لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهنتائج نظرية الترميز
في الفصل الثالث التابع “لانطولوجيا العلاقة بين الوجود الفعلي والوجود الرمزي” مشكلة غامضة: حددنا في الذوق بعدين فماذا يناظرهما في العلم؟ رأينا أن الذوق يحدد الغايات في مستويين والعلم يحدد الأدوات في نفس المستويين لكن الذوق له بعدان: الأكل والجنس فماذا يناظرهما في العلم؟ هل ما يطلب به العلم سد حاجة الأكل هو نفسه ما يطلب به سد حاجة الجنس؟ طبعا لا. فحاجة الأكل تؤخذ من الطبيعة أو تفتك من الإنسان. نظير الجنس في العلم يعالج العلاقة الافقية بين الناس أو علم الشرائع في حين ان الأول يعالج العلاقة العمودية بينهم وبين الطبيعة علم الطبائع. وعلم الشرائع هو الذي ينظم تحصيل الغذاء شرط قيام الفرد والجنس شرط قيام الجماعة. وطبعا فكلاهما له وظيفة بايولوجية وجمالية في الأكل والجنس. العلم نوعان بمستويين: علم الطبائع وعلم الشرائع. علم قوانين الطبائع لعلاج العلاقة العمودية بين البشر وعلم قوانين الشرائع العلاقة الأفقية بينهم. فيكون المطلوب معرفة دور الترميز في العلاقة العمودية (أو أثر الطبائع في الجماعة) وفي العلاقة الأفقية (أثر الشرائع في الجماعة): انطولوجيا الرمز. والعلاقتان العمودية والافقية لهما قوانين طبيعية وتاريخية ليست هي مجال بحثنا بل بحثنا هو في دور الترميز بوجهيه الفني والعلمي في علاجهما. عندنا ذوقان (الغذاء والجنس) ولكل منهما مستوى أول ومستوى ثان. ولنا علمان (يطلب الغذاء ويطلب الجنس) ولكل منهما مستويان. فماذا يميز الجنس وطلبه؟ رأينا أن الغذاء يمكن أن يطلب من الطبيعة وأن يفتك ممن يملكه. والجنس لا يطلب من الطبيعة بل من كائن جنيس لطالبه ويقبل الافتكاك من حائزه. الملكية وحوز الجنس هما أصل كل تشريع في الجماعات البشرية. قوانين الطبائع تطلب منها. قوانين الشرائع يضعها البشر للحد من صراع الغذاء والجنس. وهنا نصل إلى موضوع هذا الفصل: تحديد نوعي العلوم المستخرجة من الطائع والموضوعة للشرائع. والإنسان ذو طبيعة ووعي بذاته: إنه ذات للعلمين وموضوع. ما أريد فهمه وأركز عليه هو البعد الثاني من الذوق والعلم لعلاج طبيعة العلاقة بين القانون بكل أصنافه والملكية والجنس في حياة الجماعات كلها. فبهما ينقسم القانون المدني إلى قانون الملكية وقانون الجنس عامة والأحوال الشخصية خاصة وقانون الارث المشترك بينهما لصلته الوثيقة بهما في آن. وبهما خاصة يتعلق القانون الجنائي لأن النزاعات بين البشر تتصل بهما اساسا وهي قد تتعدى المدني إلى الجنائي في غالب الحالات وبين كل الجماعات. ويترتب على هذين النوعين القوانين الخاصة بعلاقة المواطن بالسلطة السياسية التي وظيفتها الحماية داخليا وخارجيا والرعاية تكوينا وتموينا. القانون العام ونوعه الأول يسمى عادة القانون الإداري. وعمومه زائف لأنه قابل للرد إلى القانون المدني والجنائي العامين دون تمييز للسلطة. القانون العام بحق: دستور محدد لطبيعة نظام الحكم وأسلوبه وحقوق المواطنين وتنظيم معايير العقود والالتزامات حدودا وإجراءات ومراقبة عمل السلط. وفوق ذلك كله مرجعية تحدد أمرين: هوية الجماعة ومنظومة القيم الخلقية وكلاهما فوق القانون بكل أشكاله لأنها هي التي تضفي الشرعية على أي قانون. وهنا يتبين معنى دور الرمز في الشرائع: ففي الواجب التشريع لا يستمد شرعيته من تحكم نزوات الأفراد أو الجماعات بل من المرجعية الروحية والحضارية. ولا مصدر للمرجعيات إلا أحد أمرين: إما الدين أو الطبيعة. والأنظمة الدستورية صنفان بسيطان وصنفان مركبان منهما بأقدار وصنف بحسب مجال التشريع. ولهذه العلة كانت أحكام أفعال البشر خمسة: القيمة صفر (المباح) ثم المأمور به المطلق والنسبي والمنهي عنه المطلق والنسبي. وهذا يصح سواء كانت المرجعية دينية