نظرية الأحياز الخمسة ف 01 ق 03 ج 05 – أصل الإستراتيجيا – فلسفة الإسلام السياسية – الجزء الخامس



لتحميل المقال أو قراءته في ص-و-م pdf إضغط على العنوان أو الرابط أسفل النص



الصراعات في صورة العمران

شعارات الانظمة السياسية الحديثة ومدائحها

تكلمنا على شعارات الانظمة السياسية الحديثة ومدائحها وبينا أنها لا تطابق حقيقة السياسي بما هو سياسي وظيفته أن يعالج الصراعات التي لا يخلو منها عمران.
فالسياسي هو عين ما لأجله تحتاج الجماعات إلى الدولة ووظيفتي الحماية والرعاية. ولعل أفضل من يدرك ذلك هو من يعرف الفرق بين:

  • الاعتراف المميز بين الآليات الفعلية في الحكم من حيث هو حكم اعترافا هدفه فهمها ومحاولة علاج مفعولها الذي لا يبقى خفيا بفضل هذا الاعتراف
  • ونكران هذا التمييز بتبريرات وشعارات تخفي الآليات الحقيقية للحكم فتحول دون علاج مفعولها الخطير على الحماية والرعاية في آن.

مزية النظام الإسلامي كما يحدده القرآن.

وإذن فالنقد لهذا النكران في الأنظمة الحديثة ليس الهدف منه المحافظة على الآليات التي يكشفها النقد ويشخصها كما هي بل القصد هو معرفة عملها والبحث عن علاج ناجع لأدوائها. وتلك هي مزية النظام الإسلامي كما يحدده القرآن.
وأول أمر ييسر هذا الاعتراف هو البدء بالاعتراف بخصائص الإنسان التي تجعل الصراعات التي صنفناها بمعيار دور الأحياز من مقومات وجوده الفردي والجمعي.

اعتراف الإسلام بمقومات الإنسان

فاعتراف الإسلام بمقومات الإنسان وأهمها الحقوق الأساسية الخمسة التي تسمى مقاصد الشريعة أي حق الملكية (مقصد المال) وحق الحرية الفكرية (مقصد العقل) وحق الكرامة الإنسانية (مقصد العرض) وحق الحرية العقدية (مقصد الدين) وحق الحياة (مقصد النفس) وتحرير الجنس واللذة من اعتبارهما مدنسين وجعل الزواج تعاقديا وليس كاثوليكيا كل ذلك يمثل بداية تأسيس السياسة على المقومات الفعلية للوجود الإنساني المعترف بها شرطا في علاجها الخلقي والروحي دون كبتها كبتا هو علة جل الأمراض الحضارية الفردية والجماعية.

الآليات الظاهرة و الآليات الخفية

لكن ذلك كله حتى لو فرضناه قد تم على أحسن الوجوه فإنه لا يعني التسليم بعدم بقاء آليات أخرى خفية وراء الآليات الظاهرة وهي التي تجعل السياسي ينقلب من تسيير ذاتي للأحرار إلى تدجين مافيوزي يقوم به سلطان خفي يستعبد الجميع :

نظرية أهل الحل والعقد

فنظرية أهل الحل والعقد (أي النخب القائدة والممثلة للأحياز الخمسة في الحضارة العربية الإسلامية) تقلل دون شك من الآليات الخفية لكنها لا تلغيها.
ومثلها الجمع بين نظامين للانتخاب في الولايات المتحدة (الانتخاب العام وانتخاب الناخبين الكبار).
لكن الآليتين لا تلغيان الآليات الخفية وراء هذين النوعين من العلاج.

نظرية معتبري الزمان

ونفس الشيء يمكن قوله في نظرية معتبري الزمان بلغة الغزالي (انظر نظرية الدولة عند الغزالي). فالرسميون الممثلون لأهل الحل والعقد عندنا والناخبون الكبار في الولايات المتحدة ليسوا بالضرورة هم أصحاب السلطان الفعلي. فقد يوجد وراءهم من هم أكثر قدرة على الحل والعقد الفعليين لأنهم هم الذين يعينون أهل الحل والعقد الرسميين ويحركونهم من وراء حجاب,
أغلب الزعماء السياسين في الظاهر ليسوا إلا دمى في الخفاء وخاصة في الغرب الحالي :وتلك هي علة قوة إسرائيل فيه.
ونفس اللعبة تقوم بها هي وإيران بتوسط مافياتهما الخفية وأحيانا العلنية في جل الأقطار العربية.

