لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهنظام العالم الجديد
كيف ينبغي أن نفهم الوضع الراهن في الشرق الأدنى؟
إذا بقينا نتصوره من منطلق علاقة أهله بعضهم بالبعض فنحن نخطأ خطا لا يغتفر: ليس لأي قوة من أهل الإقليم سيادة ورؤية شاملة يمكن أن تكون أصلا لاستراتيجية ذاتية لكنها شاملة بمشروعها أرضية مشتركة بينهم تأخذ بعين الاعتبار مصير كل أهله.
فمنذ أن فقدت الخلافة دورها الجامع المتعالي على الاختلاف العقدي والعرقي والطبقي -لأن الإسلام يشمل الكل صار الإقليم في حرب اهلية لم تتوقف لأنه عاد إلى ما قبل دولة الإسلام أو إلى ما بعدها بنظرية الدولة المزعومة وطنية وإلى الحضارة المزعومة قومية وصارت الشرعية لا تستمد منه.
لذلك فينبغي أن نقرأ ما يجري في الإقليم بهذا المنطق وليس بمنطق الرابطة الإسلامية بين العرب وغيرهم أو بمنطق القومية العربية بين العرب لأن مطالب الأقليات العرقية والدينية والطائفية والطبقية صارت هي المهيمنة على المحميات العربية حتى عندما تدعي أنها قومية كما في العراق وسوريا ومصر.
ورغم أن المحميات المغربية لم تدع القومية العربية فإنها محكومة بنفس المنطق لأن الأقليات العرقية والدينية والمذهبية ليس لها وعي بوحدة المصير بل هي تسعى إلى تفتيت وحدة الدويلات القطرية من منطلق العرق حتى صار الإسلام والعروبة عند بعض النخب ممثلين لاستعمار أجنبي.
وبهذا المعنى فالتحليل الذي يطابق منطق ما يجري هو الذي ينطلق من استبعاد الرابطة الإسلامية بخصوص علاقة الاقوام والرابطة القومية بالنسبة إلى العرب لأن هذين الرابطتين لا وجود في الفعاليات الحقيقية بل هي مجرد أقوال لا أحد يعمل بمقتضاها بل هم يعملون بمنطق التخلص الإسلام والعروبة.
ويمكن الآن أن نتكلم على تضافر العوامل التالية في إطار سعي القوى العظمى المحيطة بالإقليم وتسابقها للسيطرة النهائية عليه شرطا في وضع النظام العالمي الجديد الذي سيبنى على التوازنات التي تلت سقوط النظام الذي نشأ بعد الحرب العالمية الأولى واكتمل بعد الثانية وانتهى بعد سقوط السوفيات.
وفي استراتيجية هذا هدفها الجيوسياسي يعود الدور الأول والاخير في الإقليم إلى قوة الغرب الأقصى أو أمريكا وما يتبعها في العالم وإلى قوة الشرق الأقصى أو الصين وما يتبعها في العالم. والدور الثاني والأساسي الذي يخصنا مباشرة يعود إلى ذراعي أمريكا الأداتي والغائي.
فالذراع الأداتية هي إيران وظيفتها بوهم استرداد الامبراطورية الفارسية تفتيت العرب عامة والسنة خاصة والذراع الغائية ه ي إسرائيل وظيفتها بخطة الجمع بين الأرضين الموعودتين القديمة (فلسطين من النهر إلى النهر) والحديثة (الولايات المتحدة) للسيطرة على العالم في نظامه الجديد.
وينبغي أن أضيف أن التفتيت لا يتوقف على العرب بوصفهم ممثلي ما ينبغي إزاحته من الإقليم لتحقق إيران حلمها الذي به يستغلها القطب الأمريكي الإسرائيلي بل لا بد أن يضم إليهم الأتراك: فالسنة هي الغالبية الكبرى في الإقليم وتتألف من العرب منشئ دولة الإسلام والأتراك الذين حافظوا عليها
والوضعية الحالية يمكن تعريفها بخاصيتين: الأولى أن أمريكا تمكنت بالبعبع الإيراني وعنتريات حرس ثورتها نجحت في جعل العرب يحتمون بصورة علنية بإسرائيل طريقهم إليها. والثانية نتيجة لذلك هي أن أمريكا وإسرائيل لم تبقيا بحاجة لدور إيران كجرافة توهمت السيطرة على أربع عواصم عربية.
