مقدمة
تمهيد
لابد لمن يريد أن يبني استراتيجية بالمعنى الذي يحقق للأمة السيادة وعدم التبعية من أن يعالج عدة مسائل نحاول هنا تحديدها بصورة نسقية تكون جامعة ومانعة استنادا إلى نظرية الأحياز الخمسة.
ولا يكون هذا العلاج بهذه الصفة إلا إذا تخلص من التحديد العرضي المعتمد على المبدأ القائل إن “السياسة لا تعرف عدوا دائما ولا صديقا دائما“. فهذا المبدأ على أهميته وصحته النسبية لا يصلح إلا بمنطق الاعتماد على رد الفعل الذي هو أهم علامة على عدم وجود أستراتيجيا أصلا.
ومعنى ذلك أن الاعتماد على مثل هذا الفكر لا يمكن من بناء الاستراتيجيات إذ من شرطه الاعتماد على الظرفيات ورهن الاستراتيجي بالتكتيكي بدل العكس.
مرحلتا وضع الإسترتيجيا المناسبة لتوقي الأخطار
لكن الوصول إلى نظرية الأحياز الخمسة التي وضعناها لحل مشكل تحديد الأعداء بالفعل وبالقوة ومن ثم وضع الاستراتيجيا المناسبة للتوقي من الأخطار يقتضي أن نمر بمرحلتين :
المرحلة الأولى
المرحلة الأولى تكشف وهاء الخطاب الاستراتيجي العربي الحالي واعتماده على العرضيات التي لا تسمن ولا تغني من جوع رغم “الأسماء العالية والمرابط الخالية”.
المرحلة الثانية
والمرحلة الثانية تترجم بلغة حديثة الخطاب الاستراتيجي العربي الإسلامي الذي يمثله ابن خلدون وبنحو ما ابن تيمية رغم عدم وضوح الهدف الاسترايتيجي في علاجهما.
وهاء الخطاب الاستراتيجي العربي الحالي
لذلك فكلامي على الاسترايتيجيا يمثل فرصة أبين فيها علة موقفي من حسنين هيكل الذي قد يعتبره البعض موقفا غير مبرر. فالرجل مبجل ومكرم بين نخب بلاده وهم أدرى بشعاب مصر. ولعل هذه المنزلة من العلامات الدالة على السلوك العام الذي فضحه الانقلاب. وإذن فكلامي على الاستراتيجية هو الفرصة لتوضيح موقفي من هيكل وما يمثله فكره من نكبة على مصر والأمة.
علة موقفي من هيكل
مسؤوليته في نكبتي مصر
أعلم أن الكثير من المتنمرين يتصورون أنفسهم استراتيجيين كبارا ويعتبرون هيكل أكبر رموزهم وأفضل معبر عنهم. وسر موقفي منه هو أني كنت ولا زلت –وقد بينت نكبة مصر الحالية صحة دعواي– اعتبره المسؤول الأول على نكتبي مصر الحديثتين واللتين تسميهما حثالة مصر والبلاد العربية ومافياتها من العسكريين والسياسين والنخب التي تدعي الحداثة ومثلها بعض النخب الدينية التي صنعتها المخابرات ثورتين:
النكبة الأولى
النكبة التي ترجمتها حرب 67 أي تسليم كل فلسطين ونصف عشر أرض مصر لإسرائيل مع الهوان الذي نال الشرف العربي بالعجز والجبن الذي مثله النظام المتعنتر طيلة خمسة عقود. واعترف أني قبل هذه الهزيمة كنت مغترا بما أسمعه عن الثورة الناصرية لأني لم أزر مصر إلا منذ ثلاثة عقود (بمناسبة ثمانينية عبد الرحمن بدوي التي كانت مفاجأة غير سارة لأني رأيت من قريب نوع النخب التي جعلتني أفهم الآن علة مرارته في سيرته الذاتية ) : فكانت الدعاية والرواية تعوض الحقيقة والدراية.