الحلول العلنية و إلغاء الخفي في السياسي

ففي هذه الحلول العلنية على أهميتها لا يكون الفكر السياسي قد نجح فألغى الخفي فيه بل هو لم يصل إلى الآلية المحددة فعليا والتي تبقى دائما خفية وهي ما نريد معرفته أو بصورة أدق تعريف الشباب به لأننا درسناه وعمقنا محاولات تفسيره بفضل نظرية الأحياز.

الآلية الخفية و نظرية الأحياز

وهذه الآلية الخفية هي التي تحسم الصراعات الخمسة التي بينا أنها تنتج عن آليات لا تفهم من دون نظرية الأحياز التي مكنت من إبراز فضائل المحاولة الخلدونية باكتشاف أعماق فيها لعله لم يكن داريا بها لكنها منقوشة في جل حدوسه العبقرية:

تحضير المكان وتحضير الزمان

1-تحضير المكان 2-وتحضير الزمان الطبيعيين لجعلهما جغرافيا وتاريخ حضاريين لهما قيمة متجاوزة لمجرد الحيز المقامي (ما نعيش فيه) إلى الحيز القيامي (ما نعيش به).

تثبيت الطبقية وتثبيت المنزلية

3-وتثبيت الطبقية 4-وتثبيت المنزلية لجعلهما أشبه بالحقائق الطبيعية التي يقتضي الإبقاء عليهما وإدامتهما بالسيطرة على السلطة السياسية واستراتيجية المكان والزمان والثروة المادية والثروة الروحية.

تحريف المرجعية

وكل ذلك يتحول إلى 5-مرجعية تعبر عنها أو إلى تحريف المرجعية التي تحرر منها فيجعلها تصبح شبه تبرير فلسفي وديني للأسباب الأربعة التي تنتج الصراع وتؤدي إلى الاحتراب الأهلي.

أهم نقد قرآني لتحريف الأديان الأربعة

وهذا هو أهم نقد قرآني لتحريف الأديان الأربعة التي ناقشها :

  • إثنان منزلان هما اليهودية والمسيحية
  • واثنان طبيعيان هما الصابئية والمجوسية
  • وكلها صارت جاهلية بالمعنى الروحي للكلمة.

مطاريد أفلاطون

والخطأ كل الخطأ يكون بالوقوع في ما أطلقنا عليه اسم مطاريد أفلاطون أي وهم إلغاء أسباب التنافس بين البشر بدل الاعتراف بها وإيجاد حلول تجعلها في آن جوهر الحياة الجماعية بشرط أن تكون خاضعة لحكم وتربية يحولان دون ما يترتب عليها من صراعات والذهاب إلى الاقتتال (لذلك فلا يمكن تصور دين من دون دولة هي الحكم والتربية بالمفهوم القرآني) : وهذا هو العامل الجوهري في السياسة القرآنية التي لا تنكر حقائق النفس البشرية بل هي تعمل على علم بمقوماتها وبشروط علاجها.

علاج الصراعات في صورة العمران

الجهاز الحافظ للسلم

ومعنى ذلك أن الدولة بفرعيها حكما وتربية هي الجهاز الذي يحفظ السلم ويحول دون الحرب الأهلية ليس بالقوة العنيفة وحدها بل بالقوة اللطيفة التي هي القيم الخلقية والمؤسسات القانونية اللتين يسمى مجموعهما شريعة (وضعية كانت أو منزلة إذ حتى المنزلة فالقبول بها معبر عن إرادة الجماعة وهي بذلك مشرعة لذاتها بما اختارته من تشريع ومن ثم فحتى الشريعة المنزلة هي بهذا المعنى وضعية).
وهذا العلاج هو الغاية الأولى والأخيرة للأخلاق العقلية والدينية التي تحرر الإنسان من الإخلاد إلى الأرض ومن نفي قيم التحرر منه ليثبت التعالي على المتناهي والفاني.
والإخلاد إلى الأرض يجري في مستوى صورة العمران ببعديها (الدولة بما هي حكم وتربية) وفي مستوى مادة العمران ببعديها (المجتمع بما هو انتاج اقتصادي وانتاج ثقافي).
والعلاج بنيوي وظرفي إن صح التعبير :

الشكل البنيوي لعلاج الصراعات :

فهو علاج بينوي بالشكل المؤسسي نصا (القوانين) وإدارة (المؤسسات العينية) لنظام الأنشطة التي تتألف منها الصورة والمادة. وذلك هو الهيكل البنيوي للجماعة هيكل صورتها (الحكم والتربية) وهيكل مضمونها (الاقتصاد والثقافة) وهيكل الهياكل أو المرجعية الروحية والخلقية للجماعة والتي تحدد المعروف والمنكر عند الجماعة.

