نظرية الأحياز الخمسة ف 02 ق 01 ج 03 -فروع الإستراتيجيا – سياسة الأحياز – إستراتيجيا حماية حيز الزمان ورعايته



لتحميل المقال أو قراءته في ص-و-م pdf إضغط على العنوان أو الرابط أسفل النص



حيز الزمان و علاقته بحيز المكان

مثلما أن حيز المكان له مستويان -طبيعي وحضاري- فإن لحيز الزمان كذلك مستويين طبيعي وحضاري.
ومن ثم فحماية حيز الزمان ورعايته مثل حماية المكان ورعايته تتعلقان به وبمقتضيات هذين المستويين. وحماية الزمان ورعايته مشروطتان بحماية حيز المكان ورعايته لأنهما يجريان في المكان ويمددان ما يجري فيه.
ومن ثم فهما عين تلكما الحماية و الرعاية من حيث تواصلهما التراكمي الذي يشمل في كل لحظة حاضرة أبعاد الزمان الإنساني (الخمسة) أي أصلها الذي هو الحاضر حيث تلتقي وتتفاعل أبعاده الأربعة الأخرى:

  • الحاصل في الماضي 1-بعد الحدث 2-وبعد الحديث حول الحدث المتقدم عليه.
  • والمنتظر في المستقبل 3-بعد الحديث 4-وبعد الحدث المحقق للحديث المتقدم عليه.

والتعاكس في الترتيب بين الحدث والحديث من خصائص وجهي الزمان الماضي والمستقبل من تاريخ الإنسان. وما الحاضر إلا متلقى هذه الأبعاد الأربعة وليس هو إلا اعتمالها فيه. لذلك فكل ذلك يمكن أن تكشف عنه كل لحظة حاضرة من تاريخ الجماعة أو من تاريخ الإنسانية. فكل لحظة هي مصهر حامي الوطيس يعتمل فيه الحديثان والحدثان. فما كان منهما من الماضي يعتمل بما له من قوة بالفعل (الحدث) وما كان منهما من المستقبل يعتمل بما له من قوة بالقوة (الحديث).

ولما كان ما بالفعل من حدث الماضي ومن حدث المستقبل منفتحين بفضل ما هو بالقوة في حديث الماضي (تعدد التأويلات الممكنة لحدث الماضي) وما هو بالقوة في حدث المستقبل (تعدد صور الإنجاز الممكنة في المستقبل) فإن الإمكان في الحديث (المتعلق بالماضي) وفي الحدث (المتعلق بالمستقبل) هو الطاغي.
أما ما هو بالفعل في حدث الماضي (أعني ما أثر منه فعلا حال حصوله) وفي حديث المستقبل (أعني ما سيؤثر منه لما يحصل) يبقى شبه مستحيل التحديد لأن تأثيرهما يبقى رهن الإمكانين حول الحديث المتعلق بحدث الماضي وحول الحدث المتعلق بحديث المستقبل.

وهذا اللاتحديد في دلالة الماضي بسبب تأويلات الحديث وفي دلالة المستقبل بسبب تفعيلات الحدث يجعل التاريخ الإنساني دائم التأرجح بين المحدد واللامحدد وبين الثابت والمتغير وتلك هي مساحة الحرية الإنسانية التي تقتضي بالضرورة التدبير السياسي والاستراتيجيا استعدادا لسلطان الممكن ما كان منه متوقعا وما كان غير متوقع.
فالزمان الطبيعي آنات حاضرة متوالية لا يصل بينها في مستوى الأحداث إلا العلية الطبيعية التي نفترضها نظاما ممسكا بتفاعل الاحداث المتساوقة والمتوالية. وهي لن تصبح ذات صلة بفاعلية الإنسان الإرادية إلا بفضل انتقالها إلى الزمان الحضاري الذي من بين أدواته هذا الوصل السببي فرضية مشروطة في النظر والعمل.
لكن هذه النقلة لو اقتصرت على الذاكرة النفسية -في أذهان البشر وقد تمكنت الجماعات من وضع حل الاختصاص في الرواية وحفظ المشتركات الحضارية للجماعة فكان حلا مرضيا إلى حد في الثقافة الشفوية- لاستحال أن يحصل تراكم حقيقي لأي استراتيجيا بما في ذلك استراتيجا المكان ولبقيت الحضارة بدائية لا تتجاوز المستوى الشفوي من الحضارة.
ومعنى ذلك أن الفصل بين الاستراتيجيتين علته ضرورة منهجية جعلتنا نفصل بين المكان والزمان. لكنهما متوالجان تساوقا وتلاحقا.
ففي حقيقة الأمر هما متساوقتان في الآن وفي مجرى الزمان لما بينا من تفاعل بينهما مشروط في ثمرتيهما :