النكبة الثانية
النكبة الثانية التي ترجمتها من نفس الطبيعة ولكنها أدهى وأمر هي أن مافية العسكر الذي سلم ما ذكرنا لإسرائيل أصبحت تحارب الشعب المصري وثورته لتسلم ما بقي من مصر تسليما طوعيا لإسرائيل وجعلها تحكم البلاد كلها بواسطتهم وبواسطة النخب العميلة التي نراها تهدم مصر تهديما نسقيا وتحارب هويتها الإسلامية. ومن لم يفهم سر سكوت الغرب على السيسي وجرائمه ومن وراءه فيكفي أن يذكر أن الدولة الغربية الأكثر خضوعا للابتزاز الصهيوني عبرت عنه بدعوة السيسي وتطبيق أوامر قضائه الفاسد والمجرم (ألمانيا).
دوافع أعمق للموقف من هيكل
وطبيعي أن يعجب الكثير من موقفي من هيكل –فيتصورون إني أكثر ملكية من الملك– لغياب هذين الأمرين عن ذهنهم فضلا عن الدوافع الثلاثة الأعمق من ذلك كله والمتجاوز للشأن المصري:
الدافع الأول
هو ما صرح به ذات مرة في معرض الكتاب حول الإسلام وتفسيره لما يسميه بظاهرة الإرهاب به وتفسير الدين بالفقر والتخلف.
الدافع الثاني
هو موقفه من العرب–لانه لا يعتبر مصر عربية بل فرعونية وربما قبطية–وإيران. فهذه عنده تمثل الحضارة وأولئك يمثلون البداوة.
الدافع الثالث
وهو أصل الأسباب الأربعة السابقة : غباؤه المتعالم –في بلد صار فيه القمني دكتورا ينال جائزة الدولة أي دولة– وعدم فهمه معنى الاستراتيجية التي تحتاجها الأمم في كل العصور والدهور.
الرابط بين الموضوع الأساس و الموقف من أمثال هيكل
ولما كان هذا السبب الأخير متعلقا بموضوعي –الاستراتيجيا– وكان أصل جميع الأسباب التي تقززني من هذا الخرف فقد انتهزت كلامي عليه لأوضح موقفي منه ومن نفخ الاستعمار فيه كما يفعل مع كل بيادقه. وهو نفخ صدقته الحثالة فصدق نفسه لأنه هو حثالة الحثالة إذ يتصور الدين ناتجا عن الفقر والجهل.
فهمهم و تصورهم للدين
وقد صدق هيجل عندما قال إن من يفسر الدين بالجهل والفقر وتحيل رجال الدين ما يزال دون الإنسانية. ثم إن من يتلذذ بتعذيب شعبه ويدعو رجال الأعمال لإيقاف النشاط الاقتصادي والمافية العسكرية للانقلاب على ثورة شعبه لا يمكن أن يكون رجلا فضلا عن أن يكون إنسانا.
فهمهم و تصورهم للثورة حينها
من لم يدرك هذه الحقائق لا يمكن أن يفهم علة موقفي من هيكل الذي شرعت في بيان وهاء فكره الاستراتيجي المزعوم منذ أن سمعت محاضراته في الجزيرة وتفاخره بأنه نصح بالانفصال عن السودان بعد جولة فيه ولم يقل السبب الحقيقي الذي هو الخوف على الدكتاتورية الناشئة من معركة قد تأتي عليها لأن قائد الثورة الشرعي نجيب –وهو قريب من السودان– كان ميالا للديموقراطية وكان بقاء السودان جزءا من دولة النيل الكبرى سندا كبيرا له يمكن أن يهدد حكمهم الهش.
حينها عرفت أنه عميل للاستعمار الأنجليزي لأن ذلك كان هدف السياسة البريطانية لوأد بناء القوة العربية القادرة حقا على تحقيق شروط الاستئناف. وقد نشرت ثلاث مقالات حينها وكنت ما زلت في ماليزيا سنة 2004.
فهمهم و تصورهم لمنزلة مصر
لكن العلة المتقدمة على ذلك –حتى وإن كنت لم أولِ أهمية للكتاب لأنه لا يختلف كثيرا عن كتاب القذافي الأخضر وقد يكون بصدد كتابة كتاب آخر للجحش– هي قراءتي للمسخرة الذي يسمى كتاب الثورة والذي يعتبر صاحبه أن العرب وافريقيا ودار الإسلام مجال حيوي لمصر.