الشكل الظرفي لعلاج الصراعات :

وهو علاج ظرفي بصفات من يعين ليكون قيما على انشطة الصورة والمادة بمقتضى الهيكل البنيوي للجماعة صورتها ومادتها ومرجعيتها. فالبنى ثابتة أو هي إن صح التعبير تخضع لمنطق التاريخ المديد بخلاف من تعينهم الجماعة لملء الخانات التي تتألف منها البنية للقيام بالمهمة. فهذه تخضع للتاريخ القصير بمنطق توالي الاجيال.

الشكل الجامع بين البنوي والظرفي :

هيكل التعيين والتعيير

ويوجد قبل ذلك وبعده وخلاله هيكل التعيين والتعيير أو نظام اختيار الجماعة لممثلي إرادتها حتى يملؤوا وظائف القوامة على أنشطة الصورة والمادة بمقتضى الهيكل البنيوي وشروط مراقبتهم وتغييرهم.
وهذا الهيكل هو الوجه الأساسي من المرجعية التي تحدد أخلاق الجماعة ومعتقداتها وتصورها لذاتها ولآليات تمثيل إرادتها وكيفية تعيينها وتجديدها ومراقبتها.
ونحن ما نزال معجبين بعصر الراشدين لأننا نرى فيه كيف أن المؤمنين كانوا أحرارا بتعيين ممثلي إرادتهم ومحاسبتهم وكيف كان من يعين لا يعتبر نفسه سيد الجماعة بل خادمها ويطالبها بمراقبته ومحاسبته.
وهذا يكذب من يدعي أن مرحلة الصدر في تاريخنا مرحلة مبنية على صوغ خرافي ومثالي بعد لا يطابق الحقيقة. ولكن ذلك حتى لو صح لا يغير من دلالة مرحلة الصدر. فصحيح أن الحديث عن الماضي أي ماض لا يخلو من التجميل المؤسطر. لكن هذا التجميل نفسه يعني أن الشعب الذي يقوم به يعتبر تلك القيم الذي يضيفها بخياله والأسطرة للماضي هي مثاله الأعلى ومن ثم فهي كافية لبيان ما في المرجعية من قيم تحرك التاريخ : فالماضي لا يحرك بحدثه فحسب بل هو يحرك كذلك بحديثه عن حدثه. وهذا هو البعد الرمزي المحرك لما في الأذهان والمؤول لما في الأعيان والمحرر من تناهي المكان والزمان والحدثان.

هيكل المراقبة والتغيير للتعيين

والهيكل الأخير الذي هو الترجمة المتدرجة خلال التاريخ والتطور للهيكلي والظرفي ولقواعد تعيين الظرفي ومراقبته وتغييره. وذلك هو هيكل الهياكل أو دينامية التغيير التاريخي في الحضارة والذي له عنوان في الإسلام يتعلق بفهم المرجعية ذاتها يسمى التجديد على رأس كل قرن.
فتجديد فهم المرجعية وتطويرها هو منطلق التجديد في ما تقدم عليها من عناصر هي فروعها وأعيانها بحسب تعضي الصورة والمادة الجماعيتين. وهذا يمكن أن يقع سلما بالتجديد الاجتهادي أو حربا بالتغيير الجهادي. لكن الأول هو الغالب والثاني يحدث لماما وخاصة عندما تجمد المؤسسات والمرجعية فلا تتغير إلا بشيء من الحمى الاجتماعية التي تنتج عن ضيق بالصورة والمادة وما ترتب عليهما بنيويا وظرفيا من مثبطات لآليات تلطيف الصراعات الخمسة التي لا يخلو منها العمران.

