تنبيه مدير الصفحة :
بداية من اليوم نعرض فروع الاستراتيجية بصورة نسقية فيها تعقيد متزايد كلما تقدمنا في الفروع لأنها مرتبة بصورة تجعل الخالف متضمنا لنتائج السالف منها. ومن ثم فلا يمكن قراءته من دون أن يكون ما ورد في الأول حاضرا في الذهن. وهكذا دواليك. فمن ليس له ميل لمتابعة النسج المتدرج لمقومات الاستراتيجية “فلا يدخلن علينا”(كما قال أفلاطون).
تمهيد :
غني عن البيان أن السياسة أصبحت عند العرب نتيجة للانحطاطين الذاتي والمستورد وما ترتب عليهما من تفتيت المكان (كل قبيلة دولة) والزمان (كل جماعة أمة) إلى ارتهان للغير (في الحماية والرعاية) واستسلام للطبيعة يستنزفها جيل لتستمتع مافياته الحاكمة وعملاؤها من المليشيات التي تحمي الأنظمة من الشعوب بدلا من حماية الأوطان من الأخطار الطبيعية والإنسانية التي تحيط بكل جماعة من داخلها وخارجها.
وكما قال ابن خلدون فلولا التنافس بين البشر على الأحيا ز-الخمسة التي أضفناها لنضفي النسقية والوضوح على حدوسه الفلسفية- أي المكان والزمان وثمراتهما وأصلها أربعتها لما احتاج الإنسان إلى الوازع والدولة واستراتيجية الحماية والرعاية ولصدقت يتوبيات الفلاسفة حول المدينة الفاضلة (رأيه في المدينة الفاضلة). فغرائز البشر الحيوانية والعدوانية تتضاعف كلما ازداد حضارة لأن وسائل العنف تزداد قدرة على الإيذاء فضلا عن عبادة الهوى التي تقوي التنافس على الاحياز وخيراتها فتتضاعف أسباب الصراع بين البشر .
سبق أن حددنا القصد بنظرية الأحياز وعلاقتها بالاستراتيجية من حيث هي عين السياسية التي تجعل وظيفة الدولة متمثلة في الحماية والرعاية استعدادا في زمن السلم واستعمالا عند الحاجة في زمن الحرب (الأنفال 60). فتعريف علم السياسة بكونه بالجوهر عين علم استراتيجية الحماية والرعاية في السلم والحرب في آن هو مفهوم السياسة التي يعتبرها القرآن نظام استعمار الإنسان في الأرض بقيم الاستخلاف. ولم يبق أحد في العالم يتصور السياسة تصورا مغايرا إلا بين العرب الذي يعتقدون أن السياسة هي متعة الحكام بتبذير ثروة البلاد وعدم الاهتمام بالاستعداد لا للسلم ولا للحرب.
وقد قدمنا الكلام على حماية المرجعية والهوية معللين التقديم بكون المرجعية والهوية هي في الحقيقة الأصل الذي تتفرع عنه كل مجالات الحماية والرعاية. لذلك فلا بد أن يتقدم ويتأخر في آن. فبيان تفرعها عن المرجعية والهوية يوجب تقدمهما عليها. لكن دراسة الأصل بالصورة الأوفى تفيد من دراسة الفروع التي تجتمع فيه كغاية. وبذلك فالرجوع إلى الأصل ستلي دراسة الفروع.
ونبدأ الآن في عرض الفروع بقسمها الأول وهو المتعلق بالأحياز. وأول الأحياز هو حيز المكان. فكيف تكون حمايته ورعايته بوصفهما أول مهام السياسة التي تسير بمقتضاها الدولة؟ علينا إذن أن نحدد بصورة دقيقة القصد بحماية حيز المكان ورعايته فرعا أولا من القسم الأول من مجالات الاستراتيجيا التي تحمي وترعى شروط قيام الدولة بوظائفها ومن ثم جزءا لا يتجزأ من الاستراتيجيا الملازمة لقيام الجماعات.
تعريف حيز المكان ومستوييه
فالمعنى الأول لحيز المكان هو الظرف الطبيعي لوجود أي موجود. وهو لغويا اسم ظرف. لكنه كذلك مصدر ميمي من كان. وتلك هي علة كونه أول الأحياز لأنه لا يقتصر على الظرفية بل هو يفيد الانحياز أي التعين الذي به يكون الشيء هو هو وليس غيره.
وإذن فالمكان ليس مجرد محل وجود للكائنات الحية التي تقيم فيه بل هو كذلك شرط وجود لأن الكائنات لا تقيم فيه فحسب بل هي تستمد منه ما تقوم به أو قوامها. المكان إذن حيز يظرف الإنسان ويحييه فيكون مقاما بما هو ظرف وقياما بما هو شرط حياة عضوية للإنسان أي إن الإنسان يقتات مما في المكان من مغذيات : إنه حيز التبادل بينه وبين الطبيعة كلها. فيكون بذلك مقاما وقياما من حيث كونه حيزا طبيعيا. لكنه يكون كذلك مقاما وقياما من حيث كونه حيزا طبيعيا يتحضر بالتدريج فيصبح حيزا حضاريا دون أن يفقد صفته بما هو حيز طبيعي. وفقدانه لها من علامات شيخوخة الحضارة وميلها إلى الانحطاط.
إن تحويل الحيز من وضعه الطبيعي إلى وضع الحيز الحضاري يقتضي عمليتين هما مدار السياسة المحلية والدولية في كل تاريخ البشرية. ذلك أنه يقتضي حصول قسمتين كلتاهما تنتج عن تنافس على المكان وعلى ما فيه من شروط مقام وقيام :
- تقاسم المعمورة بين الجماعات المختلفة المتجاورة والتي قد تتحول إلى جماعات متوالية لأن بعضها قد يزيل وجود بعضها الآخر خلال الصراع على المكان : فظاهرة الاستعمار مثلا من جنسين إما بالاستيعاب (الفتح الإسلامي) أو بالإفناء (الاستعمار الغربي لأمريكا).
- وتقاسم حيز كل جماعة بين افرادها أو فئاتها أو أي نوع لها من أنواع المقام في المكان والقيام به. وهنا أيضا يحصل صراع بين المتساوقين قد ينقلب إلى متوالين لأن نفس التنافس على المكان يحصل داخل المجموعة حصوله بين المجموعات.
وطبيعة الظاهرة في الحالتين تجعل العملية تقتضي تحويل الحيز إلى حوز ثم تحويل الحوز إلى ملكية جماعية بالنسبة إلى الخارج وإلى تقاسم الملكية في الداخل. وكلتا القسمتين تقتضي إضفاء شرعية الحوز على القسط من الحيز. وذلك هو الأصل الأول للقانون الذي يمثل الشرعيةوينطبق ذلك على كل قانون محلي ودولي في كل مراحل تاريخ البشرية.
ومعنى ذلك أن المكان لا يبقى مجرد جغرافيا طبيعية يقيم فيها الإنسان ويقوم بها بل هو- مع هذه الصفة التي لا يفقدها- يتحول إلى جغرافيا حضارية يجعلها المقام فيها والقيام بها حوزا ثم ملكية ومن ثم فهي تتحول إلى موضوع تنافس وصراع يقتضي الحماية والرعاية. فتصبح الجغرافيا طبيعية وحضارية أهم مشاكلها هي علاقة الوجهين ومن ثم منزلة صنع الإنسان لمقامه وقيامه في صلتهما بما تصنعه الطبيعة وفي صلتهما بما يترتب على التحوز والتملك من صراع وتنافس في الداخل وفي الخارج ومن ثم من ضرورة إيجاد مؤسسات الحماية والرعاية في الداخل (القضاء والأمن) والخارج (الدبلوماسية والدفاع) في آن.
وبذلك فما يحتاج إلى الحماية والرعاية له مستويان :
- حيز المكان من حيث هو مقام وقيام طبيعي.
- حيز المكان من حيث هو مقام وقيام حضاري.
لكن المستويين يتفاعلان ما يضيف إليهما مستويين آخرين هما :
- ففعل الثاني في الأول ينتج حيز الثروة : تأثير الزمان في ثمرة المكان تراكم الثروة.
- وفعل الأول في الثاني ينتج حيز التراث : تأثير المكان في ثمرة الزمان تراكم التراث.
والاستراتيجيا الجامعة في سياسة المكان حماية ورعاية أو استراتيجيته هي أصل التفاعل أو عملية تحقيق التوازن بين الحيزين وبين بعدي الإنسان الطبيعي والحضاري وهو أهم مقومات السياسة التي تحقق شرطي الحماية والرعاية من البشر ومن الطبيعة في آن.
وهذا التفاعل هو الذي ينتج مادة العمران ببعديها المادي (الاقتصاد) والرمزي (الثقافة). فمفعول حيز الزمان أو تواصل المقام والقيام في المكان لمدة يحقق ذلك الثروة المادية أو المال (ما يمتلك). ومفعول حيز المكان في الزمان أو تواصل المقام والقيام في الزمان لمدة يحقق ذلك الثروة الرمزية أو التراث.
والسياسة أو الاستراتيجيا التي تحقق الحماية والرعاية ينبغي أن تحقق التوازن بين الحيزين مقاما وقياما وبين التفاعلين في الثمرتين وذلك في الداخل وفي الخارج لأن الدولة بمجرد كون وظيفتها الحماية والرعاية لا بد لها منه وجهي جانوس أي من الالتفات إلى الحماية والرعاية بالإضافة إلى الخارج أي إلى الجماعات الأخرى التي تنافسها على المكان وثمرته وإلى الجماعة في الداخل التي تتنافس بعضها مع البعض على المكان وثمرته:
- والحماية التي تنتسب إلى الجزء المادي من صورة العمران هي الحكم : بالتشريع والقوة العنيفة الشرعية.
- والرعاية التي تنتسب إلى الجزء الرمزي من صورة العمران هي التربية : التهذيب والقوة اللطيفة الشرعية.
فالدولة من حيث هي صورة العمران هي الحكم والتربية ومفعولهما في مادة العمران أي الاقتصاد (الإنتاج المادي المشروط في الحياة العضوية خاصة) والثقافة (الانتاج الرمزي المشروط في الحياة الروحية خاصة). لذلك فاستراتيجيا الحماية والرعاية لحيز المكان تنتسب في آن إلى بعدي الصورة أعني الحكم والتربية ودورهما في حماية حيز المكان ورعايته بمستوييه الطبيعي والحضاري بدلالتيهما المحلية (التقاسم الداخلي لقسط الجماعة من المعمورة) والدولي (التقاسم الخارجي للمعمورة بين الجماعات المتجاورة والمتنافسة على المكان).
وطبيعي أن نؤخر الكلام على تفاعليهما بما هما مقام وقيام طبيعين يؤثران في الحضاريين وبما هما مقام وقيام حضاريان يؤثران في الطبيعيين لأنهما هما بدورهما فرعان الكلام عليهما سيلي بعد الكلام على الزمان.
ذلك أن الحوز والملكية والإبداع المادي ينتجان عن تأثير الزمان في المكان (الاقتصاد) والانحياز والمنزلة والإبداع الرمزي (الثقافة) وهما مادة العمران الرمزية والمادية وهذان الفرعان يمثلان هما بدورهما حيزين لأنهما فضاء يرتب فيه
الناس مثل المكان والزمان ولهما سلم فيها الجهات فوق وتحت مقارنة مع المكان وقبل وبعد مقارنة مع الزمان. لذلك اعتبرناهما حيزين لأنهما فضاءان يتنزل فيهما الناس إما بمعيار الثروة أو بمعيار التراث. وهذان المعياران يتلقيان ويفترقان لعلل سندرسها عند الكلام على استراتيجية حمايتهما ورعايتهما.
المسألة الأولى: حماية حيز المكان ورعايته بما هو جغرافيا طبيعية
عرفنا المكان بكونه الظرف والوجود المحقق لشروط المقام والقيام. والمقام والقيام كلاهما مرهون بالمناخ (قابلية الحماية من الطبيعة) وبالدفاع (قابلية الحماية من الجماعات الأخرى) وبعدم انحصار القسط من المكان بصورة تحول دون التواصل مع العالم (مثلا البلوغ إلى البحر والجو دون الخضوع لإرادة الأجوار) ووفرة الموارد الممكنة من القيام.
هدف البحث هو الجواب عن الأسئلة التالية : مم يحمى؟ وكيف يحمى؟ ومم يرعى؟وكيف يرعى؟ فالحماية والرعاية تكون أولا من الأخطار التي تأتي من الخارج. وهي نوعان :
- النوع الأول : أخطار تأتي من الطبيعة ذاتها أو ضدها. والحماية عندئذ تهدف ليس إلى حماية المكان منها بل حماية ما في المكان منها (حماية الإنسان والحضارة من العناصر والزلازل والبراكين مثلا). أما حماية المكان من الإخطار على الطبيعة فهي تكون على ما في المكان من الإنسان (التلوث والحروب بالأسلحة المفسدة للطبيعة كالكيمياوي والجرثومي والذري إلخ…مثلا).
- النوع الثاني : لكن الأخطار التي تجعل المكان أشد حاجة إلى الحماية والرعاية متعلقة بحماية البشر بعضهم من البعض ورعايتهم. وهذه لا يكفي فيها الاعتماد على الحامية بل لا بد من توزيع السكان في المكان وفق استراتيجية الدفاع عند الحاجة. وحل مشكل حماية المقام والقيام أو الدفاع يقتضي الحد من هشاشة الحماية والرعاية في حالة السلم قبل حالة الحروب : وهذا لا يتم إلا إذا كان المكان عامرا.
وأهم مبدأ في استعمار الإنسان في المكان هو الربط بين المناطق مع قابلية القيام المستقل عند الضرورة حتى لا تكون هشة بحيث إذا احتل العدو بعضها سهل عليه احتلال الباقي. قوة الجماعة في الوحدة في كل جزء منها أي إن كل جزء منها يكون فيه كل الجماعة بشروط المقام والقايم لئلا تكون الجماعة هشة : ففي الحروب مثلا تكون القرى-التي تعتمد على نفسها في كل شيء تقريبا- أكثر قدرة على الصمود من المدن لأن غالب السكان لهم إمكانية توفير شروط العيش باستقلال عن الدولة.