ومعنى ذلك أن مصر ليست قومية بالمعنى العربي ولا إفريقية بمعنى القاري ولا إسلامية بمعنى الأمة بل هي فرعونية تريد بمنطق الاستعمار التعامل معنا مثله بوصفنا ما ينبغي نهبه والاستفادة منه في المناورات الدولية التي لعبها عبد الناصر بغباء لا نظير له.
يكفي ان تقارن ما تحقق لهوشي منه ولنهرو (فضلا عن جناح قبل باندونج) والخزي الذي حصل عليه في غاية حياته بهزيمة 67.
ترجمة فلسفية للخطاب الاستراتيجي الإسلامي الخلدوني
المرحلة الأولى من بناء الإستراتيجيا
إن أولى علاقة للاستراتيجيا بمسألتنا هي الضديد للمبدأ السياسي الذي يزعم أنه لا يوجد أعداء دائمين ولا أصدقاء دائمين. ذلك أن الأعداء الدائمين في التاريخ الإنساني هم العلة الرئيسية لوجود الجماعة أولا والدولة ثانيا فضلا عن وجود الاستراتيجيا التي هي جوهر السياسة:
فعلة وجود الجماعة والدولة هي الحماية الداخلية والخارجية والرعاية التكوينية والتموينية لذاتها ولافراد جماعتها.
الأعداء الدائمون
النوع الأول
والأعداء الدائمون هم في هذه الحالة من نحتمي منهم ومن يحولون دوننا وشروط الرعاية التي ينافسوننا عليها ويريدون افتكاكها منا.
ولا علاقة للعداوة البنيوية بغير معين في الداخل أو في الخارج بل هي ذات علاقة بالغيرية بإطلاق بوصفها مقوما من مقومات الجماعات البشرية فيها أولا وبينها ثانيا ثم بينها وبين محيطها الطبيعي ومحيطها الحضاري أخيرا.
النوع الثاني
لكن الأهم من ذلك كله وقبل ذلك كله هو أن الأعداء الدائمين ليسوا بشرا فحسب بل هم ممثلوا الغيرية بصنفيها سواء كانوا بشرا يهددون حياة الجماعة خاصة أو حتى حياة البشرية ككل –كالحال في حضارة التلويث النسقي للمحيطين الطبيعي والثقافي أو حضارة العولمة– أو ما في الطبيعة من أخطار تهدد الإنسان حياته وكرامته.
وهذا النوع الثاني من الأعداء الذين لا يخلو منهم المحيط الطبيعي الشارط لوجود الإنسان (لأنه معين المدد المشروط في الحياة وفي آن مصدر الأخطار المهددة للحياة) له دور كبير في قوة الجماعة وضعفها. فطبيعة علاقتك به تيسر أو تعسر على الغير البشري أو العدو من البشر بالتناسب عدوانه عليك وقدرتك على التصدي للعدوان أو عجزك دونه . وبين أن لمفهوم الإغارة مثلا علاقة بمفهوم الغير.
العلاقة بين مفهومي الإغارة و الغيرية
والغير لا يغور ولا يغير عليك إلا إذا علم بضعفك وعدم قدرتك على صده. وضعفك هو بالأساس وخاصة طبيعة علاقتك بمحيطك الطبيعي الذي تستمد منه عوامل قوتك المادية فضلا عن محيطك الثقافي الذي تستمد منه قوتك الروحية.
القوتان و ترتيب الأعداء
وللقوتين علاقة سنعود إليها في صلة بالاستراتيجية وبترتيب الأعداء :
فمن يعتدي على أرضك يمكن حتى بعد احتلالها أخراجه منها أما من يعتدي على روحك فإذا احتلها صرت أنت من جنده : كالحال في غالب شيعة العرب مع إيران.
وإذن فعلاقتك بالغير الطبيعي جزء لا يتجزأ بعلاقتك بالغير الإنساني من وجه الحاجة إلى الاستراتيجية في وظيفتي الدولة : الحماية والرعاية شرطي السيادة والحرية.
تحديد القرآن للدورين
ولا بد من التذكير بأن هذين الدورين حددهما القرآن الكريم في سورة قريش لو فهمهما أدعياء الاستراتيجيين لفهموا معنى الأمن الشامل للجماعة ما هو ما يعني أن لفلسفة ابن خلدون وابن تيمية علاقة بينة بفهم عميق للدلالة القرآنية لهذين الأمرين :
فآمنهم من خوف ترمز إلى دور الدولة في الحماية.
وأطعمهم من جوع ترمز إلى دور الدولة في الرعاية.
الدولة في الإسلام : الحماية و الرعاية
وكلا الدورين لا يتحققان بالارتجال بل لا بد فيهما من الاستراتيجية الشاملة التي تحقق شروط الحماية والرعاية في علاقة بالمحيطين الطبيعي والتاريخي:
وذلك هو مفهوم الدولة في الإسلام ببعديها الذي ينسب إلى السياسي (الحماية خاصة) والاجتماعي (الرعاية خاصة وعلاقتها بمفهوم الأوقاف).
والقرآن الكريم لم يكتف ببيان المقومين بل عللهما بشرط القوة الاقتصادية (المثال هنا هو الرحلتان) والقوة الروحية (المثال هنا هو هذا البيت).
ثوابت العداء البنيوي أو جوهر الغيرية
لكن استراتيجية تحقيق الشروط تنطلق من العداء البنيوي الذي لا يتغير بحسب الظروف لأنه جوهر ما لأجله تكونت الجماعات والدول لتحقيق شرطي بقاء الحياة وازدهارها. وهذا العداء البنيوي هو جوهر الغيرية بالنسبة إلى الحياة ضمن البشر وضمن الأحياء في العلاقة بينهم ثم بينهم وبين محيطيهم الطبيعي والتاريخي:
أولا: الغيرية ضمن علاقة البشر بالطبيعة*:***
الغير هو ما يهدد حياتك من الأخطار الطبيعية وأهمها ما يعرض العيش والصحة لخطر الموت كالعناصر الأربعة أو الزلازل والفيضانات وتقلبات المناخ والمجاعات والحيوانات الجارحة والسموم والأمراض.
ثانيا: الغيرية ضمن علاقة البشر بعضهم بالبعض*:***
الغير هو من ينافسك بإطلاق على شروط بقائك حتى لو هادنك لحين. وشروط بقائك هي قوتك المادية وقوتك الروحية وخاصة العلاقة بين القوتين.
العلاقة بين إطاري الغيرية
وبين أن العلاقة الثانية تتأثر كثيرا بالعلاقة الأولى : فالشعوب التي تسيطر على محيطها الطبيعي تتمكن من بناء قوتها المادية بفضل قوتها الروحية فتستطيع أن تحمي نفسها من محيطها الإنساني بما يقبل التصنيف انطلاقا من هذين المعيارين والتوليف بينهما وهما قابلان للتحديد عقلا ونقلا.
تحديد العداوات في القرآن
ولما كنت لا أهتم كثيرا بموقف من يحتقرون الإحالة إلى النقل فإني سأبدأ به راغما أنوف الجاهلين الذين يأنفون من المرجعية الدينية حتى يبدوا حداثيين وهم في الحقيقة أميون.
ومعنى ذلك أن القرآن الكريم حدد العداوات في آية الردع الآية 60 من الأنفال
“وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُون**“**.
1-عدو الله
2-عدوكم
3-آخرين من دونهم لا تعلمونهم.
تحليل تحديد العداوات في القرآن
لن أطيل الكلام لئلا يتحول البحث إلى ضرب من التفسير للآية. فليس هذا قصدنا. اكتفي بالإشارة إلى أن “لهم” في الآية تشير إلى عدو معين هو عدو بالفعل في تلك اللحظة التاريخية التي نزلت فيها الآية. أما من طلبت الآية الاستعداد لهم فهم العدو الممكن وليس الذي بالفعل فحسب.