مراحل التعضي وتحدد الوظائف

لكن كيف تصل الجماعة إلى هذه الهيكلة التي يتم فيها التمييز بين الصورة والمادة بمنطق تقسيم العمل الاجتماعي المحقق للحاجات (أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) وشروطها (إبداع الأدوات والمناهج والأنظمة لإدارة الرعاية التكوين والتموين والحماية الداخلية والخارجية).
تلك هي الأسس التي ينبني عليها التصور السليم للسياسة من حيث هي استراتيجية تحقيق اهم أعضاء الوظائف الثابتة والمتعلقة برعاية الجماعة وحمايتها.

مرحلة البداية

لا بد من افتراض جماعة من الكائنات الحية البشرية حاجاتها تحددها خاصياتها العضوية والنفسية والعلاقتان المتعامدتان الضامنتان لسد هذه الحاجات :

العلاقة الأفقية بين البشر

فعضويا ونفسيا لا بد من علاقة أفقية بين البشر للتوالد وتجديد الأجيال ولا بد من تواصل خلال هذه العلاقة. وتقاسم للعمل بين أطراف هذه العملية ليس اختياريا لأن مبدأ الزوجية يجعله بالضرورة مؤلفا من المرأة والرجل. وفيه يبدو دور المرأة هو الأساس ليس عضويا لأن الإنجاب يحتاج إليهما كليهما بالتساوي. لكن العناية بالعملية نفسها -عملية تجديد الأجيال- من حيث ما يخصص لها من الزمان والجهد السهم الأكبر فيها للمرأة.
ولذلك ففي سد الحاجة العضوية للجماعة دور المرأة هو الأساس. ولنقل إن ذلك هو جوهر العناية وهو دائما للمرأة مهما تقدمت الجماعة ويتبين خاصة في زمن الحروب عندما يكون دور الرجل في الحماية ودور المرأة في الرعاية كما يبتين من الحرب العالمية الذي وسع مفهوم الرعاية ليشمل كل الوظائف ولم يقتصر على الأفقي من العلاقة فصارت كل الأعمال التي تحتاجها الجماعة على عاتق المرأة لأن الرجال تفرغوا للقتال.

العلاقة العمودية بين البشر

وعضويا ونفسيا لا بد من علاقة عمودية بين البشر والمحيط لتوفير المعايش ولا بد من تواصل خلال هذه العلاقة لتبادل المعلومات الخاصة بالعمل و بقيادته.
وهنا لا يكون التقسيم ناتجا عن شرط عضوي غير اختياري رغم خضوعه في البداية للتقسيم السابق.
ذلك أن العلاقة بالطبيعة تنقسم إلى مجالين :

  • المؤمن داخل الجماعة الواحدة
  • وغير المؤمن بين الجماعات.

ومثاله في الصراع بين القبائل العربية فإن حماية الرزق-يعود إلى حماية الأرض وما يستمد منها ماء وكلأ وأنعام وثمرات وحماية العرض-وهما علتا الصراع بين القبائل بسبب سد الحاجات المعتمد على منتج الطبيعة بالأساس وليس على الانتاج الإنساني.
لكن القاعدة العامة تبقى الرعاية للمرأة والحماية للرجل ولا يكون دور الرجل إلا دور الفحل للإنجاب والجندي للقتل أما العناية بالتكوين والتموين فهو شبه الحكر على المرأة.

المرحلة الأولى من حياة الجماعة

ويمكن القول إن المرحلة الأولى من حياة الجماعة قبل الاستقرار والاعتماد على الإنتاج الإنساني بدل الانتاج الطبيعي (ورمز هذه النقلة هي الطوفان وسفينة نوح : إعادة بناء الحضارة صناعيا لأن أخذ زوجين اثنين من كل شيء يعني الاستئناف الصناعي للحياة الجماعية ) يمكن القول إن الصورة العمران لم تنفصل بعد عن مادته بل إن مادته هي المحدد الأول للصورة أي السلطة المنظمة للعلاقتين المتعامدتين ويكون سلطان الحماية بيد الرجال وسلطان الرعاية بيد النساء ويكون للجماعة سلطتان حكيمتان :

  • مجلس الرجال للحرب والفروسية والفحولة في الإنجاب وتكثير النسل للحاجة إلى الجند وحماية الأرض والعرض.
  • ومجلس النساء للعناية بالتكوين والتموين وكذلك لتنظيم الحياة الجماعية في ما يتعلق بتبادل النساء وتصليب السلالة.