أو علمانية. ففي المرجعية الدينية يمكن اعتبار المأمور به والمنهي عنه بإطلاقهما دينيا وبنسبيتهما علمانيا. والعكس: ما ليس مأمورا به ولا منهيا عنه في القانون الوضعي بإطلاق يمكن أن ينتسب إلى الدين كذلك. وما هو مأمور به أو منهي عنه بإطلاق علماني. والقيمة صفر أو المباح في الدين والعلمانية يكون دينيا ديني وعلمانيا في آن. ولا يوجد في اي بلد قانون يكون دينيا أو علمانيا حصرا: مستحيل. كذبة الديني الشامل وكذبة العلماني الشامل لا وجود لها: فالديني لا يستطيع أن يشمل الأمور الإدارية الجزئية والعلماني لا يلغي كل الشعائر مثلا. مفهوم الشرائع أشمل من معناها الديني او العلماني: هي كل قواعد يسير عليها المجتمع أيا كانت مرجعيتها لأنها قد تكون عرفا لا ينتسب إلى أي منهما. فمثلا ما يسمى بجرائم الشرف ليست دينية وليست علمانية بل هي عرف بدوي متوحش. لكن القانون الوضعي أوجد ما يشببه باسم مختلف للتخفيف عن المجرم. ويسمى في القانون الفرنسي جريمة الانفعال العاطفي Crime passionnel وهو للتخفيف بشرط يكون جرما مشهودا وليس ناتجا عن ترصد سابق ونية الإجرام. ولا يمكن تصور قانون بدون مرجعية فوقه لأن ما به يعلل القانون هو أصل شرعيته وهو تعليل خلقي دائما سواء كان التعليل إرادة الله أو حقوقا طبيعية. ويخطئ من يتصور أن القانون المعلل خلقيا بإرادة الله مختلف من حيث الطبيعة عن القانون المعل خلقيا بالحقوق الطبيعية على الاقل في الإسلام. ذلك أن مفهوم الحقوق والواجبات الفطرية في الإسلام لا يختلف من حيث المفهوم عن الحقوق والواجبات الطبيعة حتى وإن اختلف الماصدق في بعضه عناصره. فالمفهوم واحد لكن الماصدق ليس واحدا دائما ووحدة المفهوم تتمثل في اعتبار القانون ليس تحميا بل له أصل متعال على نزوات الافراد والجماعات. واختلاف الماصدق علته أن ضمان عدم تدخل التحكم النزواتي فرديا كان أو جماعيا أو حتى العادات والاعراف العصية على التجاوز: علاقة أمر وافع بواجب. والمرجعيات هي منظومة قيم صارت رموزا للهوية الجماعية يرى الافراد أنفسهم من خلالها تقويما لسلوكهم وللصورة التي يريدون أن تكون لغيرهم عليهم. ولا يهم أن يكون ذلك محددا لما يسمى حراما وحلالا أو عيبا ومستحيا أو لائقا وغير لائق وهو ما به ينقد القانون والأخلاق والثورة على متعديه. وغالبا مما تكون المرجعية التي صارت معايير رمزية تتعين فيها القيم ويقاس عليها مثل الموازين والمقاييس التي يحدد بمقتضاه التطفيف في كل سلوك. بها تحدد وظائف الحماية والرعاية. فالحماية الداخلية قضاء وأمنا تعمل بقوانين وتعير هي ومرجعياتها القانونية: يعير الحكم وتعليله القانوني. والحماية الخارجية دبلوماسية ودفاعا تعمل بعرف وتعير هي ومرجعياتها العرفية: فتعير قدرة الدولة على حماية مواطنيها ومصالحها خارج حدودها. ويبنى بعدا الحماية الداخلة وبعدا الحماية الخارجية على نظام الاستعلامات في الداخل وفي الخارج حتى تقدر السلطة السياسية على العمل على علم. ونفس الأمر يقال عن الرعاية: فالرعاية التكوينية تربية نظامية وتنشئة اجتماعية تعير هي بدورها بالقياس إلى معايير مرجعية فتحتكم إلى الاختصاص. والتكوين يحتاج إلى تموين رمزي ومادي فيكون الإنتاج الثقافي والإنتاج الاقتصادي هو بدروه فعلا جماعيا قوانينه تعير بمرجعية تحرره من التحكم. ولا بد هنا من العمل على علم وذلك هو دور البحث العلمي الذي يحقق شروط العلاقتين بين الجماعة والطبيعة وبين الناس في الجماعة. تلك هي الرعاية. فيتبين أن تحديدنا لوظائف الدولة لم يكن تحكميا فهو ينتج ضرورة لما بيناه من علاقة بين الذوق بمستوييه والعلم بمستوييه لأنها عمل ذوقي ومعرفي. وهكذا فقد التقى مبحث انطولوجية الرمز ومبحث السياسة فيما يصل بينهما أعني دور الشرائع الذي هو أسمى من دور الطبائع: الثقافة محددة للطبيعة.