لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهنظام العالم الجديد
ولما كان البدء المضطر -والمضطر منه نظرا للغاية من البدء هو إما عربي بداية صراع الإسلام والغرب الأدنى أو تركي غايته-هو تكوين ولايات متحدة عربية. وما يلاحظه أي مطلع على تاريخ بدايات النهضة في القرنين الماضيين هو أن هذا الهدف يبتعد ولا يتقدم: كان قريبا من الغاية وصار أبعد بكثير. ففي القرن التاسع عشر لم يكن العرب متفتتين ومشتتين كما هم اليوم رغم أن الدويلات المنفصلة كانت قائمة لكن انفصالها كان أمرا واقعا وليس امرا واجبا: لم تكن أي منها تعتبر نفسها أمة بل الشعور العام كان الانتساب إلى نفس الامة لكأن الانفصال كان إداريا فحسب. وبقي ذلك حتى وهم تحت سيطرة الاستعمار الذي قسم الارض قسمة أولى قبل الحرب العالمية الاولى ثم بعدها عندم عم الانتداب على جل بلاد المشرق والمغرب سبقه في تقاسم فرنسا وإيطاليا لجغرافيته. لكن الاستعمارين لم يفرضا حدودا حديدية كما فرضته الدويلات المزعومة وطنية. ولما تكونت المجموعات الإقليمية حصل ما يلي: 1. مجموعة مغربية 2. ومجموعة خليجية 3. وانفرط عقد النيلية باستقلال السودان على مصر 4. ولم تتكون مجموعة القرنين (بين افريقيا والجزيرة العربية) 5. ومجموعة الهلال (بدولها الخمسة العراق وسوريا ولبينان والاردن وفلسطين). فكان ما تكون اثنتان من خمسة ممكنة وكانتا هشتين ومنافيتين للهدف الأسمى الذي يمكن أن يكون غاية الجامعة العربية. لكنها كانت في الحقيقة من جنسها بوحي من المستعمر لتيسير تعامله مع مستعمراته وليست مرحلة في بناء ولايات متحدة عربية كما كان ينبغي أن يكون عليه الأمر. ولذلك علامات في المجموعات الخمس التي كان يمكن أن تتكون وليس ما تكون منها فحسب: فاستثناء العراق واليمن من المجموعة الخليجية ذو دلالة. واستثناء مصر ومعها السودان من مجموعة شمال أفريقيا ذو دلالة. وللمنعنين نفس الدلالة: منع الوصل بين الهلال والقرنين ووصل المغرب بالنيل ووصل عرب القارتين. فتفككت مجموعة النيل و مجموعة المغرب والآن تتفكك مجموعة الخليج وتبينت علل عدم تكون مجموعة الهلال ومجموعة القرنين الأفريقي والآسيوي من فوق ومن تحت: من فوق بين افريقيا وآسيا عن طريق مصر ومن فوق بينما عن طريق اليمن: وغاية الانظمة التي نصبها الاستعمار واحدة. وهي بينة من نظام الجامعة العربية. فهي جامعة أنظمة لا جامعة أمة. وهو نظام الاجماع الذي يعني استحالة انجاز ما يمكن أن يكون ذا أهمية لأن أي واحد من أعضائها يمكن أن يوقف عملها. وفي ذلك فرصة سلطان المستعمر على الجميع لأنه لا بد أن يجد واحد أو أكثر يرفض ما يطلب منه رفضه. وقد وصل الأمر إلى أن المستعمر وذراعه في أرض العرب يمكن أن يطلع على كل شاردة وواردة من أي خطة سرية يمكن للعرب أن يخطر في بالهم التفكير فيها بل إن لقاءات الجماعة تنقل نقلا حيا في حينه مهما كانت جلساتها مغلقة. فالجواسيس يوجدون حتى بين رؤوس “الدول” المحميات. وقد وصلنا في مهزلة المهازل الجارية حاليا في الخليج