وهذا الشكل ما يزال إلى الآن موجودا في المجتمعات القبلية بصورة دائمة وفي المجتمعات الحضرية والأكثر تحضرا في الظروف القاهرة للحروب كما أسلفنا في كلامنا على الحرب العالمية الأولى والثانية حيث باتت جل الوظائف التي تحتاج إليها الجماعة بيد النساء وتفرغ الرجال للقتال. وحتى عندما يقع تجنيد النساء في وظائف الحماية فإن دورهن يبقى متعلقا بالرعاية وليس بالحماية لأنهن يعنين بالإدارة والعناية الطبية والمعاشية والتواصلية للجيوش وليس بالقتال إلا عند الضرورة تجبنا لبقائهن عالة وحتى تستطعن حماية أنفسهن.

تنسيب القسمة بحسب الجنس

لكن لا بد من تنسيب هذه القسمة بحسب الجنس لأن مفهوم الجنس كما سبق أن بينا باطنه النفسي غير ظاهر البدني وكما نزيد هنا بيانا وتعليلا لظهور دور الجنس وغيابه في تقسيم العمل.
ذلك أن الذكورة والأنوثة غير ظاهر الرجل والمرأة. فكلا الجنسين يمكن أن يكون ذكرا أو أنثى بغلبة الذكورة عليه أو الأنوثة ويمكن أن يتساويا فيه :

  • فالمرأة يمكن أن تكون أنثى تامة أو أنثى غالبة مع بعض الذكورة أو ذكورة غالبة أو متساوية بين الذكورة والأنوثة. لكن عدديا غالبية النساء تغلب عليهن الأنوثة.
  • والرجل يمكن أن يكون ذكرا تاما أو ذكرا تغلب عليه الذكورة مع بعض الأنوثة أو أنوثة غالبة أو متساوية بين الذكورة والأنوثة. لكن عدديا كذلك الرجال تغلب عليهم الذكورة.

وهذه الفروق بارزة بوضوح إلا في الحياة الفعلية لكنها مسكوت عنها في الحياة العادية. ولا تكون موضوع كلام إلا في حالتين : في الحروب عندما يميز بين الجنسين الشجاعة والصمود أمام الخوف فتكون بعض النساء أشجع من بعض الرجال أو في الحكم عندما يميز بين الجنسين الحكمة والقدرة على ادارة الشأن العام.
لكن الظاهرتين لم تكونا بارزتين بحق لأنهما كانتا شاذتين لعلتين :

  • أولا لأن الحرب كانت صداما مباشرا بين الناس وليست كما هي الآن صداما غير مباشر بينهم بتوسط الآلات التي تجعل القتال يقع دون تماس بين المتقاتلين.
  • وثانيا لأن السياسة كانت ذات صلة مباشرة بالحرب بحيث إن مباشرتها تجعلها خاضعة لنفس العلاقة في الحرب.

ولما كان الصدام المباشر في الحرب وفي السياسة هو الغالب قبل التقدم العلمي والتقني وتحول الحرب والسياسة إلى عملين غير مباشرين فإن الرجل والمرأة يمكن أن يتساويا فيهما كليهما بحسب المعيار المتعلق بالجنس النفسي وليس بالجنس البدني.
ولا يمكن فهم ما ينسب إلى الرسول حول تولية المرأة إلا بهذا المعنى. فهو حينها يقصد المرأة التي تمثل الأنوثة أو التي تغلب عليها الأنوثة وليس كل امرأة بدليل تمجيد القرآن لملكة سبأ ودور خديجة وعائشة في حياة الرسول وهو دور روحي وسياسي في آن.