  • بينا أن فعل الزمان في المكان هو الذي ينتج الثروة أو الاقتصاد.
  • وبينا أن فعل المكان في الزمان هو الذي ينتج التراث أو الثقافة.

ومعنى ذلك أن حيز المكان لا يثمر إلا بفضل حيز الزمان وحيز الزمان لا يثمر إلا بفضل حيز المكان. ذلك أن وحدة المكان هي محل مجرى الزمان الواحد إذ لو غيرنا المكان لتغير الزمان. والزمان هو محل بقاء المكان واحدا في مجراه إذ لو غيرنا الزمان لتغير المكان. والواصل بينهما هو التغير وهو بالتدقيق الحركة التي تقاس إما بالمسافة المقطوعة من المكان أو بمدة قطع المسافة من الزمان.

والاستراتيجيا مشروطة بالتفاعل بينهما أي بالفعلين :

  • من المكان إلى الزمان : وهو فعل الإنتاج الرمزي المعبر عن أثر المكان في الزمان ويمكن تسميته بالتراث أو بالثقافة العلمية وتطبيقاتها التقنية والخلقية وتطبيقاتها.
  • ومن الزمان إلى المكان : وهو فعل الإنتاج المادي المحقق لأثر الزمان في المكان ويمكن تسميته بالثروة أو بالثقافة المادية وتطبيقاتها الاقتصادية والخلقية وتطبيقاتها.

فالثمرتان (الثروة المادية والثروة الرمزية للجماعة) هما في آن دافعا الفعل دفع العلة الغائية. وهما دافعاه دفع العلة الأداتية. ولا يخلو ما يحدث في التاريخ الإنساني من أن يكونه هذا أو ذاك أو كلاهما في آن. ذلك أن الثمرتين كلتاهما غاية وأداة : فالاقتصاد غاية الثقافة. وهو أداتها في آن. والثقافة غاية الاقتصاد. وهي أداته في آن.
ومن دون فهم هذه العلاقة لن ندرك الترابط بين الحماية والرعاية في استراتيجية حيز المكان واستراتيجية حيز الزمان مع مزيد تعقيد في استراتيجية حماية حيز الزمان ورعايته بالقياس إلى استراتيجية حماية المكان ورعايته لأن الأولى تشترط الثانية وتضيف إليها عوامل أخرى هي موضوع هذا الفصل.
فالزمان يضيف شروط البقاء والاستمرار إلى المكان الذي يعطي للإنسان شروط الوجود. ذلك أن المقام والقيام في المكان من دون الاستمرار الزماني يصبح وجودا لحظيا لا يمكن أن يضمن البقاء حتى العضوي فضلا عن البقاء الحضاري.
ولعل السر في ضعفنا هو أن المسلمين صاروا غارقين في اللحظات المتقطعة والتي لا اثر للتراكم فيها لكأن الأمة أصبحت فاقدة للذكر والتوقع لإفراط الغرق في اللحظة ولتفريط التعالي النظري. ولما كان المكان قد تفتت والزمان قد تشتت بسبب الانحطاطين الذاتي والموروث عن الاستعمار فإن وحدة حيز المكان وحيز الزمان المحققين لوحدة الأمة في الأعيان تكاد تضمحل لولا فضالة منهما في الأذهان.
وهذه الفضالة من أحياز الأمة الحاضرة في المرجعية هي التي يحاربها الأعداء من الخارج والداخل للإجهاز عليها. لكن الشباب المسلم بحنسيه استعاد المبادرة ومجرد حضور المتعالي على الاثنيات والعرقيات والطبقات في حركة مقاومة عالمية دليل على أن ما في الأذهان بدأ يعود إلى الأعيان.
وتلك هي علة كتابتي لهذه المحاولة في الاستراتيجيا :
الهدف هو مساعدة الشباب بجنسيه في تحقيق هذه المهمة استكمالا لمسعى فيلسوفي الانبعاث -ابن تيمية في استراتيجية النظر وابن خلدون في استراتيجية العمل-. إنما عملي مواصلة لمحاولة لم تثمر بعد في الأعيان. لكنها مثمرة في الأذهان لأنها تمكنت من الترجمة العلمية للفلسفة القرآنية المتعلقة بالدين من حيث هو استراتيجة سياسية لاستعمار الإنسان في الأرض بقيم الاستخلاف.

علاقة المكان بالزمان ودور الفاعلية الرمزية

فرغم ان المكان والزمان يبدو كلاهما كيانا متصلا فإنهما في الحقيقة كيانان كلاهما منفصل. فالمتصل منهما قصير جدا لأنه يقاس بمدارك الإنسان. ومن ثم فكلاهما في الحقيقة منفصل على الأقل في الشعور بهما بحيث إن كل واحد منهما يبدو مؤلفا من قطع منفصلة ممتدة بامتداد مدى الإدراك الحسي اللحظي.
فالمكان يمتد من المماسة بالجوار إلى المماسة بمبلغ النظر والسمع :

  • فالواحد من المكان أو بصورة أدق من الشعور به هو هذه المسافة بين المماسة المباشرة بالتلامس والمماسة غير المباشرة بمدى البصر والسمع.
  • والواحد من الزمان أو بصورة أدق من الشعور به هو مسافة من نفس الجنس تمتد بين الشعور الحيني بالحضور وما يمتد إليه الذكر ماضيا وإليه التوقع مستقبلا من المشعور به زمانيا.

لذلك فكلاهما يحتاج إلى وصلات تصل القطع المنفصلة من كل منهما.

  • فالمكان يتألف منها كما يتبين من النقلة فيه لحظة كل توقف عن الحركة. لكن النقلة فيه لو غابت الذاكرة والتوقع لجعلت المكان غير قابل مداه لتجاوز نفس القطعة في كل وقفة فيه.
  • والزمان يتألف من قطع هي مدد البقاء في قطع المكان كما يتبين على الأقل من التداول بين النوم واليقظة. فما يصل يقظة الأمس بيقظة اليوم لا بد منه لتجاوز الفاصل بينهما الذي هو النوم. وهذا الوصل من المعجزات حقا : إذ كيف أذكر أن من أنا اليوم هو من أنا الأمس. وكيف أتوقع أني من أنا اليوم سيكون من أنا غدا.