لذلك فهما الآن أمام ضرورة استراتيجية هي اساس الدور الذي يريدان حيازته في نظام العالم الجديد: إرجاع إيران إلى حجمها الطبيعي باخراجها مما تسيطر عليه وتحويل الأمر الواقع الحالي إلى أمر واجب بدويلات أصغر من الحالية على أساس عرقي وديني وطائفي في كل دوله الحالية بما فيها إيران وتركيا.
حتى تكون كلها محميات لا قدرة لها على طموح الاستئناف عربيا كان أو تركيا أو فارسيا. والهدف ليس التفتيت بل هو أداة: الهدف هو استعادة ما به يمكن لأمريكا وإسرائيل أن تسيطرا على العالم بالسيطرة على قوتين محلهما الاكبر هو الشرق الأوسط: الطاقة والموقع الجغرافي السياسي بين الشرق والغرب
وبذلك يبدو أن الخطة تتألف من المراحل التالية:
إيهام إيران بأنها قوة عظمى قادرة على استرداد امبراطورية فارس مرحلة فاعلية البعبع التي تنتهي إلى الاحتماء الصريح للأنظمة العربية عديمة الرؤية الاستراتيجية
استعمالهم للصدام بين الطائفتين السنية والشيعية
جر السوفيات للمعركة
فتكون الخطة مؤلفة من المراحل التالية:
إيهام إيران بأنها قوة عظمى قادرة على استرداد امبراطورية فارس مرحلة فاعلية البعبع التي تنتهي إلى:
الاحتماء الصريح للأنظمة العربية عديمة الرؤية الاستراتيجية
استعمالهم للصدام بين الطائفتين السنية والشيعية وجر السوفيات إلى المعركة
ثم:
إيصال المرحلة إلى ضرورة القيام بالضربة القاضية على كل القوى التي بيدها أهم مواطن الطاقة والممرات بين الشرق والغرب.
وبذلك تصبح أوروبا والشرق الأقصى تحت رحمة أصحاب هذه الضربة القاضية أي أمريكا وإسرائيل.
ولما كانت هذه المرحلة التي نرى الاستعداد إليها جاريا أمامنا محتومة النتيجة سلفا لأنه باستثناء السذج لا أحد يصدق أن إيران وحتى روسيا يمكن أن يعتبرا قوتين قابلتين للنزال مع اسرائيل وأمريكا حتى وإن اكتفيا بإسناد اغبياء العرب لمحاربتهما عددا وعديدا كما فعلوا مع السوفيات.
خطة أمريكا وإسرائيل استعملت إيران بعبعا وأوهمتها بأنها قوة تستطيع احتلال أربعة عواصم وتسترد امبراطوريتها وأغرقت روسيا الهزيلة في معركة ليست قادرة عليها حتى يلجأ اغبياء العرب لإسرائيل وأمريكا فتستعملهم كما فعلت مع السوفيات: وهو ما بدأ حاليا.
ولا أعتقد أن تركيا وقطر يقدران على شيء في هذه الاستراتيجية فهم مثل أوروبا أعجز من أن يستطيعوا للأمر تغييرا. وأخطر وضعية يمكن أن يقعا فيها هي التحالف مع إيران وروسيا. فهذا إن حصل دليل عدم الانتباه إلى الأبعاد العالمية للمعركة. الصين نفسها لن تستطيع شيئا الآن.
سيسألني سائل: هل تقول بالاستسلام للأمر المتوقع وكأنه واقع؟
طبعا لا وألف لا. وما كنت لأن لأحلل ما أتوقعه لو كنت اعتبره قضاء وقدرا لا مرد له. وما كنت لأبين مراحل خطة عدو الإسلام -نظرية الارضين الموعودتين-لو لم تكن لي فكرة على كيفية التصدي لها بنقض غزلها.