مرحلة الغاية

إكتمال التعضي و التمايز بين وظائف صورة العمران و شكله

أما مرحلة الغاية فهي التي يكون التعضي فيها قد اكتمل وأصبحت وظائف الصورة متميزة تماما عن وظائف المادة. حينها لا يبقى التعضي مبنيا على الفرق الجنسي بل على الأهلية المكتسبة بعد أن أصبح كل العمل أساسه ليس الفرد بل الفرق الجماعية بسبب التقسيم الدقيق للمهام فيه. وهذه المرحلة الغائية هي التي عليها الحال في الدولة الشمولية التي تمثل دكتاتورية الحكم السياسي في المجتمعات الأكثر تمدنا ومن ثم فهي الأقل حرية بخلاف ما يتوهم الناس : فالدولة الحديثة دكتاتورية بالجوهر لأنها جهاز صناعي -كل شيء فيه غير مباشر ولا يكاد يكون فيه للإنساني دور حقيقي- إذ هو يجعل الجماعة منظومة آلية من الخدمات والوظائف والكل فيها يمثل قطعة من جهاز مثل أي قطعة غيار لا علاقة لخصائصه العضوية والنفسية بها بل المهم هو أداء الدور في الآلة الكلية بما اكتسب من كفاءة في أداء ذلك الدور.
لم يعد للفرق الجنسي مثلا أدنى معنى في التخصص الوظيفي لأن العامل الممميز لم يعد الكيان البدني بل الكيان النفسي والفكري. ولا يعود المجتمع إلى التمييز بالكيان البدني إلا في حالات الحروب التي يعود فيها المشكل الأساسي لحياة الجماعة أعني الجوع والخوف بوصفهما العلتين الحقيقيتين للحاجة إلى وجود الجماعة أولا ولشروط العلاقتين المتعامدين واعتمادهما على الخصائص العضوية والنفسية للإنسان فيكون من جديد شبه عودة لتقسيم العمل الأول ويصبح دور الحماية أغلبه للرجال ودور الرعاية أغلبه للنساء.

منطق التعضي بالنسبة إلى صورة العمران

المقصود بالتعضي تخلق الأعضاء التي تؤدي الوظائف وتمايزها بالتخصص. كل عضو يؤدي وظيفة معينة حتى يتحقق الانتظام شبه الآلي للجهاز المصور للجماعة :

  • فأول ما ينفصل من الصورة الحكم لعلاقته المباشرة بالحماية وقياداتها .
  • وتبقى التربية في ما عدى ما له صلة بالحماية للنساء لعلاقتها بالرعاية.
  • ثم تصبح التربية تابعة للحكم بعد أن يغلب عليها دور التعليم الصناعي

وبذلك تكون الصورة قد انفصلت تماما عن الجماعة لتصبح تخصصين يمثلان الدولة بوصفها بنية فوقية تؤدي دور التصوير في الجماعة التي هي الكيان الحقيقي لكل ما يحصل في الصورةو المادة في آن.
والصورة في كل المجتمعات بدائيها ومتقدمها خاضعة لهذين العاملين عامل الحكم والتربية أعني الفعل بقوة القانون بمعناه السياسي (الحكم) والفعل بقوة القاعدة بمعناها الخلقي (التربية).
لكن التربية تصبح أداة التكوين ليس الخلقي فحسب بل التكوين لكل الوظائف التي تحتاج إليها الجماعة صورة ومادة. فتكون التربية بهذا المعنى تكوينا

  • للإنسان بدنه ونفسه من أجل تحقيق شروط الإنسان (الحيوان الناطق)
  • والمواطن (المنتسب إلى تراث معين)
  • وصاحب التخصص في الجهاز الاقتصادي(المشارك في العمل المنتج) او الثقافي(المشارك في الفكر المنتج)
  • والمشارك في تجديد حياة الجماعة بالإبداع المادي والرمزي (الذي يضيف إلى الحضارة إبداع ما مهما كان ضئيلا حتى تتجدد بتجدد الأجيال)

منطق التعضي بالنسبة إلى مادة العمران

لكن المادة يكون منطق تعضيها عكس منطق تعضي الصورة :
فأول ما ينفصل من المادة هو الإنتاج الرمزي لحاجة الحكم إلى تبرير ذاته بقوى متجاوزة لمحدودية القوة المادية : لا يوجد حكم يتقصر على القوة المادية بل لا بد لها من تبرير يمدها بالشرعية. ويمكن أن نرمز إلى ذلك بالتلازم بين فرعون وهامان. ويبقى البعد المادي بيد النساء من حيث التكوين والتموين في الحدود الداخلية. لكن ما يتعلق منهما بما له صلة بالحدود الخارجية يبقى بيد الرجال بنسب متفاوتة يقتضيها التقدم في جعل الحماية تعتمد على اللامباشرة بفضل تقدم أجهزة الحماية في القتال عن بعد.
لذلك فالتقدم في الإنتاج المادي للحماية ثم في الإنتاج الرمزي المتعلق بإنتاج أدوات القتال ينفصل عن الجماعة ولا يبقى تابعا للفصل بين الجنسين بل يشملهما كليهما بسبب اللامباشرة في القتال بأدوات تقنية تغني عن النزال المباشر بين المتقاتلين.