وقد صنفتهم الآية في القراءة المتسرعة إلى ثلاثة أصناف رغم ما بينها من تقاطع. والمعلوم أن استعمال المفرد هنا يفيد الجمع لأنه اسم جنس (العدو).
والتحليل المتمهل يبين أنهم خمسة أصناف :
1-الصنف الأول هم أعداء الله
وعلينا أن نستعد لهم : وإذن فالمخاطب فيها حينها هو الإنسان عامة إذا كان بحق مؤمنا. ولما كان الله لا يستطيع أحد أن يعاديه فإن القصد هو معاداة شرعه ومقاصده من خلقه.
أي أن المخاطب هو من يؤمن بالعدل والحق دون اعتبار لنسبته إلى جماعة معينة رغم أن المسلمين هم الأولى بالخطاب. وهذا هو الأساس الذي من أجله فرض الجهاد غير الدفاعي على المسلمين قبل غيرهم من البشر ويبدو أن البشر على الأقل بالكلام باتوا يعتقدون في ضرورة ذلك: أعني الجهاد لفرض حرية العبادة ولمنع الفساد في الأرض والعدوان على المستضعفين.
2-والصنف الثاني هم أعداؤنا
أي من لا يكتفون بمعاداة الله بصورة عامة بل يعادوننا نحن بالذات إما لأنهم يعادون الله بإطلاق وعلينا أن نعتبرهم أعداء أو لأنهم يعادونه فينا فعادونا لأننا نؤمن به. وهنا الخطاب موجه إلينا خاصة.
ونحن اليوم نعيش الصنفين أو إن صح التعبير الدافعين للعدوان علينا بالمعنى الأول والثاني.
ونستطيع أن نحدد صنفين آخرين بمجرد أن نفترض أن القصد في الصنفين الأولين أنهما يمثلان الأعداء الذين نعلمهم بالمقابل مع من لا نعلمهم.
فمن لا نعلمهم ويعلمهم الله هم أيضا إما أعداء الله أو أعداؤنا. ومن ثم فمن لا نعلمهم هم كذلك صنفان من جنس الصنفين السابقين ويتميزان عن الأولين بالتنكر والتقية.
ومثالنا عليهم المليشيات الخمس التي تخترق شروط الحماية والرعاية للتخريب (ما يجري في الخليج حاليا يبين ذلك جيد البيان كما في الحالة الأخيرة في الاكتشافات المهولة في الكويت). وإذن فالصنفان الآخران هما :
3-الصنف الثالث
هم صنف أعداء الله المتنكرين وأصحاب التقية وهم المنافقون دينيا.
4-الصنف الرابع
هم صنف أعدائنا المتنكرين وأصحاب التقية وهم المنافقون سياسيا.
وحتى نحدد الصنف الخامس والمذكور ضمنيا في “لا تعلمونهم” فينبغي أن نعلم أن “لا تعلمونهم الله يعلمهم” لها دلالتان :
فلا تعلمونهم يمكن أن تكون نسبية أي في مرحلة الاستعداد للمجهول. لكن يمكن الوصول إلى علمهم لأنهم من عالم الشهادة (كما حصل في اكتشافات الكويت).
ولا تعلمونهم بإطلاق أي دائما مهما استعددتم للمجهول لأن الأمر يتعلق بالغيب. وبذلك نصل إلى الصنف الخامس والأخير.
5-الصنف الخامس
هم ممثلو الغيرية المطلقة أو ما يمكن أن يحصل في المحيط الطبيعي والإنساني مما لا يمكن توقعه مهما تقدم العلم الإنساني ومهما ازدادا حذرا خاصة وأن العلم الإنساني نفسه يمكن أن يكون هو بدوره مصدر الخطر (مثل الأسلحة الفتاكة والتجارب التي لا تظهر مفاعيلها إلا بعد قرون كما في التغيير الجاري على الأغذية والأدوية والظاهرات الحية).
