نتائج نظرية الترميز في الذوق والعلم – الفصل الأول

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله نتائج نظرية الترميز

لم نفرغ من علاقة الترميز بدورة إبداعه الحيوية كوجود فعلي: فالذوق والعلم بمستوييهما عمل ذوقي يبدع الغايات وعمل علمي يبدع الأدوات في الحضارة. الترميز مقوم من كيان الإنسان الحي بدنا وروحا بوصفه ما ينفصل به عن الحيوان بالحركة في المكان والزمان انفصال الحيوان عن النبات بها في المكان. فلنعرف القصد بالذوق ومستوييه وبالعلم ومستوييه قبل الكلام على علاقتهما التي عرفناها بعلاقة الغاية والأداة ثم علاقة المستويين أحدهما بالآخر. فالذوق في مستواه الاول هو ذوق الأكل والجنس وهما حيوانيان بداية ويصبحان إنسانيين نهاية. والعلم في مستواه الأول هو البحث الحسي لتوفيرهما. وهنا يكون الترميز في مستواه الأول الذي لا ينفصل فيه الدال عن المدلول ويكون الشيء رمز نفسه لإحالته إلى ما يسد حاجة الذوق في مستواه الاول. فيكون المغذي رمز الغذاء للمغتذي بحيث إن المأكول والأنثى للذكر والذكر للأنثى رموزا لما يطلبه الذوق مباشرة: ترامز الأحياز الخارجية الداخلية. والعلم في مستواه الاول يستند إلى هذا الترامز فيكون البحث عن الغذاء وعن الجنس المقابل وطرق تحصيلهما هو الأداة لتحقيق ما يطلبه مستوى الذوق الاول. لكن الغذاء والجنس المقابل يعرف بعلامات هي التي تهدي الباحث عنهما والعلامات حسية بالضرورة. والحاجة إلى العلامات شرط الإدراك عن بعد. والعلامات هي ما يهدي الحواس في الإدراك عن بعد: ومن هنا تقدم البصر والسمع أداتي الاستعلام خلال البحث عن الغذاء والجنس المقابل لسد حاجة الذوق. الاستعلام يعني طلب العلامة. البحث العلمي كله مبني على طلب العلامة وهو إذن يفترض تعريف الاشياء بعلامات هي التي يطلبها ليدرك الأشياء بعلمه. وبذلك تصبح العلامات رموز لما هي علاماته بعد أن كانت الأشياء ذاتها رموز ذاتها. والعلامات تنوب ما ترمز إليه فيصبح الرمز بديلا من المرموز. وحينئذ تقع النقلة من مستوى الذوق الأول ومستوى العلم الأول إلى مستواهما الثاني: يصبح الرمز النائب محددا للغايات ذوقيا ومحددا للأدوات علميا. رمز الغذاء مغذ رمزي غذائيا ورمز الجنس المقابل مغذ رمزي جنسيا: وكلاهما يفعل سواء كان المرء حاصلا عليهما أو خاصة محروما منهما. ويبدأ النقد. والنقد يبدأ حتى في استجابة الطبيعة للحاجة: فلا بد من حصول ملكة النقد بمجرد أن يقع الإنسان ضحية الخلط بين السراب والماء فيشك في العلامات. المستوى الثاني من الذوق ومن العلم نقديان أي إن الذوق يختار من الغذاء ومن الجنس المقابل بذوق ويختار من المعرفة ما يتجاوز العلامات الخداعة. الذوق في مستواه الاول يمثل ذوق الجائع والثاني يمثل ذوق الشابع. الأول لا يختار يطلب من يسد الحاجة والثاني يختار يطلب ما يتجاوز الحاجة. والعلم مثل الذوق مستواه الاول علم من يطلب الغذاء والجنس المقابل أيا كانا ومستواه الثاني علم من يطلب الأفضل من الغذاء والجنس المقابل. وشيئا فشيئا يتكون ذوق المائدة ومخيالها وذوق السرير ومخياله والتناظر بين الذوقين معلوم فكل الاستعارات والكنايات تنهمل منهما الصور الموحية. ولما يصبح الرسم والموسيقى مطلوبين لذاتها زينة جمالية في الأحياز الخارجية وفي الأحياز الذاتية للخيال الإنساني نصل إلى فنون وعلوم راقية. وعندنا نحن العرب ما جعل حضارتنا تصبح نموذجا كونيا الاندلس التي تمثل غاية الذوق والعلم المتعين في الأحياز الخارجية والداخلية: نموذج الجنة. وينبغي أن نعلم أن زينة المعمار في الأحياز الخارجية تناظر زينة اللباس في الأحياز الداخلية: نزين البيت واللباس وكلاهما رموز الثورة والتراث. وذلك هو ما يقصده ابن خلدون بالحضارة التي تقارب الموت بتدجين الطبيعة فتصبح ترفا هو لحظة الاحتضار الحضاري أو