لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهنظام العالم الجديد
فرضية “الأيدي الخفية” في لعبة الديموقراطية (سياسيا: حرية الإرادة) والاقتصاد الرأسمالي (حرية السوق: حرية القدرة) تنبني في مجرى الطبائع العقلية على ما يشبه مفهوم العناية في القول بالقضاء والقدر مجرى الشرائع الدينية: كلا التصورين يفترض غائية خفية في مجرى أحداث التاريخ الإنساني.
لكنها في الحقيقة ليست مجرد فرضية لان فيها وجها خفيا حقيقيا هو ما وراء اللعبتين السياسية والاقتصادية: فوراء المسرحية السياسية والمسرحية الاقتصادية لحرية الإرادة والقدرة والممثلين اللاعبين على ركح السياسة والاقتصاد الجلي مؤلفون خفيون يضعون سيناريو لعبة ظاهرة لإخفاء لعبة باطنة.
وهؤلاء المؤلفون هم من بيدهم السلطان الفعلي على الرمزين: رمز الفعل أو العملة وفعل الرمز أو الكلمة. فأصحاب البنوك وأصحاب الإعلام (وكل الإبداع الرمزي يوظف إعلاميا للسياسة والاقتصاد) هم المؤلفون الحقيقيون من أصحاب الإرادة والقدرة للعبتين السياسية والاقتصادية الظاهرتين.
ومهما أحكم التخطيط الاستراتيجي يبقى فيه ما لا يقبل التحديد المطلق ومن ثم فغالب اللامتوقع من أحداث التاريخ يفلت من بين أصابعهم فيصبحون هم بدورهم منفعلين لما لا يستطيعون الإحاطة به ومن ثم فنسبة استراتيجية التوقع إلى الأحداث الفعلية هي عين نسبة المعرفة إلى موضوعها: استحالة الإحاطة.
وهذه الفضالة هي التي ينطبق عليها مفهوم الأيدي الخفية كفرضية تفاؤلية في السياسة والاقتصاد وحتى في نظرية المعرفة المبنية على أن العلم يصل إلى الحقيقة في “المدى البعيد=نظرة اللونج روان عند بيرس). وثلاثتها شبيهة بالقول بالقضاء والقدر والعناية الربانية في الاطمئنان لمجرى الأحداث.
سلطان رمز الفعل (العملة) وفعل الرمز (الكلمة) هما بعدا دين العجل الذهبي: فالذهب فيه هو رمز الفعل أو العملة والخوار فيه هو فعل الرمز أو الكلمة. والأول سلطان مادي والثاني سلطان رمزي وبهما يتحكم المعنى الأول للأيدي الخفية فيما يقبل التوقع ويخضع للخطط الاستراتيجية من تاريخ الإنسان.
أما الوجه الثاني من “الأيدي الخفية” عند العلمانيين فهو ما ينسبه اصحاب الرؤى الدينية إلى العناية الربانية شرط الاطمئنان في كل عمل لأن مجرى العمل أي عمل بالقياس إلى مجرى النظر هو في نسبة المتناهي إلى اللامتناهي: كل علم مؤلف من بنى نظرية متناهية العناصر والعمل عناصره لامتناهية.
فالعلم يرد لامتناهي الوجود إلى متناهي إدراكه. لكن العمل رغم كونه مبنيا على النظر فهو لا يمكن أن يكتفي بما في النظر من عوامل بل لا بد من العودة من المجرد إلى العيني والعيني هو بالطبع لامتناهي العناصر في نسبة التحدد المفهوم للعين الموجودي. كلما كثرت عناصر المفهوم قلت عناصر الماصدق.
والعين المفردة من المفروض أن تكون ماصدقا لمفهوم لامتناهي. ولما كان العلم لا يمكن أن يدرك اللامتناهي المفهومي الذي له عين واحدة يصدق عليها استحال أن يرد العمل في الأعيان إلى النظر في الأذهان. وتلك هي علة عسر السياسة والاقتصاد وكل عمل خاضع لخطة استراتيجية نظرية دائما.
ذلك فلا تخلو سياسية واقتصاد من جزء كبير من المغامرة التي تقاس بمقدار ما يقبل منها من صوغ نظري دقيق يقرب مفهومه بعناصره إلى ماصدقه بعناصره المؤثرة فعلا في تحقيقه الفعلي سياسيا واقتصاديا. وهذان الشرطان يتضاعفان فيهما لأنهما يتعلقان بأطراف التنافس فيهما وعليهما.
وعندما يدور الكلام على استراتيجية عالمية للعوامل المتدخلة في الاستعداد لنظام عالمي جديد فإن المسألة تكاد تكون متعذرة على الصوغ النظري. لكن ضرورتها تقتضي القيام بها مع العلم بأن مقدار المغامرة فيها كبير جدا. وهو مع ذلك أفضل من الرماية في عماية التي تسيطر على فكر نخب العرب.
ونحن في هذه المحاولة نبحث في الاستراتيجية العالمية لبناء نظام العالم الجديد. وهو مطلب شرطه بيان عناصر الجدة فيه بالمقارنة مع النظام الذي هو بصدد مغادرة ركح التاريخ ليترك مكانه للنظام الذي هو بصدد احتلاله: وهنا نجد أنفسنا أمام أبعاد الزمان التاريخي الخمسة.