لذلك كله احتاج الإنسان أولا للوصل بين قطع المكان برموز متجاوز للانفصال المكاني وبين قطع الزمان برموز متجاوزة للانفصال الزماني حتى يتجاوز الامتداد القصير للمدارك المكانية والزمانية إذا اقتصر على القدرة العضوية الحية والفعلية وحدها : وهذا هو سر فاعلية الرمز ومضاعفة الإنسان لمحيطه الطبيعي بمحيطه الثقافي.
ومن هنا كان دور المكان والزمان الحضاريان أساسيا لأنه هو الذي يمد المدارك بما يجعلها تتجاوز هذا التقطيع المكاني والزماني الحائل دون الامتداد والتواصل في حيزي الفرد المكاني والزماني فضلا عن الانتقال به من الشعور الفردي إلى الشعور الجمعي.
فالمكان والزمان يصبحان جمعيين بفضل النقلة من الطبيعي إلى الحضاري ويقاس البعد الجمعي منهما بالعمق الحضاري للجماعة. مكان الجماعة وزمانها لا معنى لهما طبيعيا بل هما ما تحضر من الطبيعي منهما بالحدود التي صارت محددة لما ينسب إلى الجماعة. فتكون جغرافية تونس مثلا أو جغرافية دار الإسلام هي مكاني وتاريخهما هو تاريخي.
لذلك فأول شيء يحتاج إلى الحماية والرعاية في كل دولة هو هذا الشعور المكاني والزماني الممتدين لمكان الجماعة وزمانها : فهو معنى وحدة الجماعة مرجعيا وهوويا.
وطبعا فهذا الشعور بالمكان والزمان الحضاريين يختلف عن المكان والزمان العلميين في الفيزياء والفلك. فهذان مفهومان عقليان لا يوجدان إلا عند العلماء وحتى عندهم فوجودهما لايكون إلا بافتراض صحة النظرية ومطابقتها للمعلوم من الكون. فالبشرية عاشت آلاف السنين وهي تتصور العالم مقصورا على طريق التبانة والفلك البطليموسي. وكان الفلاسفة يتصورون كلام القرآن على الأزمنة المختلفة (يوم مقداره خمسون ألف سنة مما تعدون مثلا) وتعدد العوالم سماوات وأراضي خرافات واساطير الأولين بل كانوا يتصورون العالم محدودا وما وراءه خلاء أو بصورة أدق لا شيء : ولعل كلام الغزالي في هذه المسألة من أهم حدوسه العبقرية في تهافت الفلاسفة.
وعلى كل فالجماعات البشرية لم تصبح مستمدة استراتيجياتها من الفيزياء والفلك إلا بعد السيطرة على محدودية إدراكهما أولا من حيث لامتناهي الكبر ولا متناهي الصغر وعلى محدودية القدرة على الفعل في هذين البعدين من المكان والزمان.
ومن ثم فالشعور الجمعي بالمكان والزمان وحدودهما من مقومات الاستراتيجيا. وذلك هو عينه ما يضيفه الانتقال من مستواهما الطبيعي إلى مستواهما الحضاري سواء كان ذلك بالخرافة (الكسموجونيات) أو بالعلم (الفلكيات) وسواء كان ذلك واقعا فعليا (العلم) أو خياليا (العلم الخيالي والأدب).
وهذه النقلة في الحالتين -العلمية والخيالية- هي ما يستمده الوجود الفعلي من الوجود الرمزي الذي هو عين الحضاري سواء كان متعينا في الأشياء أو في الرموز التي تسميها وتصفها وتعبر عنها : وقد جمع القرآن الكريم ذلك كله بتعليم الله آدم الأسماء كلها حجة كافية على أهليته بالاستخلاف.
وهذا هو ما تتعلق به الاستراتيجيا الخاصة بالزمان. فما دور فاعليات الرمز المتعلقة بالزمان أولا وبالمكان بالتبعية؟ ولم هي خمس حتما؟ ذلك ما ينتج عن الوظيفة التي سميناها وظيفة الوصل بين القطع التي لا يستطيع الإدراك الحي تجاوزها سواء كان بالعيش المباشر والملامسة أو بمبلغ الإدراك الحسي رؤية وسمعا (المكان) وتذكرا وتوقعا (الزمان).

الاستراتيجيا الخاصة بحماية الزمان ورعايته

ويمكن أن نصطلح على هذه الوظيفة الاستراتيجية التي تبدو في مستواها الأول وكأنها عملية خياطة تصل اللحظات الزمانية والمساحات المكانية لتوحدها بأداة الوصل بين القطع المكانية والزمانية فتمكن الإنسان من التواصل رغم المسافة المكانية والمسافة الزمانية أي رغم التبعاد المكاني والزماني بين البشر.
وهذا التواصل هو الذي ينقسم إلى خمسة أصناف :

  • تواصل عملي بين الناس : تقاسم العمل يقتضي أن يدور حوله تواصل في تنظيم إنجازه وفي تبادل ثمراته.
  • وتواصل ذوقي بين الناس : تبادل الثمرات ليس كله لسد الحاجات العضوية بل فيه ما يتعلق بحاجات ذوقية.
  • وتواصل التحصيل العلمي بين الناس وبينهم وبين موضوعات المعرفة : ولا يمكن تصور التبادلين السابقين من دون حصول خبرة وتجربة تتعلق بهما ويتم تحصيلها بالتراكم.
  • وتواصل التحصيل العملي بين الناس وبينهم وبين موضوعات العمل: كما لا يمكن تحقيق التراكم في الأعيان من دون أن يحصل تراكم في الأذهان بحيث تكون الخبرة والمعرفة متعينة في القائمين بها.
  • والتواصل الجامع والمحقق لوحدة هذه الأصناف من التواصل هو تواصل التحقق الوجودي للإنسان فردا وجماعة بما هو ذو دور في تلك التواصلات من حيث هي سعي للتحرر من الحتميتن المكانية والزمانية الطبيعيين بتحويلهما إلى مكان وزمان حضاريين لإرادة الإنسان وقدرته فيهما دور.

وتنقسم التواصلات إلى جنسين كل منهما يتألف من نوعين من أصناف التحرر الإنساني من المكان والزمان الأصناف التي سيلي ذكرها بالترتيب:

  • التواصل الروحي ونوعاه : 2 و4
  • والتواصل المادي ونوعاه : 1 و3.

أصناف التحرر الإنساني من المكان والزمان

  1. التحرر من الضرورة المكانية والزمانية بإثباتها وذلك هو العقل الإنساني المحاكي لما يفترضه من نظام مضطر طبيعي وتاريخي: العلم
  2. التحرر من الضرورة المكانية والزمانية بنفيها أو العقل المبدع بافتراض نظام حر للطبيعة والتاريخ: الإيمان.
  3. التحرر من الضرورة المكانية والزمانية بإبداع عالم جنيس للأول للطبيعة والتاريخ المضطرين: التكنولوجيا ومنها الفنون العميلة (أي التي هي أدوات في العمل)
  4. التحرر من الضرورة المكانية والزمانية بإبداع عالم جنيس للثاني للطبيعة والتاريخ الحرين : الأكسيولوجيا ومنها الفنون الجميلة (أي التي تعبر عن الذوق)
  5. التحرر المطلق غاية والمقيد أداة هو ما تحقق بمنظور يبني صورة الكون والإنسان على هذه الأصناف الأربعة التي يجعلها فروعا من صنف يلفه الغيب هو عالم القضاء والقدر الإلهيين. وتلك هي نظرة الدين الخاتم الذي يضع هذه المستويات كلها وهو أصل وحدتها والتمييز بينها. ولذلك فالرسالة التي يقدمها أي استراتيجية القرآن هي استعمار الإنسان في الأرض جمعا بين التبشير بثمرة تقديم الشرطين الروحيين (قيم الاستخلاف) والتحذير من ثمرة تقديم الشرطين الماديين (قيم الإخلاد إلى الأرض).

وكل أنواع التحرر هذه لا تكون إلا بفضل الإنتاج الرمزي الذي يتعين في المنتجات وفي الخبرات التي تصبح ملكات عند الإنسان. وهذا الإنتاج هو الثقافة واستعماله لإنتاج المنتوجات وتكوين الإنسان هو التربية.
استراتيجة الزمان هي إذن السياسة الثقافية أو سياسة الإنتاج الرمزي والسياسة التربوية أو سياسة تكون الإنسان بفضل الإنتاج الرمزي لجعله قادرا عليه.

الإنتاج الرمزي هو ما ذكرنا من عمليات التحرر

  • فما سميناه بالتواصل الروحي يتعلق بتكون الإنسان الذوقي والخلقي وأدواتهما وخبراتهما. وهذا هو مصدر الثروة والانتاج الاقتصادي
  • وما سميناه بالتواصل المادي يتعلق بتكوين الإنسان العلمي والتقني وأداتهما وخبراتهما. وهذا هو مصدر التراث والإنتاج الثقافي.

ومعنى ذلك إذن هو أن استراتيجية حماية الزمان والعناية به هي عينها السياسة الثقافية والتربوية التي تجعل الزمان ينتقل من المستوى الطبيعي إلى المستوى الحضاري دون أن يفقد المستوى الطبيعي لأن فقدانه يعني القضاء على عنفوان الحياة الإنسانية وهو من علامات الشيخوخة الحضارية.
وتحقيق عملية الوصل بين قطع المكان وقطع الزمان يكون بأدوات رمزية تتعين في الأذهان وفي الأعيان. وأولها المعالم التي تقسم الزمان وتنظمه بغير التقسيم والتنظيم الطبيعي (مثل الليل والنهار والفصول وأحوال العناصر وما قد ينتج عنها من أخطار).
والتقسيم الحضاري للزمان يتعلق بنظام العمل وبنظام الأعياد والعطل وبالمعالم التي تخلد الأحداث ذات الدلالة بالنسبة إلى الذاكرة الجماعية. ولعل أهم شيء هو نظام التاريخ وخاصة تحديد البداية لما تأخر عنها والنهاية لما تقدم عليها مثل الهجرة بالنسبة إلى المسلمين والميلاد بالنسبة إلى المسيحيين.

وكل ذلك من الاستراتيجيا التي تمكن من السيطرة على الزمان ونقله من فرض التوالي الطبيعي للموت والحياة إلى ما يتجاوز هذا التوالي.
فوحدة الزمان تتعالى على توالي الأجيال في تاريخ نفس الجماعة مثلما تتعالى وحدة المكان على المناطق في جغرافية نفس الجماعة. وإذا كان المكان والزمان الطبيعيان لا رجع فيهما فإن المكان والزمان التاريخيين الرجع فيهما ممكن لأن الأحداث والمواقع ليس لهما دلالة ثابتة بل دلالتهما تتغير بمقتضى التغير الحضاري والحديث الدائر حولهما المؤول للحدث والموقع.

استراتيجية حماية الزمان ورعايته (والمكان بالتبعية)

استراتيجيا الحماية والرعاية تتعلق بإجراءات في الأعيان وهي منتجات مثل العمارة والأعمال الفنية والمؤسسات الرسمية المتعلقة بالتراث كالمكتبات والموسوعات والمتعلقة بالأعياد ونظام العمل والعطل إلخ…
وتتعلق كذلك بإجراءات في الأذهان وتتعلق بأخطر أمر يغفله الكثير ويمكن بيانه من خلال افتراض أن حضارة ما بقيت كل آثارها وفقد البشر الذين يستطيعون فهمها وقراءتها كما حدث للتراث الفرعوني مثلا.
فلا بد من انتظار صدفة تاريخية ليصبح ذلك التراث قابلا للفهم, ولعل من أسرار الانحطا ط في حضارتنا ما حصل من إفناء للطبقة العالمة بسبب حروب المغول والصليب, إذن حماية العلماء والقادرين على موازاة ما يوجد في الوثائق بما يوجد في أذهانهم لأن التراث لها حيزا وجود : في الأذهان وفي الأعيان.
والأول يمكن من استعادة الثاني لكن الثاني لا يمكن رغم أنه ضروري لتحصل التراكم الذي لا يمكن أن يحويه الذهن وخاصة أن يجعله شاملا لكل التاريخ الإنساني المعلوم. لكن التراكم هو بدروه يمثل مشكلا إذا بلغ حدا معينا دون مراجعة وتجاوز اعني مشكل الجمود.
والمعلوم أن الحضارة العربية الإسلامية وضعت مبدأ بخصوص الدين -بالمعنى الذي يشمل استراتيجية استعمار الإنسان في الارض بقيم الاستخلاف اي كل أوجه الحياة التي تتعلق بالاستراتيجيا كما تجمعها وظائف الحماية والرعاية التي هي جوهر الدولة- مبدأ يقتضي المراجعة على رأس كل قرن وتعتبر تجديدا للدين بهذا المعنى.

فما الأخطار التي لا بد من أخذها بعين الاعتبار في وضع استراتيجية حماية الزمان ورعايته؟ والمطلوب الكلام في ما يضاف إلى استراتيجية حماية المكان ورعايته المشروطة في استراتيجية حماية الزمان ورعايته.
ومعنى ذلك أننا نتفرض هنا أن ما ورد في الفصل السابق حاضر في ذهن الاستراتيجي والقاريء.

استراتيجية الاستعداد لأخطار حيز الزمان الطبيعية

من الواضح أن هذه الأخطار تتهدد استمرار المقام في المكان والقيام به. ومعنى ذلك أننا نفترض أن المقام والقيام حاصلان في زمن السلم وأن الأمر يتعلق باستمرار حصولهما في زمن الحرب أو على الأقل القدر الضروري منهما لتحقيق شروط استمرار الوجود. وهذه الأخطار الطبيعة تنقسم إلى صنفين :

الصنف الأول

الكوارث الطبيعية العامة مثل الفيضانات والزلازل والتغيرات المناخية الكبرى التي لا يمكن للإنسان أن يسيطر عليها مهما تقدم حضاريا ومن ثم فالاستراتيجية تتعلق بعلاج آثارها أكثر مما تتعلق بعلاجها هي دون استثناء محاولة التقليل منها قدر المستطاع بفضل ما يتمكن منه الإنسان بالعلم وتطبيقاته.

الصنف الثاني

والكوارث المناخية التي يمكن اعتبارها لا تتجاوز قدرة الإنسان على علاجها رغم أنها يمكن أن تفسد الحرث والزرع فتحول دون شروط الحياة العضوية مثل شح الماء أو التصحر أو خاصة الأمراض والأوبئة التي تصيب السكان فتضعف الجماعة. والاستراتيجيا هنا يمكن أن تتجاوز علاج الآثار إلى علاج الأسباب نفسها بفضل تقدم الإنسان الحضاري.

فيكون الكلام على الاستراتيجيا هنا متعلقا بالغذاء والدواء بالنسبة إلى الصنف الثاني من الأخطار وبالإنقاذ والإسعاف بالنسبة إلى النوع الأول من الأخطار. وهذان النوعان من العلاج الاستراتيجي يكونان وقاية في زمن السلم وعلاجا في زمن الحرب.
وإذا لم تكن الدولة ذات سياسة تخطط (استراتيجيا) لهذه الحالات فهي عزلاء بحق وغالبا ما تكون الأمة في تلك الحالة تابعة لمن له هذه القدرات. وقد راينا ذلك كثيرا في كل النكبات التي حلت بالأمة وهي من هذين النوعين : الزلازل والتسونامي والمجاعاة والضمأ والأوبئة. وكل الخطط المتعلقة بهذه العناصر تنتسب إلى استراتيجية حماية الزمان ورعايته لأنها تتعلق بشروط استمرار الوجود العضوي والحضاري للجماعة.