أرذل عمر الحاضرة في نظريته. وضمير قوله هو أن لحظة الاحتضار تجعل الرموز بدائل المرموزات مطلوبة لذاتها فيكون الإنسان وكأنه يغتذي بالعلامة بدل الشيء فيقتل حياته الفعلية. من ذلك أن المترفين لا يأكلون بأفواههم لفرط الشبع فيأكلون بأعينهم. والجنس تحول إلى فرجة فتذبل الحياة التي تتحول إلى لهو بالرموز بدائل وثنية. ويصحب ذلك عادة جوع وجودي مطلق إلى معانقة الطبيعة قدر المستطاع مثل الحيوانات الأليفة والسياحة في بلاد ما يزال أهلها قريبين من الطبيعة. والأمر جنيس ما يحصل للمرء إذ يصل إلى أرذل العمر فيصبح من الكنتيين: كان كذا وكنت كذا وكذا ولا يرى في شيخوخته إلى حنينه لشبابه: الحضارة تشيخ. وهذا هو الداء الذي أصاب العرب: أما شابة لكنها تبنت ما تسميه تحديثا وهو الآن تراث حضارة شائخة. لذلك فنخب العرب كلهم بدو بأخلاق الشيوخ. عندما أقرأ لبعض ليبراليي الشيوخ من آل الشيخ مثلا لا أكاد أتوقف عن الضحك: بدوي يدعى الحداثة فقد قيم الشباب وتنبي ما يرمز لاحتقاره لنفسه. وقس عليه جل حداثيي العرب: تجده في الأقوال أكثر حداثة من أعتى حداثيي الغرب لكنه في الأفعال دون من وصفهم ابن خلدون بفساد معاني الإنسانية. حضارة الحداثة هي الإبداع العلمي والعملي لتمكين الإنسان من السلطان على الطبيعة والتاريخ لكنها عندهم مجرد استيرادهم ثمراتها كعالة عليها. حداثتهم الشكلية هي أكبر عوائق التحديث تماما كأصالة زائف المجاهدين. التحديثي يهدم المستوى الروحي من حضارتنا والتأصيلي يهدم مستواها المادي. وإذن فنحن أمام نوعين من الدواعش: المشار إليهم عادة من كاريكاتور التأصيل ثم كاريكاتور التحديث. وهؤلاء أخطر من أولئك: لما بينا من دور للرموز. والشيء الثابت لكل محلل نبيه هو أن الحرب بين الكاريكاتورين التي دامت أكثر من قرنين هي العلة الأولى والأساسية لمآل الوضع العربي والإسلامي. ولولا هذه الحقيقة ما خصصت هذا البناء النظري لفهم الظاهرة العجيبة التي تجعل الأمم كلها تفهم منطق العصر والعرب يدبرون دائما فيزدادون غرقا. ذلك أني تخلصت من العمل الأكاديمي الذي يبحث في قضايا دون وصلها ما صيرها نظرية فتبقى وكأنها معلقة في الهواء لا صلة لها بالقضايا العملية. لا شيء يمكن أن يفوق قضية الترميز من حيث البعد النظري لأنها شرط كل تنظير. وهمي هو طلب انطولوجيا الترميز التي تصل النظر بالعمل وصلا فلسفيا. والوصل الفلسفي بين النظر والعمل ذو قبلتين: – قبلته الأولى إلى ما ينتج عن النظر من عمل وهو طلب ثمرة الفكر. – لكن قبلته الثانية هي معين حياته وتتعلق بما يجعل النظر مميزا للإنسان وتلك هي أنطولوجيا الترميز التي من الله علي بإدراك بعض خفاياها عندما أردت أن أقرأ القرآن الكريم فلسفيا وبخلاف ما قد يظن الكثير أني أحط من القرآن عندما اعتبره فلسفة دين وفلسفة تاريخ لكأني أشكك بمصدره المتعالي فذلك يزيدني إيمانا بتعاليه المطلق. وإيماني هذا التعالي المطلق علته أنه ليس استراتيجية توحيد الإنسانية فحسب بل هو الفلسفة التي أسست انطولوجيا الترميز المطلق بمعنى “الآيات”. فقرآنيا الوجود كله آيات مترامزة وهي مترامزة رسما بالكتابة وموسيقى باللسان والكتابة واللسان كلاهما رياضي للمكان والزمان أو الطبيعة والتاريخ. كل الموجودات آيات وهي كلمات الله وهي كتابية وهي صوتية وهي رياضية في الطبيعة وخلقية في التاريخ والإنسان خليفة لأنه متوصل بالآيات والكلمات. وآدم استأهل الخلافة لأنه تعلم التسمية وتلقى من ربه كلمات فأتمهن فعفا عنه واجتباه واجتبانا معه: نظرة القرآن تحرر الإنسان من الخطيئة الموروثة. والإنسان حر روحيا (علاقة مباشرة مع ربه ولا حاجة لوسيط) وسياسيا (لا وجود لحق إلهي في الحكم لجماعة أو لأسرة): مفهوم الرئيس بالطبع (ابن خلدون).

الكتيب

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي