لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهنظام العالم الجديد
واضح أن هذه الاستراتيجية عسيرة التحقيق بسبب عائقين:
فالغرب الأدنى (أوروبا) انطلى عليها أن استئناف الحضارة الإسلامية يهددها في المستقبل كما هددتها نشأتها في الماضي.
والشرق الأدنى (نحن) انطلى عليه فكرة أن ما تقوم به أمريكا يواصل الاستعمار الأوروبي في حين أنه هو الذي قضى عليه.
فأمريكا هي التي أرجعت أوروبا إلى حجمها الطبيعي وساعدت على اخراجها من كل مستعمراتها لتؤسس لنوع جديد من الاستعمار الذي هو في نسبة ثقافة دين العجل الذهبي بالمقارنة مع ثقافة الاديان المسيانية. فالغرب الأقصى جنيس ثقافة الشرق الاقصى لا ثقافة الأبيض المتوسط.
فالغرب الأقصى لا يختلف عن الشرق الأقصى إلى بقلب دلالة الألفاظ: ذلك أنه لا فرق بين أن تكون عبدا للبنك والاعلام (وكل الإبداع الفني الأمريكي اساسه دعاية إيديولوجية عنصرية) وعبدا لأسرة حاكمة أو حزب: ذلك أن البنك هو ملك أسر حاكمة في الخفاء بمنطق العجل الذهبي.
أرباب البنوك وارباب الإعلام يسيطرون بمنطق القبيلة العالمية (قبيلة دين العجل الذهبي) على الاقتصاد والثقافة والسياسة بتوسط تجمعات الأعمال والأحزاب ومراكز البحث العلمي والاستراتيجية لبسط سلطانهم على العالم في حرب دائمة على ما يتكلمون باسمه: الحرية والكرامة للجميع.
وهنا ليست نظرية الشعب المختار مجرد كلام بل هي واقع فعلي: من بيده السلطان الاقتصادي والثقافي والعلمي والسياسي ليس إلا دمى لسلطان خفي بيده البنك والأعلام والاستعلام السلطان الفعلي الخفي وليس ظاهر السلطان الذي نراه كجياد السباق في لعبة الديموقراطية كما في اللوبيات بالحكم في أمريكا.
أكاد أسمع ادعياء الحداثة يهزؤون من قراءة التاريخ قراءة لا تستثني ما يعتبرونه من الأوهام الإنسانية أي الأديان وتأثيرها لظنهم أن ما عداه ليس هو بدوره من أوهام الإنسان ولكأن حجة التمييز بين الوهمي والحقيقي في التاريخ الإنساني يمكن أن تقنع ذا عقل يعلم دور الوهم في مجراه الفعلي.
يسقطون سذاجة فهمهم للتاريخ على غيرهم فيهملون اعتبار أهم مقومات التاريخ أعني المعتقدات سواء كانت مبنية على الأديان أو على الفلسفات: فهي جميعا مشروعات تبدأ أحلاما في الأذهان فتجعها الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود حقائق في الأعيان يندهش لها كسالى الأذهان.
ملاحظة واحدة تفحم هؤلاء السذج: كيف يفهمون الفرق بين أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة؟
أليست هذه في نسبتها إلى الغرب الأدنى الكاثوليكي مثل نسبة المسلمين من غير العرب إلى الشرق الأدنى السني؟
فمستعمرات اسبانيا والبرتغال في أمريكا اللاتينية ثقافتها من ثقافة الغرب والشرق الأدنيين
قرابتهم مع الغرب الأدنى تفسر اختلافهم عن الولايات المتحدة وهي من جنس قرابتنا مع الغرب الأدنى وامريكا اللاتينية: وكلنا توابع للغرب الأقصى أي الولايات المتحدة. الثقافة المشتركة بين الغرب الأدنى والشرق الأدنى وأمريكا اللاتينية هي ما تجاوزه التاريخ ببديل هو ثقافة الغرب الاقصى.
لكن هذه القرابة تحول دون جعلها أساسا لقطب يستأنف دوره التاريخي بحجم قوى العصر المقبل أو نظام العالم الجديد الذي هو علاقة بين الشرق الاقصى والغرب الاقصى من جنس علاقة الشيء مع نفسه في تعينها الجلي والخلقي اللذين يبدوان متناقضين وهما نفس الحضارة اللاإنسانية.
والحائل دون ذلك هو التفاتهم جميعا لماض درس: لم يعد أحد لا هم ولا نحن قادرين على تمثيل الحضارة المقبلة بسبب شرطي الحجم والقوة ومع ذلك فما زالت دمانا من النخب تتوهم أن دولها قوى عالمية لها دور فيما يجري وهم في الحقيقة توابع لسلطان جلي (الولايات المتحدة) وخفي (لوبي البنك والإعلام).