استراتيجية الاستعداد لأخطار الزمان الحضارية

ما هي الأخطار التي لا بد من أخذها بعين الاعتبار في استراتيجية حماية الزمان ورعايته بمعنى استراتيجة تحقيق شروط استمرار الجماعة العضوي والحضاري والتي تنتج عن الزمان الحضاري أي عن تراكم ما أضافه الإنسان إلى الطبيعة؟ هنا أيضا نجد صنفين من الأخطار مناظرين للصنفين الأولين في الزمان الطبيعي.

الصنف الأول

فالصنف الأول شبيه بما في الطبيعة مما لا يقدر عليه سلطان العلم الإنساني وتطبيقاته قدرة حائلة دون حدوثه لكنه يستطيع الحد منه. وهنا الأمر لا يتعلق بسلطان العلم من حيث هو معالج للأخطار الطبيعية بل بسلطانه من حيث هو سبب الأخطار الحضارية. ويتعلق الأمر بالتجريب العلمي وبثمرات تطبيقاته التكنولوجية أي بالتلوث والأسلحة الفتاكة.
ومثلما أن الدور في علاج الصنف الأول من الأخطار الطبيعية يعود إلى العلم رغم أنه لا يقدر بحق إلا على علاج آثارها والحد من حدوثها دون القدرة على منعها فإن الدور الآن يعود إلى الأخلاق التي لا تستطيع منع حدوث الصنف الأول من الخطر الصادر عن الحضارة لكنها تستطيع الحد منها وعلاج آثارها.

الصنف الثاني

الصنف الثاني شبيه بما في الطبيعة مما يقدر عليه العلم. ففي الحضارة من الأخطار ما تترتب خاصة على الترف الذي يولد حاجات وعادات ضارة باستمرار الحياة السوية وتتعلق خاصة بالغذائين المادي والروحي :

  • فالغذاء المادي إذا ترك دون قيم تحول دونه والإضرار بالصحة يمكن أن يهدد شروط استمرار البقاء : مثال السمنة في المجتمعات المترفهة بسبب نمط الغذاء الناتج عن نظام العمل والأكل في مطاع الأكل السريع.
  • والغذاء الروحي إذا ترك من دون قيم تحول دونه والإضرار بالسلامة العقلية والروحية للإنسان مثل ثقافة العنف والمخدرات والتسيب الجنسي الذي يؤدي إلى تفشي الأمراض وفقدان القدرة على رعاية الأجيال المتوالية ما يؤدي إلى الشيخوخة العضوية للجماعة.

وهذا الصنف علاجه الاستراتيجي علمي وخلقي بالأساس وهو في الحقيقة راجع إلى مقومات المرجعية الروحية للجماعة.
فإذا كانت المرجعية تعتمد على استعمار الإنسان في الأرض بقيم الإخلاد إليها كانت الاستراتيجية شبه مستحيلة وهي تؤدي حتما إلى التدمير الذاتي.
أما إذا اعتمدت على استعمار الإنسان في الأرض بقيم الاستخلاف فيها أي بعدم حصر الوجود الإنساني في حيزي المكان والزمان وعدم الخضوع لثمرتيهما اللتين ينبغي ألا تتجاوزا دور الأدوات حتى يكون الإنسان سيدا عليهم لا مسودا منهما فإن الجماعة والبشرية (لأن المكان والزمان والثمرتين متجاوزة كلها للحدود السياسية والحضارية وشاملة للإنسانية كلها) يمكن أن تحقق شروط استمرار البقاء السوي والسليم.



يرجى تثبيت الخطوط
أندلس Andalus و أحد SC_OUHOUD
ونوال MO_Nawel ودبي SC_DUBAI
واليرموك SC_ALYERMOOK وشرجح SC_SHARJAH
وصقال مجلة Sakkal Majalla وعربي تقليدي Traditional Arabic بالإمكان التوجه إلى موقع تحميل الخطوط العربية
http://www.arfonts.net/


نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي