استئناف ممكن وتلك هي علة استحالة أن يهزم المسلمون بل هم منتصرون مهما طال زمن الانكسار.
ولنضرب مثالين : أحدهما علينا والثاني لنا.
والذي علينا هو من أعدى أعدائنا.
والذي لنا هو مما يبدو وكأن اليأس قد أتى عليه وخاصة لدى النخب التي أصبحت عميلة للاستعمار فمكنها من رقاب الأمة.
المثال الذي علينا: إستئناف العدو الصهيوني لتاريخه
فأما المثال الذي علينا فهو مثال استئناف العدو الصهيوني لتاريخه رغم الهزائم المتوالية والنكبات التي لعل أهمها نكتبان واحدة نعيشها من خلال القرآن الكريم والثانية نعيشها من خلال التاريخ الحديث. ولولا عقائدهم الدينية وتوظيفها السياسي لاستحال أن نفهم التاريخ اليهودي مهما كرهنا منهم الخبث والدهاء وقلة الكرم والحياء مع أمة رعتهم وحمتهم عندما أهانهم من يستعملهم الآن ضدها.
المثال الذي لنا: عكسنا لسياسة الفوضى الخلاقة
وأما المثال الذي لنا فهو بالذات الحرب الأهلية التي نعيش حاليا والتي يظن الاستعمار وعملاؤه أنها الضربة القاضية لاستئناف دور الإسلام في التاريخ الكوني. وهم يسمونها فوضى خلاقة بمعنى قتل الحضارة العربية الإسلامية بالفوضى وخلق شعوب بلا هوية تتبنى الحضارة التي يريدون فرضها علينا.
والفوضى كانت بحق خلاقة. ولكنها خلاقة بعكس ما ينتظر العدو : هي بعثت في الشباب إرادتين موجبة وسالبة :
- فأما الموجبة فهي هذا الاستعداد المطلق للجهاد من أجل نقل ما بقي حيا في الأذهان إلى الأعيان : دولة الإسلام الواحدة. ويبقى أن يتعلموا أن هذا النقل يحتاج إلى استراتيجية مدركة لروح العصر. فليس النقل أخراجا من القبور وتعلقا بالقشرو بل هو ضخ لحياة جديدة مبدؤها من الأصل أي المرجعية والهوية. لكن شكلها مما يقتضيه العصر غايات وأدوات ومن ثم فهي تقتضي التمكن من شروط التكيف الضرورية في عصر العولمة.
- وأما السالبة فهي القضاء على الجغرافيا والتاريخ الاستعماريين شرطا في التوحيد الذي لا يلغي التعدد بل يزيل ما يجعله عائفا للوحدة المتكاملة. وبذلك تصبح الأقطار أعضاء في جسدا واحدا فلا تبقى أجسادا هامدة لأنها عاجزة عن الحماية والرعاية الذاتيتين بسبب التبعية الناتجة عن هوانها وقلة حيلتها.
المرجعية وشروط الحماية والرعاية
وبذلك يتبين أن الدافع الحقيقي للمحاولة- فضلا عن مطالب المرجعية والثقافة الإسلامية- هو البحث في الطرق والمناهج التي تساعد على تحقيق شروط السيادة الفعلية والتحرر من التبعية في الحماية والرعاية اللتين هما جوهر وظائف الدولة.
ومن دون هذه الوظائف فما يسمى دولة ليس إلا هيكلا خاويا لا يتجاوز دور الإدارة الاستعمارية غير المباشرة للاستضعاف والاستتباع بالاستبداد والفساد (وهذه حال كل الدول العربية بتفاضل لا يغير من الطبيعة الجامعة : عدم القدرة البنيوية على تحقيق شروط الحماية والرعاية). وهذا يقتضي أن نعالج مسألتين :
- الأولى هي مسألة : المرجعية الإسلامية ومعنى حمايتها الاستراتيجية.
- الثانية هي مسألة : الهوية الإسلامية المفتوحة ومعنى حمايتها الاستراتيجية.
المسألة الأولى: المرجعية الإسلامية ومعنى حمايتها الاستراتيجية
كل مرجعية -وليس الإسلامية وحدها- تعمل بذاتها وقيامها المستقل وبتاريخ فهومها الذي يمكن أن يقاس به مدى تأثيرها في الجماعة. وتاريخ فهومها يتألف دائما من لحظة معينة تكاد تكون مطابقة للمرجعية. وهذه اللحظة هي ما يسمى بعصرها الذهبي. ثم من لحظات متوالية مراوحة بين القرب والبعد من تلك اللحظة الأولى عينا من المرجعية. وهذه المراوحة هي التي تشغب على العصر الذهبي باعتباره الصورة المخيالية لدى عامة الشعب. وفاعليتها تكاد تكون بديلا من المرجعية.
مقياسا تأثير المرجعية
وكل استئناف يكون لدى الشعب مقياسه تاثير اللحظة الأولى (مفهوم السلف الصالح) ومقياسه عند النخبة تأثير فهمها “المختص” للمرجعية ذاتها (القرآن والسنة).
ولما كان الماضي يؤثر بحديثه عن أحداثه أكثر مما يؤثر بأحداثه فإن الاستئناف المتعالي مثله مثل الانحطاط المتداني حول المرجعية الأصل يتعلق بمعادلة الأحاديث أكثر من تعلقه بمعادلة الأحداث. والحديث عن الأحداث له مستويان شعبي ونخبوي قد يتطابقان وقد يتنافيان.
ومن التقابل بين هذين الامكانين يحصل اضطراب في العلاقة بالمرجعية وبقراءة الأحداث. وذلك هو أصل الارتباك الروحي في الجماعة وهو ارتباك يمكن إن بلغ حدا معينا أن يصبح فوضى روحية قد تنقلب إلى حرب أهلية كالحال عندنا الآن. ومنها يمكن أن يخرج الحي كما يمكن أن يخرج الميت بحسب قوة المرجعية والأمة ومجريات الصراع في الجماعة وتدخل من حولها من الجماعات التي تريد أن تستفيد من وضع الأمة في الصراع حول الأحياز الخمسة (المكان والزمان والثروة والتراث والمرجعية) التي هي أساس كل النظرية التي نقدمها.
لذلك فالاستئناف لا يكتمل إلا بما يشبه الفوضى الخلاقة بحق وليس الفوضى البدالة لتراث بتراث بل الفوضى المجددة لنفس التراث والتي هي من جنس أزمات النمو في الكائن الحي أعني ما نعيشه الآن.
وذلك يقتضي حصول أمرين متناقضين يتأرجح بينهما اتجاه التاريخ وتحديد المستقبل. والفوضى الخلاقة المجددة لقوى الحياة الحضارية تشبه تجديد الخلايا الحية والاجيال في الحياة العضوية :
- الأمر الأول هو التناغم بين الشعبي والنخبوي من الحديثين حتى يصبحا حدثين ثوريين يحققان شروط التجديد الموجب والمجدد لأجيال الحلول المحققة للحماية والرعاية بشروط التكيف مع الظرف وتحسين شروط الكرامة والحرية للإنسان. وهذا ما أحاول المشاركة فيه وتشجيعه.
- والثاني عكسه تماما التنافي بين الشعبي والنخبوي من الحديثين حتى يصبحا حدثين مضادين للثورة يريدان منع التجديد الموجب ويحافظان على العجز في الحماية والرعاية ومن ثم شروط التبعية للحامي والراعي الأجنبي نفيا للحرية والكرامة. وهذا ما أحاول مقاومته وتثبيطه.
حسم الحرب الأهلية الحالية بما هو رجوع إلى المرجعية بصورة تجعلها معين الاستئناف
إن ما نعيشه الآن في الحرب الأهلية الجارية بين الثورة والثورة المضادة فوضى خلاقة بحق وهي بداية الاستئناف وعلينا وضع الاستراتيجية التي توفر حظوظ نجاح الثورة وفشل الثورة المضادة. وتلك هي علة ما أحاول المساهمة به في المعركة بالقلم لأني لست من القادرين على المساهمة بالسيف.
ولا يمكن تغليب صف الثورة على صف الثورة المضادة إلا بحسم الصراع بين الحديثين حول الأحداث. والحسم يعني الرجوع إلى المرجعية بصورة تجعلها معين الاستئناف. وهذا أيضا من المبادئ التي تضمنتها المرجعية نفسها.
مبدأ الحاجة إلى مجدد للمرجعية على رأس كل قرن
فالإسلام يقول بمبدأ عجيب : مبدأ الحاجة إلى مجدد للمرجعية على رأس كل قرن.
أمثلة للتجديد و معانيه
لذلك درسنا ثلاثة من المجددين للمرجعية :
- الغزالي على راس القرن السادس.
- وابن تيمية على راس القرن الثامن.
- وابن خلدون على رأس القرن التاسع.
وثلاثتهم كان التجديد لديه ذا وجهين يمكن التعبير عنهما باستعارة بايولوجية وهي المقصود بتجديد الدين باعتباره جوهر المرجعية ولكن ليس بمعنى العبادات فحسب بل بمعناه الإسلامي الذي يعتبره استراتيجية استعمار الإنسان في الأرض بقيم الاستخلاف والروحية إيجابا وبقيم تحرير الإنسان من الإخلاد إلى الأرض والعبودية:
- بيان الخلايا الميتة والتحرر منها بإعادة بث الحياة في معان بديلة.
- ثم تحقيق ثورة علمية تصبح ارضية تزرع فيها الخلايا الحية أي المعاني البديلة.
محاولة الغزالي
ومحاولة الغزالي غلب عليها البعد السلبي أعني بيان الخلايا الميتة لأن الثورة العلمية لم تحصل عنده لا في النظر ولا في العمل إلا سلبا (التحرر من المتافيزيقا النظرية في التهافت ومن المتافيزيقا العلمية في الفضائح). لكنه بتبني المنطق والتصوف دون نقدهما المحرر من انحرافهما أعاد من الشباك ما أخرجه من الباب.
محاولة ابن تيمية
أما محاولة ابن تيمية فمكنت من تحديد أرضية حقيقية لنهضة نظرية وعقدية كان يمكن أن تكون بداية حقيقة للاستئناف بالإبداع في شروط الحماية والرعاية المتعلقة بمادة العمران (الإبداع الرمزي العلوم وتطبيقاتها والمادي الاقتصاد وتطبيقاته على اساس علمي وخلقي).
وكانت محاولته واعية بنكوص الإصلاح الذي قام به الغزالي :
فاعتبار المنطق مجرد آلة محايدة واعتباره التصوف مجرد علاج خلقي محايد هما حقيقة النكوص. لذلك كان بيان المضمر في الحلين هو أساس الثورة التيمية : ما وراء المنطق وما وراء التصوف.
- فالمنطق الذي تبناه الغزالي يفترض التسليم بميتافيزيقا الهيلومورفية.
- والتصوف الذي تبناه الغزالي يفترض التسليم بمميتافيزيقا وحدة الوجود.
وكلتا الميتافيزيقيتين تلغي دور الإبداع الإنساني لنماذج المعرفة (الأولى) ولنماذج الأخلاق (الثانية) فيصبح الإنسان بالميتافيزيقا الأولى قائلا بالإنسان مقياس كل شيء وجودا وعدما (السوفسطائية) ويصبح الإنسان القائل بالميتافيزيقا الثانية قائلا بالجبرية وبالخضوع للاستبداد والفساد (القرمطية) لأن الحاكم يصبح معصوما لأنه ظل الله في الارض (ابن عربي والتشيع).
محاولة ابن خلدون
وأما محاولة ابن خلدون فمكنته من تحديد أرضية حقيقية لنهضة عملية وشرعية كان يمكن أن تكون بداية حقيقية للاستئناف بالإبداع في شروط الحماية والرعاية المتعلقة بصورة العمران (الإبداع الرمزي بالتربية التحررية وتطبيقاتها والإبداع المادي بالحكم التحرري وتطبيقاته على أساس علمي وخلقي).
وكانت محاولته كذلك واعية بنكوص الإصلاح الذي قام به الغزالي :
فمثلما بين ابن تيمية ضرر الميتافيزيقا الهيلومورفية بينها ابن خلدون بعبارة جميلة هي رد الوجود إلى الإدراك وحصره فيه.
أما بخصوص التصوف وميتافيزيقا وحدة الوجود فقد ألف ابن خلدون كتاب شفاء السائل أجاب فيه عن سؤال الشاطبي حول الحاجة إلى الشيخ الصوفي في التعليم. فبين فيه أن القول بهذه الحاجة يؤدي إلى نصب سلطان روحي يفقد الإنسان حرية الضمير والاختيار (راجع محاولتنا في العلاقة بين السلطان الروحي والسلطان الزماني).
مطالب الثورة بالرجوع إلى الأمثلة الثلاثة
ويمكن القول إن مطالب الثورة اليوم مصدرها الحقيقي هو ما سعى إليه فكر المصلحين الاخيرين وإن عوائقها مصدرها الحقيقي هو ما نكص إليه فكر المصلح الأول. ونحن نحاول تخليص الأول مما نكص إليه واستثمار الثانيين اللذين لم ينكصا لكن فكرهما يتضمن ما يجعل النكوص بهما ممكنا كما حصل في قراءة ابن تيمية وقراءة ابن خلدون التشويهية التي حصرت الأول في الفقهيات والثاني في الاجتماعيات ولم تتجاوز إلى مقاصدهما الإصلاحية الثورية.
وظيفة استراتيجية حماية المرجعية
واستراتيجية حماية المرجعية التي نتكلم عليها وظيفتها هذه المراجعة الفكرية للحديثين بمقتضى الفهمين والرجوع إلى المرجعيتين من منطلق ما يقتضيه بناء مستقبل الأمة لأن المرجعية الإسلامية وظيفتها الأولى والأخيرة هي تحقيق شروط استعمار الإنسان في الأرض بقيم الاستخلاف إيجابا (عولمة الأخوة الإنسانية : النساء 1 بمعيار الحجرات 13) وبرفض قيم الإخلاد إلى الأرض سلبا (عولمة العنصرية والطبقية اللتين تحولان المكان والزمان إلى صراع قانونه هو قانون التاريخ الطبيعي لأن الإنسان ينكص إلى الحيوان).
المسألة الثانية: الهوية الإسلامية واستراتيجية حمايتها.
والهوية الإسلامية تبدو مفهوما متناقض يعسر شرح دلالته من دون فهم الوصل القرآني بين الجزئي والكلي في مجال الأحياز الخمسة : المكان والزمان والثروة والتراث والمرجعية. فهي هوية المسلمين بالفعل (وتكون متناهية في الأحياز الخمسة) وهوية المسلمين بالقوة (وهي متطابقة مع كل الأحياز الخمسة ومن ثم فهي لامتناهية). لذلك فالأولى تبدو هوية لبعض البشر. والثانية هي هوية لكل البشر.
كيف يمكن لهوية أن تكون للبعض وللكل في آن؟
فكيف يمكن لهوية أن تكون في آن للبعض وللكل؟
ذلك ما نعني بالهوية المفتوحة في المكان وفي الزمان وفي الثروة للجميع وفي التراث للجميع وفي المرجعية للجميع أي إن الإسلام ليس دين قوم بل هو دين البشرية كلها.
وهذه الهوية المفتوحة تتمثل نظريا في تصور للأحياز عجيب : ولعل مثاله نظرية القبلة القرآنية. فهي ضرورية في الواقع رغم أنها ليست ضرورية في الواجب :
- المسلمون يستقبلون الحرم. لكن القرآن يقول أينما تولوا فثم وجه الله.
- وهم يصلون في المسجد. لكن الرسول يقول الأرض كلها مسجد المسلمين.
- وأخيرا فالإسلام يعتبر جميع الصالحين مسلمين في الماضي وجميع البشر مسلمين بالفطرة وكل الشباب قبل أن يهودوا أو ينصروا أو يمجسوا مسلمين على الأقل إلى حين البلوغ والاختيار الشخصي لعقائدهم.
أي هوية هذه؟
فأي هوية هذه؟
هنا يكمن السر في كل ما تكلمنا عليه بخصوص المرجعية من حيث هي منظومة القيم التي تحقق شروط استعمار الإنسان في الأرض بقيم الاستخلاف.
وذلك هو جوهر الدين بمفهومه القرآني. وصلته بالمسألة التي نبحث فيها أي بالسياسة من حيث هي استراتيجية الحماية والرعاية المحققتين لهذا الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف هي التي تجعل الهوية تتحدد بهذه المهمة بالذات ولكن بالوجه الثاني من الجهاد الذي تكلمنا عليه بتحديد المسلم بفرض عين آخر يحدد مضمون الجهاد : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصورة كونية.
حقيقة هوية المسلمين
تلك هي حقيقة هوية المسلمين : وقد حددها القرآن إنشائيا وخبريا مع وصل الإنشاء بالخبر وصلا يجعل الأول شرطا والثاني جواب شرط.
ويكفي للقارئ أن يفتح آل عمران ويقرأ الأية 104 التي هي تعريف إنشائي للمسلمين بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر والآية 110 منها التي هي تعريف خبري للمسلمين بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر وما بينهما هو وصل يجعل الأول شرطا والثاني جواب شرط ويحدد كيفية تحقق الهدف الذي هو الأخوة البشرية في الله والتحرر من الصراع والتفرق أي شروط الحماية والرعاية التي تحمي الهوية بهذين المعنيين وترعاها في الجماعة الواحدة وبين الجماعات البشرية كلها لتكون سياسة محلية ودولية في آن. وذلك ما كان علينا بيانه.