والله يقول استعدوا له ليس بمعنى للتمكن من منعه بل بمعنى للتواضع ومعرفة حدود الإنسان وأنه في كل الأحوال مهما تحوط عليه أن يعلم أن الله على كل شيء قدير. وهذا هو المبدأ الذي يؤسس لسياسة الاستخلاف الذي يعمل بمنطق الشروط التي يقتضيها استعمار الإنسان في الأرض مع عدم الإخلاد إليها ومن ثم التحرر من الانغلاق على المتناهي والفاني . ويقتضي ذلك الجمع بين القوتين المادية والروحية الذي يترجم حكميا بنصيحة الرسول الأكرم : اعقلها وتوكل.
العلاج العقلي الخالص ونظرية الأحياز الخمسة
أعود الآن إلى العلاج العقلي الخالص. وقد بدأت بالنقلي الذي هو أيضا عقلي بخلاف ظن السخفاء ممن يعتقدون بإمكانية الفصل بين المنظورين (فالنقلي مضمونا عقلي شكلا و العقلي شكلا مضموني نقلا سواء في علوم الطبيعة أو في علوم الشريعة : وهو مبدأ بيناه في غير موضع). لكن لا بأس فلنسم العلاج الثاني بالعقلي الخالص تسميتنا للعلاج الأول بالنقلي الخالص.
فكيف نصنف الأعداء تصنيفا عقليا يكون جامعا مانعا لنرتب العداوات تمييزا بين البنيوي والظرفي للفصل بين ما هو استراتيجي وما هو تكتيكي؟
ترجمة فلسفية لتأسيس ابن خلدون لنظرية الدولة
لما حاول ابن خلدون تأسيس نظرية الدولة تساءل عن علة الحاجة إليها فبين أنها مضاعفة مرتين (راجع مقدمة المقدمة):
فهي للحماية : 1-في الداخل و2-في الخارج.
وهي للرعاية 3-في التكوين و4-في التموين.
طبعا هو لم يقل ذلك بهذا الوضوح. ولذلك سمينا ما ننسبه إليه بالترجمة الفلسفية لعمله تحفظا على ما يمكن أن نقع فيه من الخطأ لئلا ينسب إليه.
قراءة ابن خلدون و تعيين العوامل الأربعة لمقومات الدولة
لكننا نعتقد أن ما ننسبه إليه ترجمة أمينة ما أمكنت الأمانة في القراءة باللغة الفلسفية لما كان يقصده بلغة عصره حتى وإن لم يعبر عنها بنفس الالفاظ :
فعنده أن الدولة شرط التعاون لمنع مد اليد لمال الغير وللحسم العادل في النزاعات. وهذه هي الحماية الداخلية.
وهو لا يغفل الحماية الخارجية عندما يتكلم على العلاقات بين الدول والحروب لعلل سياسية واقتصادية خاصة.
كما أن سد الحاجات الذي يحتاج لدور الدولة في منع العدوان بين المشاركين في توزيع العمل وفي التبادل الضروري والتعاوض المشروط فيه وفي تكوين الإنسان عامة للقيام بهذه الوظائف اعتبره ابن خلدون من أهم وظائف الدولة. فيكون ابن خلدون إذن قد تكلم في ما سميناه الرعاية تكوينا وتموينا.
وينبغي أن نعترف أننا ندين له كذلك بتمييز مهم بين هذه الوظائف إذ اعتبر بعضها صوريا ويتعلق بالحماية والتكوين وبعضها ماديا ويتعلق بالرعاية والتموين. فتكلم على صورة العمران (الحكم والتربية) وعلى مادة العمران (الاقتصاد والثقافة).
إضافة العامل الخامس
وإذا انطلقنا من هذه العناصر الأربعة : الحكم والتربية والاقتصاد والثقافة ثم أضفنا إليها ما سكت عنه رغم أنه ضمني في عمله أعني وما يوحد بينها فيجعلها منتسبة إلى جماعة معينة أمكن لنا أن نضيف العامل الخامس الذي هو أصلها جميعا.
وهذا الأصل 5-هو المرجعية الروحية التي تحدد هوية تلك الجماعة بالتوحيد بين عاملي الحماية وعاملي الرعاية في الجماعة ذات الدولة الساهرة عليها وتلك هي الاستراتيجيا الحقيقية وكل ما عداها من الاستراتيجيات الجزئية في الحرب والسلم على حد سواء مردها إليها. وكان يمكن أن نكتفي بعمل ابن خلدون كمرحلة أولى لتصنيف الأعداء وترتيبهم.
فهي مرحلة مهمة تمكن من وضع الاستراتيجيا التي تطبق مطلوب الآية 60 من الأنفال أو سياسة الردع لتحقيق الحماية والرعاية وقاية لا علاجا. لكننا لا نكتفي بها بل نفضل الغوص إلى ما هو أعمق من هذا المدخل للتحديد العقلي للأعداء تصنيفا وترتيبا :
ذلك أن دور الأصل –المرجعية الروحية المعينة– قد يجعل البعض يتصور الاستراتيجيا تابعة للجماعات وليس شارطة لوجودها أصلا ولبقائها خاصة.
وما سنعتمده هو ما نعتبره أضافتنا الشخصية لاستكمال نظرية ابن خلدون وابن تيمية في فهم الفلسفة العميقة للاستراتيجية بصورة عامة سواء بمنظور العقل وحده أو بمنظوره المسنود بالمنظور النقلي لأن الهدف في الحالتين هو استراتيجية توحيد الإنسانية المشروط في قيام الأمة بدورها شاهدة على العالمين (وهو ما اعتبرناه موضوع تفسيرنا للقرآن تفسيرا فلسفيا).
استكمال نظريتي ابن خلدون و ابن تيمية
ولنبدأ فنعلل الحاجة إلى هذا التجاوز المكمل لنظرية ابن خلدون وابن تيمية في السياسة باعتبارها بالجوهر استراتيجية الحماية والرعاية التي هي جوهر مفهوم الدولة (ابن خلدون) بمنطق الأمانة والعدل أساسا مضاعفا للسياسة الشرعية وضمانة لشرعية الحكم ولنجاحه ( ابن تيمية النساء 58).
فإذا كانت السياسة هي في الحقيقة الاستراتيجا المطلوبة أو ما من أجله كان الوجود الجمعي (هشاشة الفرد الإنساني) والدولة التي تحميه (من الخوف) وترعاه (من الجوع) رمزين لنوعي الحاجة دون حصر في دلالتهما الأولى فإن البحث الأعمق ينبغي أن يسأل عن علل الخوف والجوع ما هما وأين يتعينان تعينا كونيا يعلل كونية القوانين السياسية سواء كانت في الداخل (سياسة جماعة معينة) أو في الخارج (السياسة الدولية).
المبادئ القصوى للإستراتيجيا
عندئذ إذا وضعنا المسألة بهذا العموم أمكن العلاج العلمي الدقيق إذ سنكتشف أنهما مكتوبان في الطبيعة الذاتية والخارجية للإنسان من حيث هو إنسان. ففي الطبيعة الذاتية يوجد الخوف والجوع انفعالا وفعلا وشروط سدهما. وفي الطبيعة الخارجية يوجد شروط سدهما وموانعه فعلا وانفعالا كذلك :
سؤال الطبيعة الذاتية للإنسان
فما يصدر عن الطبيعة الذاتية للإنسان يضع سؤال : كيف يدفع الخوف والجوع إلى التعاون على تحقيق شروط علاجهما (تكوين الجماعة والدولة) ويدفع في آن إلى التنافس على ما به يقع علاجهما. فيكون ما في الإنسان من خصائص علة للسلم والحرب معا ما يجعل الاستعداد للحرب شرط السلم؟
سؤال الطبيعة الخارجية
وما يصدر عن الطبيعة الخارجية يضع سؤال : كيف تكون الطبيعة مصدر المدد الذي يمكن من تلبية حاجات الكائن الحي عامة والإنسان خاصة وفي آن مصدر الأخطار التي تهدد الحياة تخويفا وتجويعا. فيكون ما في الطبيعة الخارجية من خصائص علة تنامي الظاهرة التي في الإنسان (محدودية أسباب العيش واختلاف المكان والمناخ أعني ثروات الطبيعة)؟
الجمع بين السؤالين
والجمع بين هذين السؤالين وعلاج ما بينهما من ترابط هو الذي أدى إلى وضع نظرية الأحياز التي هي مجال الإشكال والحل في آن بالنسبة إلى السؤالين معا.
وهذه الأحياز تنقسم إلى خمسة اثنان منها طبيعيان ويتمثل المشكل والحل في تحويلهما الحضاري واثنان منها حضاريان ويتمثل المشكل والحل في تحويلهما الطبيعي.
تحويل الحيزين الطبيعيين
فالحيزان الطبيعيان اللذان يتحولان بالتدريج إلى حيزين حضاريين هما المكان الذي يصبح جغرافيا والزمان الذي يصبح تاريخا. والجغرافيا والتاريخ هما أصل كل الصراعات بين البشر.
تحويل الحيزين الحضاريين
الحيزان الحضاريان اللذان يتحولان بالتدريج إلى حيزين طبيعين هما ثمرة التحويل السابق .
مصدر الصراع الطبقي
فمن تحويل المكان ينتج السلم المعتمد على معيار الثروة الذي ينقلب إلى ما يشبه القانون الطبيعي في تصنيف البشر ويخلق الصراع الطبقي.
مصدر الصراع العنصري
ومن تحويل الزمان ينتج السلم المعتمد على معيار المنزلة الذي ينقلب إلى ما يشبه القانون الطبيعي في تصنيف البشر ويخلق الصراع العنصري.
مصدر الصراع داخليا و خارجيا
والصراعان الطبقي والعنصري من أهم الحروب بين البشر وهما المحفزان لجعل الجغرافيا والتاريخ يصبحان شبه مقدسين في علاقات الجماعات بعضهم بالبعض وحتى علاقات الأفراد بعضهم بالبعض في نفس الجماعة.
علاج القرآن للعداوة بين البشر
وكل ذلك أصله ومفصله في المرجعية الروحية التي تعالج هذه الصراعات الأربعة بصراع خلقي أسمى هو إخضاع استعمار الإنسان في الأرض إلى قيم الاستخلاف ليكون البشر إخوة لا يتفاضلون إلا بالتقوى :
وليس بالجغرافيا أولا
ولا بما ينتج عنها من سلم طبقي (الاقتصاد) ثانيا
وليس بالتاريخ ثالثا
ولا بما ينتج عنه من سلم عنصري (الأعراق من العراقة) رابعا
وليس أخيرا –وهذا هو أساس الإصلاح القرآني– بالتحريف الديني الذي ينفي الأخوة البشرية.
لذلك اعتبر القرآن الكريم هذه العلل الخمس اسباب كل الأمراض التي تعاني منها الإنسانية وهي قابلة للرد إلى التحريف الديني المبني على أصلها جميعا :
الشعب المختار وعبادة العجل فالأول يؤسس للعنصرية والثاني للطبقية وكلها لجعل الإنسان مخلدا إلى الأرض إن حملت عليه يلهث وإن تركته يلهث.
الخاتمة
يوم تفهم الأمة الإسلامية حقيقة ثورتها التي حاولنا بيان بعض وجوهها يومها ستفهم لم هي الأمة الشاهدة وكيف يمكنها أن تحقق شروط الشهادة وأولها المناعة التي هي شرط أداء الأمة لرسالتها وغاية الحرية والكرامة الإنسانية أعني هدفي الثورة التي لم تدرك بعد أبعاده الفلسفية والروحية لأن الحثالة باتت تثير الغبار وتلتحف بالعار لمنع حماية الدار والتحرر من الاقتتال والثار بين أبناء آدم محليا وأقليميا ودوليا.
تلك هي رسالة الإسلام وتلك هي علة نذر حياتي لشرح ما أفهمه من القرآن وما أستوحيه من كتابات كبار مفكرينا الذين بات يتجرأ عليهم الأقزام ومليشيا الأقلام من الأزلام.
لكني مؤمن عميق الإيمان بأن القلة التي تعمل بأمانة وعدل –بمعدل 10 ساعات يوميا على الأقل– يمكنها أن تصمد أولا وأن تنتصر أخيرا لأن الله جل وعلا قال
“حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ” (يوسف 110).
إعجاب تحميل…