إلى أن صارت الأنظمة العربية وظيفتها الأساسية فضح بعضها البعض وإمداد العدو بالتهم والأسرار التي يحتاج إليها لكي يبتزهم جميعا بما يبلغه كل منهم حول أخيه الذي صار يعتبره أعدى أعدائه. يكفي أن نعلم أن من كان يساعد محتل جزره لكي ينقذه من الحصار المالي هو من يريد محاصرة واعلان الحرب المالية على أخيه حتى يمنعه من تنظيم أول عمل يمكن أن يعيد للعرب بعضا من دور كوني على الاقل في الألعاب لأنهم أعجز من أن يكون لهم دور في الأمور السيادية. وما ينفقه العرب للكيد لبعضهم البعض كان يمكن أن يحقق معجزة في الإقليم العربي شبيهة بمعجزة مارشال الذي أخرج أوروبا من مخلفات الحرب الثانية ومكنها من اعادة البناء والاستئناف التنموي العلمي والاقتصادي بسرعة مذهلة وما كنا لنكون في هذا الوضع لو بقي للعرب شيء من الكرامة والشهامة. وفي الحقيقة ليس الأمر متعلقا بالكرامة والشهامة فحسب لئلا يظن أن كلامي عاطفي أو إنشائي. الأمر ذو صلة باستراتيجية تحقيق شروط الرعاية والحماية. لو كان للعرب ذرة من الفكر الاستراتيجية لفهموا أنه لا توجد دولة عربية لها القدرة عليهما مهما ضخت من بترول فضلا عن التي لا بترول لها. ومن ثم فكون الدول العربية محميات ليس من فعل الاستعمار بل من فعل حكامها ونخبها الذين يفضلون محمية فاقدة للسيادة تماما على ولاية سيدة نسبيا من أمة ذات سيادة كونية لأنها تكون قادرة على الرعاية وعلى الحماية شرطيها في كل عصر وخاصة في عصر العماليق. هي دول وهمية أدنى منزلة من أي ولاية من ولايات أمريكا أو حتى من أقاليم سويسرا التي لا تكاد ترى إلا بالمجهر: ألمهم أن يكون الحكما حاملا لاسم امير أو شيخ أو ملك أو رئيس وهم جميعا مرؤوسين من أدنى موظف في وزارتي الدفاع والخارجية لمستعمر الأمس ثم لذراعيه إسرائيل وإيران. وتقريبا منذ أكثر من عشرين سنة نسمع وخاصة بعد أن صارت القمم سنوية عن السعي لتعديل نصوص الجامعة العربية حتى تصبح مؤسسة ساهرة على التكامل العربي لكنها كانت في الحقيقة بصدد التحول إلى شاهدة على التنافر العربي حتى تحولت إلى مكتب صغير في خارجية أكبر عميل لإسرائيل. وطبيعي أن يكون الامر كما هو عليه لأن الحكام العرب في المحميات التي يسمونها دولا وطنية لا يتنافسون بمنطق التسابق في الخيرات بل بمنطق التحاسد في المنجزات على ضآلتها فيكون المنطق هو تهديم زيد لما ينجزه عمرو وكان ذلك بين مصر والعراق وبين المغرب والجزائر ثم عم الجميع. ولما كان هذا المنطق صار تعاونهم الوحيد على الاثم والعدوان فيما بينهم أو فيما يتفقون عليه من تهديم لعربي آخر يشتركون في محو أي عمل يمكن أن يفخر به العرب: فالذي كذب على العراق في قضية السلاح النووي رئيس مصر بشهاد رئيس أمريكا. والذي يريد إسكات الجزيرة وافشال الألعاب في قطر اعراب. وفي هذه الحالة لا تحتاج إيران ولا إسرائيل لإنفاق مال من اجل التجسس على عربي يعمل بجد لتحقيق شيء ما: كلاهما تأتيه المعلومات من كل صوب وحدب في عربي ولو كان واحدا. وهنا لا بد لي من إشارة مؤلمة: لما صار العرب الذين تعلموا قبل غيرهم يتحولون إلى شياطين فتنة في الإعلام والخبرة؟ ما السرطان الذي اصاب أهل الهلال وفلسطين إلى أبواق صحفية ودينية وخبروية وظيفتها “التحميش” والاستشارة الخبيثة التي تعمق الحقد بين سذج العرب من حكام ونخب لمجرد أنهم سبقوهم في التعلم إما بفضل الإرساليات الدينية أو بفضل الاستعمار الإسرائيلي ومدارس الأونروا؟ هل هذا الدور التخريبي طلائعية عند مثقفي العرب؟ لماذا كان الجيل الأول في القرن التاسع يسهم بحق في إحياء العربية وآدابها وتراثها العلمي والحضاري واصبحت الأجيال المتأخرة لا وظيفة لها إلا الارتزاق الاعلامي والخبروي في صحافة وظيفتها تأجيج الفتن بين أنظمة عربية محكومة بأحوال النفس؟ كيف صار العرب لا طموح له إلا أن يعمي أخاه حتى لو كان أدى إلى ان يصبح أعور؟ هل يمكن للمغرب أو للجزائر أو للسعودية أو لقطر أو لمصر أن تستفيد بشيء إيجابي إذا حارب حكامها بلدا عربيا آخر لمنعه من يسبقه بإنجاز من المفروض أن يتعاونوا عليه أو يتنافسوا في تنويعه؟ هل يوجد بلد عربي له من الثأر والانتقام مع بلد عربي آخر بدرجة ما بين ألمانيا وفرنسا؟ كيف يلتقي الألماني والفرنسي ولا يلتقي السعودي والقطري أو الجزائري والمغربي أو العراقي والسوري أو التونسي والليبي أو أي عربي مع أي عربي ليس بنهم عداوة من يحرضهم بعض على بعض لهم جميعا؟ وطبعا فالعلة بينة: لو لم يكن ما يحكم السلوك أحوال النفس عند الحكام والنخب وكان ما يحكم السلوك الفكر الاستراتيجي الذي يفهم معنى المصلحة المشتركة وشروط السيادة رعاية وحماية لما كان ما يجري جاريا خاصة وكل بلد عربي ليس بمنأى عن طمع الأعداء الذين يحتمي بهم. مالهم يخلطون بين السياسة ولعب الأطفال الذين يتنافسون بصبيانية معارك الأطفال في الأحياء القصديرية حول ما يشبه الكرة من الخرق التي يتقاذفونها بأرجلهم الحافية؟ ما الذي يمكن لأي دولة عربية أن يدعوهم للتحاسد وهم جميعا توابع حتى في قوت يومهم المستورد بثورة ورثوها عن آباء هم عاقوهم؟ كيف يعقل أن تكون الجزائر التي كان مستعمرها في بداية التاسع عشرا مدينا لها بما استورده من غذاء تستورد اليوم قوتها اليوم وهي مساحيا أكبر من فرنسا مرات ومرات؟ ما الذي يجعلها لا تكون قلب المغرب العربي وقاطرة وحدته حتى تصبح أقطاره ذات سيادة بدلا من الاستعداد لمحاربة بعضهم بعضا؟ وما قلته عن الجزائر يصح على بقية العرب. لكني ضربت مثال الجزائر لأنها من المفروض أن تكون طليعة هذه الاستراتيجية نظرا إلى أنها تمثل عودة الشجاعة التي عرفت بها الأمة في جهاد طويل أدخل الامة إلى التاريخ الحديث في ثورة ألإنسانية المقاومة للاستعمار والاستبداد والفساد. من له نزر من كرامة وحرية وشرف لا يمكن ألا يمرض بمجرد تأمل ما يجري في إقليمنا الذي كان متجانس الطموح ومعترف بتنوعه العرقي والديني بدليل نجاحه في مقاوم الاستعماري وكيف انقلبت فيه الأمور إلى عكسها بسبب نخب جديدة تتصور نفسها متحررة وهي تعمل كل شيء لتفقد سيادتها وحريتها وكرامتها.