وأول مراحل التصدي شرطا في الانتقال إلى الفعل هو تحديد المستهدفين في هذه الاستراتيجية: وهم على نوعين. النوع الاول هو المستضعفين حاليا (وهم الشرق الأدنى والغرب الأدنى) والنوع الثاني هم من يستعد لهم العدو لمنع من الوصول إلى شروط الندية (وهم الشرق الأقصى).
فالشرق الأدنى أي العرب والأتراك والفرس والكرد ومعهم روسيا ومستعمراتها الاسلامية أي من بيدهم طاقة العالم وممراته بين الغرب الأقصى والشرق الأقصى والغرب الادنى هو أوروبا القديمة التي صارت محميات أمريكية اسرائيلية وستصبح مستعمرات بالسيطرة على الشرق الأدنى.
صحيح أن توحيد هذه الجبهة التي تمثل الحضارة الإنسانية إلى حدود نهاية نظام العالم الأخير لأن نظام العالم الجديد سيبنى على ثقافة الغرب الأقصى والشرق الأقصى وهو نظام تلتقي فيه أقدم حضارة وأحدث حضارة ويجمعهما المخرب الأوسط لكل حضارة روحية: ورثة دين العجل الذهبي.
فسذج المفكرين من الحضارتين المحيطتين بالأبيض المتوسط ما يزالون متلفتين إلى الماضي ويتكلمون على حروب صليبية بين الغرب والشرق وهم غافلون على أن الغرب والشرق بهذا المعنى تجاوزهم التاريخ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية: كلاهما أصبح محمية للغرب الأقصى.
إسرائيل ليست من الغرب الأدنى هي من الغرب الاقصى هي ثمرة عقيدة استعمارية مبنية على استعادة الارض الموعودة القديمة بالطريقة التي أنشأت الأرض الموعودة الجديدة: إسرائيل انشئت بنفس الطريقة التي أنشئت بها الولايات المتحدة الامريكية بنفس العقيدة.
وهي إذن تنتسب إلى تاريخ مختلف تماما عن التاريخ الذي كان فيه الصراع بين المسلمين والمسيحيين مستثنيا لليهود باعتبارهم اعداء للملتين المتصارعتين وعملاء لكل منها ضد الاخرى. فالحروب الصليبية كلها وقعت قبل تهويد المسيحية بما يسمى الإصلاح الذي أعادة ثقافة التلمود والتوراة إلى الواجهة.
وطبعا فإعادة هذه الثقافة التوراتية لبس لبوسا جديدا هو عين تحريف الدين الإبراهيمي على لسان موسى كما حدث في “دين العجل الذهبي” أي نقيض دين موسى وغلفته بنقيض نظرية الشعب المختار أي العبودية الخفية بما يرمز إليه العجل الذهبي: سلطان المال والخداع الإيديولوجي. فالعجل من ذهب وهو خوار.
صار السلطان للبنك وللإعلام. وهما البديلان من الكنسية والاستبداد الظاهرين بما يؤدي نفس الوظيفة بمظهر عكسي. فمن عبودية البعض إلى عبودية الكل بدعوى أن حرية الجميع: فالنظام الجديد كل الناس فيه عبيدا في الأعيان للبنوك وعبيدا في الأذهان للدعاوى الإيديولوجية والدعاية الاقتصادية.
وهذا هو المشترك بين قطبي نظام العالم المقبل: فالشرق الأقصى نظام عبودي عام جلي والغرب الأقصى نظام عبودي عام خفي. سيلتقي الجلي والخفي من استعباد البشر بثقافة الكاوبوي والنمل. وهي ثقافة لا تقول بما تقول به الثقافة المشتركة في محيط الأبيض المتوسط التي مضت: فلسفة ودينا.
الاستراتيجية الوحيدة لحماية هذه الثقافة وإحيائها مشروط بالتفاتنا والتفات أوروبا إلى المستقبل والاستعداد للخطر الداهم علينا وعليهم والتحرر من الكلام على تاريخ مضى وقد يخرج أهله من التاريخ إذا ظلوا يفكرون بعقلية القرون الوسطى التي كانت صراعا بين الإسلام والمسيحية.