وكل استراتيجية تخطط لمستقبل الدور العالمي المشترك بين الشرق الادنى والغرب الادنى أو لا يكون شرطها الاول الوعي بهذه الوضعية وبالخطة الأمريكية الإسرائيلية التي ستجعله حقيقة فاقعة أمام الاوروبيين بمجرد السيطرة على الشرق الادنى بطاقته وموقعه الجيواستراتيجي.
فتكون أوروبا قد مرت بالمرحلة الأخيرة من وقوعها فيما وقعنا نحن قبلها فيه: اخرجت من مستعمراتها وردت إلى حجمها ثم احتلت فصارت مستعمراتها لصالح نفس من تتوهمه منها. وذلك ما حصل لنا قبلها عندما أخرجنا من دار الإسلام وعدنا إلى حجمنا قبل الإسلام ومستعمرات لنفس السيد.
إذا لم نفهم ذلك هم ونحن فلن تقوم لنا قائمة. ويكذب من يتصور أن أوروبا يمكن أن تستعيد قوتها العالمية من جديد لأنها بحجمها وثرواتها لم تعد كافية للعصر الحالي فضلا عن المقبل: ما كانت تتميز به من تفوق فقدته والحضارة المقبلة مبينة على قيم انتاجية ومنزلة إنسانية منافية تماما لثقافتها.
كل اقتصادها سينهار في التنافس العالمي لان ثقافة شعوبها ومنزلة الإنسان فيها مخيرة بين أحد حلين: إما أن تنزل إلى ثقافة شعوب الشرق الأقصى والغرب الأقصى أو أن تنهار اقتصاديا. الانهيار الاقتصادي بداية التبعية ومن ثم العبودية لصاحب القوة في العالم: امريكا والصين.
لكن إذا تعاون الغرب الأدنى والشرق الادنى ومن يشاركهم ثقافتهم في امريكا اللاتينية وبعض مستعمرات اروبا السابقة فسيتحقق عامل الحجم الذي يحمي الثقافة المشتركة فلسفة ودينا لتستأنف دورها فلا تبقى ملتفتة إلى ماض درس هو حروب القرون الوسطى إلى نهاية دور أوروبا.
ولا بد هنا من الإشارة إلى حقيقة ضمنية أكاد أجزم بأنها من أهم أهداف إسرائيل في الغرب الأدنى فضلا عن أهدافها في الشرق الأدنى: الانتقام مما عانى منه يهود أوروبا من القرون الوسطى إلى الهولوكوست. ومن ثم فتجريد ألمانيا من السلاح النووي وحيازة إسرائيل له مؤشر خطير عليهم تدبره.
وصداقة ألمانيا مع فرس إيران لسبب عرقي وثقافي (عرق الجرمان وتقارب اللسان) تفسر ما يجري حاليا من حضور رمزي في كل قضايا إيران الدولية مع الكبار ومن سند لأوهام إيران ضد سنة الاقليم وهم لا يدرون أنها مجرد جرافة لجعل إسرائيل سيدة الاقليم بسبب جبن قادة العرب.
ولكن قبل الكلام على توحيد استراتيجية جناحي الإقليم الواحد المحيط بالأبيض المتوسط أي الغرب الادنى والشرق الأدنى لا من تعاونين بين منشئ دولة الإسلام والمحافظين عليها إلى بداية نظام العالم الاخير الذي انتهى بسقوط السوفيات ثم بين المحميات من كلا القومين العرب والأتراك.
فإقليم الشرق الأدنى غالبيته عرب وأتراك: وهم تقريبا بنفس الحجم إذا اعتبرنا الأتراك الذين فقدتهم الدولة العثمانية لصالح القيصرية الروسية والتي ما تزال توابع لروسيا. القومين يقربن من المليار. واقليم الغرب الأدنى يقرب من نصف المليار فيكون الحجم قريبا من قطبي العالم المقبلين.
ذلك أن امريكا وتوابعها في الغرب وفي الشرق تقرب من هذا الحجم ومثلها الصين. فيكون القطب الثالث المؤلف من الشرق الأدنى والغرب الأدنى في ملتقى قارات أوروبا وآسيا وافريقيا من حجم نظام العالم الجديد. ومن دون ذلك سيتقاسم آسيا وأوروبا وافريقيا العملاقان الأمريكي والصيني.
ونبقى نحن وأوروبا نتغنى بأمجاد الماضي وبحروب تجاوزها التاريخ لأننا فقدنا دورها في حاضره ولم نستعد بتحقيق شروط الاستئناف لدورنا في المستقبل. اعتقد جازما أننا في هذه المرحلة لا يمكن أن نتجاوز الرد الفكري والعقدي لبناء هذا القطب وتحرير شعوب محيط المتوسط من الدونكيخوتية.