لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهنظام العالم الجديد
وقد يعجب القارئ إذا سمعني اقول إن أعسر المراحل في بناء هذا القطب في نسبة متعاكسة مع مكوناته: فايسر المراحل هو توحيد الرؤية بين الشرق الأدنى والغرب الادنى وأصعبها هو توحيد الرؤية في الشرق الأدنى وفي الغرب الادنى. ولكل مهمة مرحلتان: كيف توحد رؤية أي قوم في الإقليمين؟ ثم بين أقوامه؟
ومعنى ذلك أن وحدة العرب هي الاعسر على الاطلاق. وليس ذلك لأنهم نكصوا إلى الجاهلية فحسب بل لأنهم أكثر شعوب الإقليم تبعية حكامهم ونخبهم وأقلهم عقلانية وقدرة على التخطيط الاستراتيجي إذ لا يزال الفكر عندهم لم يتجاوز المستوى المباشر وقليل منهم يستطيع أن يصبر على البحث النظري.
ما تزال ثقافة الذاكرة النفسية والحفظ وعشو الدماغ بالخرافات سواء كان أصحابها يدعون التأصيل أو التحديث للخلط بين تاريخ الأفكار والفكر وبين ميت التراث والإبداع الفكري ولو حاولت فهم من يدعون التجديد منهم لوجدتهم أكثر تقليدا حتى من مفكري عصر الانحطاط الإسلامي.
وفي الحقيقة فإن أكبر عائق أمام الاستئناف الإسلامي هو هذه الحالة التي جعلت قلب الإسلام -العرب-وخاصة الذين من الله عليهم بثروة زائفة في المشرق والمغرب. فهم مثل الورثة العاقين الذين يأكلون التركة ولا يعملون شيئا لتعويضها بما ينتجونه لأنهم لا ينتجون شيئا: كل شيء مستورد.
لعل شعوب أمة الإسلام الأخرى في حال أفضل من العرب حتى من كان منهم من أفقر دول العالم. ويكفي أن تقارن ما استفاد به الهند حتى باكستان في نصف القرن الماضي من تنافس القطبين وما خسره العرب خلال نفس التنافس. فالهند وباكستان رغم فقرهما حازا على شرط الحماية في عصر الذرة.
أقصى ما بلغته أكبر دولة عربية هو صناعة الخراطيش وكذبة الصواريخ الناصرية. واقصى ما حققه من يزعمون أغنياء العرب هو نطح السحاب وتجارة الكعاب. فالجزائر تزدادا فقرا والاستثمار العربي لا يتجاوز الفنادق والبيادق لكنهم عزل يمولون مستعمرهم بدعوى حمايتهم من بعضهم البعض.
فكيف يمكن في هذه الحالة إحياء الطموح لدور عالمي مثل المؤسسين الذين أسسوا أكبر امبراطورية في تاريخ العالم لا تضاهيها إلا امبراطورية الولايات المتحدة الحالية؟
لعل الأتراك أفضل حال لكنهم ليسوا قابلين للقيس بشروط السيادة الحالية في عالم العماليق: لن يسمح لهم بالسلاح الحاسم.
ولا سيادة في أي عصر من دون السلاح الحاسم وهو نوعان:
شرط الرعاية وهو علمي تقني وعملي اقتصادي.
وشرط الحماية وهو أخلاق السياسة وسلاح الدفاع الحاسمين. والرعاية تكوينية (التربية والمجتمع) وتموينية (الثقافة والاقتصاد) وأصلها جميعا البحث العلمي
والحماية هي أخلاق السياسة وسلاح الدفاع. وأخلاق السياسية الداخلية الحاسمة هي القضاء العادل والأمن الجمهوري وهي في السياسة الخارجية الدبلوماسية والدفاع الحاسم. واصلها جميعا هو الاستعلام في خدمة أمن الأمة والدفاع عن سيادتها بعكس الجاري حاليا.
حصيلة القول إن أصعب قضية في هذه الاستراتيجية هي استعادة العرب للهمة والذمة حتى يكونوا جديرين بما ورثوه ويحسدون عليه: كما تجولت في قطر عربي أسأل نفسي كيف للأقوياء ألا يغريهم افتكاكه من شعوب بلهاء ليس لها أدنى وعي بأن غيرها يمكن أن ينزعها منها لكونه عزلاء؟
وكلما اطلعت على الرسائل الجامعية التي يتخرج بها دكاترة العرب وخاصة في التعليم التقليدي (الأزهر أو الزيتونة والشرق في وضع أسوأ) أعجب مما يجري: محفوظات في علوم ميتة لم يعد لها أدنى دور لا في سياسة الدنيا ولا في أخلاق الآخرة. كلام أجوف لا معنى له في بناء الحضارات.