اضطررت لوضع نظرية الأبعاد الخمسة للزمان التاريخي لتمييزه عن الزمان الطبيعي: فهو ليس زمان الاحداث وحدها بل هو زمان الأحاديث المصاحبة لها والواصلة بين فعلية الأحداث ورمزية الأحاديث. فالماضي مضاعف أحداث تمضي وأحاديث حولها تبقى بعدها والمستقبل بعكسه أحاديث تمضي وأحداث تبقى بعدها.
أما الحاضر هو صراع التحول في الأحاديث المحول للأحداث قيميا ودلاليا. فتكون أبعاد الزمان التاريخي بذلك خمسة وليست ثلاثة مثل الزمان الطبيعي. وأهم ما في الأحاديث حول الماضي والمستقبل وصراعها في الحاضر هو تأويلاتها لما تذكره من الاحداث الماضية ولما تتوقعه من الاحداث المقبلة.
وفي هذه الحالة التي تتعلق بالنقلة من نظام للعالم قديم إلى نظام للعالم جديد لا يمكن الاقتصار على الفاعلين الأساسيين في عملية الانتقال ودورهم في أحداث الماضي وأحاديثه وفي أحاديث المستقبل وأحداثه كما يتجلى الدوران المضاعفان في راهن التاريخ الذي هو غليان حدثي وحديثي.
وأول شيء يثبت عمى ادعياء الحداثة من العرب أنهم لم يفهموا علة كون الإسلام في راهن هذه المعركة التاريخية الكونية في النظام الماضي وفي النظام الذي يراد بديلا منه من عناصر المعركة الجوهرية وإن بحضور سلبي منذ فجر التاريخ الحديث: صراع مع الغرب الأدنى تلاه الآن مع الغرب الأقصى.
فلا يمكن فهم العصور الوسطى والنقلة منها إلى العصور الحديثة من دون دور حضور الإسلام في التاريخ الفعلي بأحداثه وأحاديثه ولا يمكن الآن الكلام على النقلة من هذين النظامين إلى النظام البديل الذي نراه بصدد البناء والابتناء بالعين المجردة ونحن فيه فريسة من يستعد إليه متوهما يسر صيدنا.
نحن الآن بؤرة هي المسعى لبناء النظام الجديد ومن ثم فليس من المصادفة أن تكون حروب الاستعداد له كلها جارية في دار الإسلام التي هي ما بدون حيازته يمتنع على المتنافسين تحقيق شروط السيادة فيه. وما لم نع ذلك ولم يع الغرب الأدنى أننا في نفس الوضع لن يعتدل نظام العالم.
كل من يتصور من الأوروبيين أن التفتيت مقصور على دار الإسلام لم يدرك أنهم دور أوروبا مثل دور المسلمين لن يكون بحجم العصر المقبل إذا ظلوا دونكوجوتيين يحاربون نواعير الماضي: فالحضارة المقبلة في قطيعة مطلقة مع الحضارة التي نمثلها رؤيتها معا فلسفيا ودينيا.
وما يرونها حاليا من تفتيت لدار الإسلام قريبا سنرى مثله لدار الغرب الادنى الذي عاد إلى حجمه الطبيعي بفقدان مستعمراته وسلطانه على العالم ولن يستطيع استئناف دوره العالمي ونحن مثله إلا بتجاوز ما بين ضفتي المتوسط من تاريخ مضى وانتهى لنبني معا قطبا معدلا لنظام العالم.
الغرب الادنى مهدد مثلنا بأن يعود إلى الصراعات العرقية والطائفية والتفتيت الجغرافي والتشتيت التاريخي وقد بدأ بعد وسيتم بمجرد أن يستفرد الأمريكان الإسرائيليون بالسلطان على الشرق الأدنى طاقاته ومواقعه الجغرافية السياسية لأن أوروبا عندئذ ستكون رهينة تبعيتهما الأبدية لهما.
لذلك فما يسمى بالإرهاب والحرب عليه لا يستهدفنا وحدنا بل يستهدف أوروبا كذلك حتى لا تدرك هذه الضرورة الاستراتيجية وتعيس على ما يحيي فيها استعادة التاريخ الذي مضى فتعتبر الإسلام هو العدو. ومن ثم فالذين يدعون الجهاد باسم الإسلام لا يدركون أنهم مثل إيران يخدمون إسرائيل وأمريكا.
فمن يضرب أوروبا حاليا من هؤلاء الأغبياء ما زالوا مثل اليمين الأوروبي يعيشون في ماضي حروب الفتح وحروب الصليب وحروب الاسترداد وحروب الاستعمار الأوروبي وكلها من الماضي الدارس. اليوم الحروب لاخراج المسلمين من الجغرافيا والتاريخ بعقيدة صهيونية مسيحية وباستراتيجية السيطرة على العالم
وهذه الحرب التي إلغاؤنا هو رهانها ليست إلا استعدادا للتنافس على سيادة العالم بين الغرب الأقصى والشرق الأقصى وهي سيادة مشروطة باستعمار الغرب الادنى والشرق الادنى. وهما محميتان للغرب الأقصى وذراعه الإسرائيلية وجرافته الفارسية والأنظمة العربية العميلة وميلشياتهما والنخب المغتربة.