أما الحماية والرعاية من الداخل. فشرطها مضاعف. ذلك أن التوزيع السكاني بالصفة التي ذكرنا مع شرط وحدة الجماعة في كل جزء منها يعني أن الأمر لا يقتصر على توزيعها في المكان بمعنى السكن فيه بل بمعنى جعل الأنساب موزعة من خلال تبادل النساء بين المناطق في الجماعة وهو بالضرورة سيؤدي إلى المشاركة في الملكية بفضل نظرية الإرث في الإسلام (الفقهاء أفسدوها بأن جعلوا الوقف يمكن أن يحرم النساء من الإرث). ذلك هو شرط تحقيق التكامل في المقام (التبادل الجنسي أو تحقيق الوحدة الجنسية قدر الإمكان : منع التقسيم القبلي أو العرقي ) والقيام (التبادل الاقتصادي أو الموارد).
المسألة الثانية: حماية حيز المكان ورعايته بما هو جغرافيا حضارية.
هنا أيضا الهدف من الاستراتيجيا هو تحديد الجواب عن الأسئلة التالية : مم يحمى؟ وكيف يحمى؟ ومم يرعى؟ وكيف يرعى؟ إن ما سبق أن ذكرناه بخصوص حماية المكان ورعايته من حيث هو طبيعي له دخل في الحماية والرعاية للمكان من حيث هو حضاري. وتكون الحماية والرعاية هنا متعلقتين بالأخطار الواردة من الخارج ومن الداخل.
فالحماية والرعاية المتعلقتان بالأخطار الواردة من الخارج تخص بنية الاقتصاد والثقافة ومدى قدرتهما على تحقيق المتانة وحرية ارادة الجماعة وقدرتها على القيام المستقل في معاشها وحمايتها. وهذا يقتضي استراتيجية تنموية تحقق التوازن بين سياسة التبادل وسياسة الاكتفاء في شروط البقاء التي هي أساسا :
شروط البقاء العضوي والنفسي في السلم والحرب في آن :
الغذاء المادي وما يترتب على العناية بالأبدان والغذاء الروحي وما يترتب على العناية بالنفوس.
والدفاع المادي (العتاد) والخبري (العديد) وما يترتب على العناية بالحماية الخارجية والداخلية أي بشروط حرية الإرادة وإمكانية القدرة.شروط الشروط بسبب تقدم الحضارة :
لكن هذين الشرطين لم يعودا قابلين للتحقيق بأي حجم اتفق للدول بل لا بد من حجم مناسب لشروط التنافس على اقتسام المكان بين الجماعات والقدرة عليه. ومعنى ذلك أن الدول ليست ظاهرة مستقلة من حيث الحجم والإمكانات عن هذه الشروط. وأولها أن القدرة على الإرادة الحرة والاستقلال تتعلق خاصة بالقدرة على إنتاج وسائلهما وطرقهما :
ولهذه القدرة صلة مباشرة بشروط الإنتاج الرمزي المتعلق بالاستعلامين والإعلامين :
الانتاج الرمزي المتعلق بالمعرفة العلمية : الاستعلام والإعلام المعرفي أو البحث العلمي في معرفة قوانين الطبيعة والتاريخ واستغلال تطبيقاتها في إنتاج شروط الاستقلال في الحماية والرعاية.
الإنتاج الرمزي المتعلق بالمعرفة الاستراتيجية : الاستعلام والإعلام السياسي أو الاستخبارات المطلعة على خطط الأعداء في التنافس على المكان وثمراته وأهمها شروط المقام والقيام وشروط الحماية أو الجيوسياسة.
وهذان الانتاجان هما عقل الدولة وأهم أدوات قيامها بوظيفتيها أي بالحماية والرعاية. وبذلك نصل إلى العلاقة المباشرة بين السياسي والاستراتيجي أو بين العملي والمعرفي من حيث هما أداتا التكيف الإنساني وشرطا استعمار الإنسان في الأرض بقيم الاستخلاف بالمعنى القرآني للكلمة. ولهذه المعاني صلة مباشرة بالفرع الموالي المتعلق بالزمان وثمرته أي بتراكم المعرفة والتراث ودور تأثير المكان في الزمان.
ذلك أن كل ما يبدعه الإنسان من منتجات رمزية معرفية وجمالية وروحية لها صلة بالتكيف مع شروط المكان من حيث مقام وقيام. فالثقافة هي المبدعات التي ينتجها الإنسان ليستجيب لحاجات الحماية والرعاية التي يحددها المكان بمستوييه الطبيعي والحضاري. وذلك ما سندرس استراتيجية حمايته في الفصل الموالي.