وفضلا عن كونه ليس علما فإن ليس حتى تاريخ علم. هو من جنس ما آل إليه التأليف بعد القرن التاسع للهجرة: محفوظات لا فائدة منها لا في العلم ولا في العمل لأن العلم من جيل آخر من الفكر ولأن العلم في الدول كلها لم يعد له أدنى صلة عدا النفاق الديني للحكام بما يجري في عملها.
ولهذه العلة فلا شيء من وظائف الدولة الحديثة يمكن أن تنجز عملها بالمواصفات التي تمدها بالفعالية التي تحققه بها المطلوب منها لسد الحاجات المنتظر منها وهي إذن مؤسسات عقيمة لا يستفيد منها البناء الفعلي لقوة الامة المادية والروحية. فصار الاعتماد على الخبراء الاجانب تبعية دائمة.
وذلك يتبين في أهم وظيفة للحماية من الامراض ومن الأعداء: ففي الامراض التخلف في الصحة والغذاء يجعل تعليمنا الحديث منذ قرن في أدنى المستويات في الطبابة لأن الأغنياء كلهم يتعالجون في الخارج فلا يجهزون كليات الطب والمستشفيات بما يمكن من تكوين سليم.
أما الفاضحة الكبرى فهي منجزات جيوشنا: فهي لم تربح حربا خلال قرن وهي مجرد مافية لنهب البلاد والعدوان على العباد. وكلما رأيت جنرالا عربيا يزين صدره بالنياشين لا أرى فيهم إلا دونكيخوت على ظهر جواده يحارب النواعير لكن نواعيرهم هي شعوبهم.
أما عندما أرى طراطير العرب يزينون صدورهم بالنياشين وما أكثرهم فإني أعجب ممن هم لدى الحماة مجرد غوافير على محميات اتفقوا على معاملة سكانها معاملة الانعام يحلبونهم وأرضهم لملء خزائن العدو والاستمتاع كما يفعل المخلدون إلى الأرض لا يتوقفون عن لهيث الكلاب السائبة.
فحتى أخلاق الجاهلية لم تسقط إلى هذا الحضيض: والدليل أن الرسول وجد فيها من الرجال والنساء ما مكنه من أن يؤسس لأكبر امبراطورية في العلم في أقل من نصف قرن. أما أخلاق العرب الحاليين فقد جعلت أقصى طموحهم ولاية في محمية لسيد الامس الذي حاربه آباؤهم لاستعادة المجد.
كيف بهؤلاء ونخبهم أن يستعيد العرب قيادة الامة حتى يكونوا طرفا في استراتيجية تمكن الغرب الأدنى والشرق الأدنى أن يؤسسا لدور في التاريخ الكوني بالحجوم التي يفرضها وبشروط الرعاية والحماية التي وصفت؟ العرب هم الذين قتلوا في شبابهم هذا الطموح إذ أسسوا شرعياتهم على ما قبل الإسلام.
كل محمية تدعي أنها أمة وتبحث لها عن شرعية متقدمة على الاسلام فكانوا هم أول محاربيه قبل أعدائه من داخله أو من خارجه: عندما يصبح العراقي بابليا والسوري فينقيا والمصري فرعونيا والتونسي قرطاجنيا وهلم جرا فذلك يعني أنهم يؤسسون المحميات على نفس وحدة المشتركات.
ولما كان ما أسسوه لا يمكن أن تتوفر فيه شروط السيادة رعاية وحماية فهم قد أسسوا محميات الجوهر: خذ لكل كل الإمارات والمشيخات والملكيات والجمهوريات العربية وستجدهما اسماء لمحميات من استعمر دار الإسلام استعمارا زاد عمقا بعد ما يسمى بالاستقلالات مادية روحيا.
أعلم أن الفكر المباشر لا يرى علاقة بين هذه الامور وما أبحث فيه من بناء استراتيجي يمكن من الاستئناف أو على الأقل من عدم البقاء فريسة لكل من هب ودب حتى صرنا أحقر الامم في عصر العماليق أقصى ما يحلم به اغنياؤها هو الاكل أكل الأنعام وبناء المواخير ظنا أن ذلك هو غاية الوجود الإنساني.
فهل يمكن بعد ما وصفنا أن يصبح أكبر دولتين عربيتين أحداهما تدعي الحداثة والقومية والثانية الأصالة والإسلامية مجرد محميتين لناتن ياهو خوفا من مليشيات إيران وأملا في إيقاف ثورة شعبيهما حتى يبقيا على المافيات التي حكمت لنصف قرن نتيجته هذا الوضع المخزي؟