تمايز أعضاء الوظائف في صورة العمران و مادته

وبذلك تكون الوظائف كلها صارت ذات أعضاء متمايزة في الصورة (الحكم والتربية) وفي المادة (الاقتصاد والثقافة) وفوق الكل وأصلا لها جميعا في المرجعية التي تمثل التعبير عن هوية الجماعة المادية والروحية أو العلاقة بالمكان والزمان الخاصين بالجماعة وما لتصور الجماعة لنفسها بهما من علاقة.

غاية التشكل المؤسسي

ترجمته إلى جسد مصور للعلاقتين المتعامدتين

غاية التشكل المؤسسي وترجمته إلى جسد مصور للعلاقتين المتعامدتين

  1. علاقة البشر بالمحيط الحضاري في الداخل والخارج
  2. علاقة البشر بالمحيط الطبيعي في الداخل والخارج

الداخل و الخارج

لكل جماعة داخل وخارج. وذلك لأن التحيز في المكان يعني عدم حوزه كله : لا وجود لدولة شاملة للمعمورة كلها. ومن ثم فما تحوزه أي جماعة منها له داخل وخارج أي علاقة الأفراد في الجماعة وعلاقة الجماعة بالجماعات الأخرى. ثم علاقة الأفراد والجماعة والجماعات بالمحيط الطبيعي في ذاته ثم في شكله الذي صار عليه بسبب ما نتج عن المحيط التاريخي والحضاري أي كل ما أضافه الإنسان إلى الطبيعة من منجزات نقلت المكان من الجغرافيا الطبيعية إلى الجغرافيا الحضارية ونقلت الزمان من التاريخ الطبيعي إلى التاريخ الحضاري..
وهذان العلاقتان متعامدتان لأن الأولى هي علاقة بين الناس والثانية هي علاقة بينهم وبين الطبيعة التي هي مصدر المعايش. ومن ثم يأتي أحد أهم دواعي الصراع على ما فيها من ثروات.

نظرية السياسة من حيث هي استراتيجة الحماية والرعاية

فكيف تتجلى الصورة فتبرز على أرضية المادة أي كيف تتكون السلطتان السياسية والتربوية لإدارة الإنتاجين المادي والرمزي ولإدارة ذاتهما فتكون الجماعة كيانا حقيقيا له صورة أو روح هي الحكم والتربية وله مادة أو جسد هي الاقتصاد والثقافة.
تلك هي نظرية السياسة من حيث هي استراتيجة الحماية والرعاية في كل جماعة. وذلك هو مضمون نظرية الدولة الإسلامية أو نظرية الشريعة من حيث هي تحقيق لشروط استعمار الإنسان في الأرض بقيم الاستخلاف التي تحرر من قيم الإخلاد إلى الأرض.

مستويات التعضي أو مفهوم الدولة

ولهذه الترجمة المحققة لتعضي الجماعة التام خمسة مستويات هي التي تجعل الجماعة أمة ذات صورة ومادة جماعة متحيزة في مكان معين تستمد منه قوتها المادية وزمان معين تستمد منه قوتها الرمزية ومرجعية جامعة توحد بين المكان والزمان والقوتين المادية والرمزية فتكون أمة لها داخل وخارج أي إنها بتحيزها تحدد داخلها وتحدد علاقاته بخارجه أي بما يحيط به من جماعات أخرى لها هي بدورها داخل وخارج. والخارج الذي بين الجماعات هو مجال الصراعات الدولية.
لذلك فالتاريخ سواء كان خاصا بأمة أو تاريخا دوليا هو تاريخ دولي بهذه العلاقة حتى إنه يمكن القول إن “الما بين” هو المحدد الرئيس لما يوجد “في” الحيزين المتجاورين : كل أمة تاريخها هو تاريخ ثغورها وحدودها في علاقته بتاريخها الذاتي ومن ثم فتاريخها تاريخ دولي بالضرورة خاصة إذا كانت أمة عظمى مثل الأمة الإسلامية.
لذلك فكل جماعة متعضية تصبح دولة ذات وجهين بأحدهما تلتفت إلى الداخل في حدود ما حازته من المكان وثمرته المادية ومن الزمان وثمرته الرمزية وما تحددت به هويتها من مرجعية خلقية وروحية يكون لها ما يمكنها من الالتفات إلى الخارج بوزن تستمده مما حازته من الأحياز وما حصلته من ثمرات عملها المادي والرمزي فيها.

  1. مستوى الصراعات في الجماعة وخارجها.
  2. مستوى التعضي في العلاقتين المتعامدتين
  3. مستوى التعضي المدني والاجتماعي حول الصراعات الخمسة وعلاقة القيم المادية والرمزية أو صراع المصالح وصراع القيم.
  4. مستوى بروز القوى السياسية أو الوازع.
  5. مستوى التشكل المؤسسي أو وازع الوازع والعلاقة بالمرجعية المحددة لقيم الصورة والمادة.

مستوى التعضي المدني والاجتماعي

والمستوى الأوسط -أي الثالث المتعلق بالتعضي المدني والاجتماعي- هو الأساس في تحقيق شروط الحرية والكرامة لتجنيب الجماعة تحول المستويين الأولين إلى دكتاتورية. ذلك أن الدولة الحديثة بمجرد أن استحوذت على الرعاية جردت المجتمع المدني من كل سلطان وجعلته تابعا للمجتمع السياسي : وتلك هي الدكتاتورية التي بدأت مع العلمانية لأن المجتمع المدني كان مستقلا عن المجتمع السياسي لما كان تابعا للسلطة الدينية أو لما يسمى بالأوقاف عندنا وبسلطان الكنيسة في التربية والعناية بالفقر والمرض في الحضارة المسيحية.
ومعنى ذلك أن الدولة الحديثة والعلمانية خاصة -بخلاف الأكاذيب المتعلقة بالتغني بالمجتمع المدني حاليا- هي الدولة التي أممت المجتمع المدني فجعلت الجميع تابعا للسلطة السياسية ومن ثم للصراعات المصلحية وحيدت الصراعات القيمية حصرا إياها في ما له علاقة بالإخلاد إلى الأرض.
لكن المجتمع المدني عندما يصبح تابعا لكنيسة فإنه يتحول إلى سلطان روحي يتحالف مع السلطان السياسي بل ويمد يده إليه فيصبح هو بدوره سلطانا سياسيا كما حدث في الكنسية المسيحية وفي الإمامية الشيعية وهو ما لا يقبل به الإسلام.
لذلك فالمجتمع المدني بالمعنى السني أو الأوقاف ليس خاضعا لسلطان روحي أو لسلطان سياسي بل هو سلطان الجماعة مباشرة لأنه مبني على التطوع وعمل الخير من المواطنين العاديين الذين يوقفون ثرواتهم كلها أو بعضها لخدمة المجتمع في سد الحاجات التي تكون مميزة لعصر من العصور.
وسلطان المجتمع المدني بمعناه الكنسي يتحول إلى سلطة روحية أكثر دكتاتورية من الدولة لأنه يضيف إلى الاستعباد المادي الذي هو بالقوة في الدولة المدنية الاستعباد الروحي الذي هو بالفعل في السلطة الروحية : وهذا هو الأمر الذي ثارت عليه العلمانية الفرنسية بسبب النظام الكاثوليكي للمجتمع المدني الذي تحول إلى استعباد روحي مقو للاستعباد المادي للملكية الفرنسية. ونفس الظاهر يعيشها التشيع الصفوي لانه وخاصة بعد القضاء على محاولات التحرر منه بالعلمانية الدكتاتورية للشاه ما جعل إيران تعيش حاليا نظاما شبيها بالنظام الكاثوليكي الفرنسي وهي مقبلة على ثورة علمانية من جنس الثورة الفرنسية دون أدنى شك.



يرجى تثبيت الخطوط
أندلس Andalus و أحد SC_OUHOUD
ونوال MO_Nawel ودبي SC_DUBAI
واليرموك SC_ALYERMOOK وشرجح SC_SHARJAH
وصقال مجلة Sakkal Majalla وعربي تقليدي Traditional Arabic بالإمكان التوجه إلى موقع تحميل الخطوط العربية
http://www.arfonts.net/


نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي