ه
إذا نجحت تركيا وجيش تحرير سوريا المؤلف من أبنائها الأحرار في ملحمة نبع السلام وهما بإذن الله وعونه سينجحان دون شك فإن الاستئناف الذي كنت أتوقع أوانه قد آن يكون قد آن فعلا.
لم يعد من الأماني فحسب. وهو يفيد أمرين من يتجاهلهما لا يعيش بوجدانه وعقله المخاض الذي بدأ منذ أن مرت نخب الأمة الأصيلة إلى منطق الأفعال ولم تعد ممن يستنيم للأقوال.
كان شلل إرادة الأمة في عصر الانحطاط نتيجة مرض يمكن أن أسميه الخلط بين منطق الأقوال ومنطق الأفعال وخاصة الجهل بما بينهما من علاقة عجيبة حددها القرآن الكريم معيارا خلقيا في الحياة وجماليا في الشعر: “كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون”. كانوا يحاربون الأعداء بالعنتريات لا يعدونها.
ولما بدأت تتكون أجيال تعتقد أن ما يصل بين الأقوال والأفعال أمر ذو وجهين:
• فهو يضبط الأقوال بما تقتضيه الأفعال أدوات وغايات
• وهو يضبط الأفعال ما تخفيه الأقوال ولا تجليه لأن الكتمان من شروط قضاء الحاجات.
لكن قيادات العرب كانوا ولا يزالون يقولون ما لا يستطيعون غير خدمة استعلامات العدو بتخريفهم الذي يفضح اسرارهم ولا يخفي عوارهم.
لو كان العرب المطبعون لهم استراتيجية أردوغان لاعتبرتهم أبطالا تجاوزت أقوالهم أفعالهم. هم يطبعون ليبقوا على الكراسي لأن من عينهم فيها ليس شعوبهم بل من يذلهم ويذل بهم شعوبهم دمى لا حول لهم ولا قوة. الفرق بين اردوغان والغفراء الذين يسمون أنفسهم أمراء من مطبعي العرب هو بين ند يتعامل مع عدوه بما تمكن منه الندية وبين محتم بالعدو يقدم آيات الطاعة.
وإذن فالصورة في حد ذاتها رمز متعدد الدلالة. اللقاء بين قيادات الدول أمر طبيعي إذا كانت دولا. أما اللقاء بين دمى المحميات وحماتهم فهو ما يمكن أن تقرأه في نفس الصورة مع أي قائد عربي يلتقي بإسرائيلي أو بإيراني. ذلك أن جيل حكام العرب الحالي حتى في التبعية نزل إلى أسفل مما كان عليه الجيل السابق.
كان الجيل السابق تابعا لرأسي الاستكبار العالمي وصار الجيل الحالي تابعا لذيليهما في الإقليم. والثابت المشترك بين الجيلين هو الاستبداد والفساد والعنتريات. فتوابع إيران يتعنترون على تابعي إسرائيل. وتابعوا إسرائيل يتعنترون على تابعي إيران. وكلاهما في الحقيقة فعله الوحيد هو إذلال شعبه ودفع الجزية لحاميه.
أعود الآن إلى ما سينتج عن نجاح نبع السلام. وهو قد بدأ ببدايتها. ذلك أن بدايتها ومشاركة الجيش الحر فيها كلاهما يرمز إلى الأمرين اللذين أريد بيان دلالتهما:
• فالأول دليل على تعافي تركيا واستردادها ثقتها بنفسها للمشاركة في الاستراتيجيا العالمية ولإلغاء صورة الإقليم كمنفعل عديم الفاعلين.
• والثاني دليل على بداية شباب العرب يسترد دوره في إطار ما تخلى عنه بعضهم الآخر منذ سايكس بيكو لما قدموا القومية على ما به صار العرب ذوي دور كوني أعني ثورة الاسلام.
وقد يقال أنت تغالط ألا ترى إيران تفعل ولا تنفعل؟ وهذه من الخدع الغربية التي يتجاهلها اغبياء العرب المتذيلين لها: ما تفعله إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن وكل دول الخليج ليس فعلا بل هو تخريب بالوكالة يساندها فيه الاستعمار بطرفيه الغربي والشرقي بدليل الحماية الجوية للحشد الشعبي في تهديم معالم العراق وسوريا.
فمتى كان الغرب يفعل في الإقليم من دون مشاركة الباطنية والصفوية للحرب على الإسلام منذ الصليبيات والمغوليات والاسترداديات إلى الاستعماريات إلى الغزو الأمريكي للإقليم. وما يحيرني هو أن مليشيات القلم العربية التي تخدم إيران تظن الشعوب لم تفهم الخطة والدليل ثورة شباب العراق وستليها ثورة كل شباب الإقليم بمن فهيم شباب إيران نفسها.
إيران من الإقليم جغرافيا هذا لا شك فيه. لكنها ليست منه تاريخيا منذ الفتح إلى الآن. ولأشرح:
تاريخ الإقليم الذي أتكلم عليه بدأ مع الإسلام رغم أنه مبني على فلسفة تشمل الإنسانية كلها ماضيها وحاضرها فلسفة ترفض العنصرية وخاصة نظرية الأسرة المختارة اخت نظرية الشعب المختار وهما اساس الحلف الذي لا يخفى عن أصحاب البصيرة بين الصهيونية والصفوية.
كلتاهما تعمل بمنطق ما قبل ثورة الإسلام: هذه تريد دولة داود وتلك دولة أنو شروان. إذن فكلتاهما تعتبر دولة الإسلام فيه هي العدو وهي العائق لاستعادة ما قبله. وإيران أخبث من إسرائيل استراتيجيا لأنها تخرب الإسلام من الداخل بتحريفه. فهو يرفض الوساطة الروحية بين المؤمن وربه والوصاية السياسية عليه وهي تعيدهما باسم كذبة آل البيت التي باطنها آل بيت أنو شروان وليس أحفاد الرسول إلا في الظاهر.
وأكاد أجزم أن هذا هو حال كل الذين يتكلمون باسم الدولة القومية في الإقليم وخاصة من الأقليات التي هي بالجوهر معادية لعودة الإسلام خاصة وهي أهم من ساهم في الحرب على رمز وحدة الأمة في ما يسمى بالقومية العربية التي خدعت بها انجلترا عرب الخيانة وكل من سعى لتفتيت الأمة باسم القومية في الإقليم.
فكل الأنظمة التي نشأت بعد سايكس بيكو الأولى استبدلت شرعية أنظمتها التاريخية الإسلامية المشتركة بالعودة إلى شرعية القوميات المتقدمة عليها كالفرعونية والبابلية والقرطاجنية والفينيقية إلخ….إذ حتى كذبة القومية العربية فإنها لم تكن إلا غطاء لاخفاء عداوتهم للإسلام المتجاوز للعنصرية القومية.
وما كان أحد ليهدد تركيا لو بقيت على نهجها القومي الذي يحارب الإسلام ولما احتاجت لهذه العملية أصلا. ما دفع امريكا وإسرائيل واحفاد من أوجدتهم سايكس بيكو الأولى إلى المؤامرة ضد تركيا ليس قومية تركيا بل كونها بدأت تتخلص من القومية وتعود إلى ما جعلها تصبح دولة كونية أي هويتها التاريخية.
لو كان من يحكم تركيا من جنس من قبلوا به في حلف الناتو لما مسها أحد ولما وقعت محاولة الانقلاب الأخيرة ولما سعوا إلى محاصرتها بإرهاب داعش ثم بإرهاب العلمانيين من العرب والأكراد في سوريا وبمتخلفي العرب من الثورة المضادة ولما وقع اجماع على حماية من أراد قطع كل اتصال أرضي بين الأتراك والعرب وتحقيق الهلال الشيعي للفصل بينهما.
وما كان الجيش الحر يوجد فضلا عن أن يشارك في الطفرة النوعية للتعاون بين ممثلي المستقبل العربي والتركي المشترك لاستعادة لحمة الأمة ليس بالأقوال بل بالأفعال أو بأخوة القتال من أجل هذا المستقبل الذي لا يكتفي بمنع سايكس بيكو ثانية بل بالبداية في اقتلاع الأولى من جذورها: حرب التفتيت القومية التي هي نتيجة الجرثومة العنصرية الغربية.
صحيح أن مشاركة الجيش الحر مشاركة رمزية في هذه الطفرة. لكن الرموز تكون أحيانا أهم مما ترمز إليه. فالذين أسسوا دولة الإسلام في لحظتها الأولى كانوا رمزا: لم يكن في جيش الرسول وجيوش الفتح الأولى إلا أقلية من العرب الذين تجاوزوا القومية والقبلية إلى الكونية القرآنية ثم تلاهم من حمى بيضة الإسلام.
فتوالى عليها كل من صدق إسلامه دون شرط العروبة. التركي والكردي والأمازيغي والهندي والافريقي تداولوا على حمايتها إلى يوم الخيانة الأكبر الذي جعل بعض العرب يتحالفون مع أصحاب سايكس بيكو بوعد كاذب معهم وبوعد صادق مع إسرائيل. فالوعدان صدرا في نفس التاريخ من نفس القوة الاستعمارية.
رمزية الجيش الحر تفهم بالمقابل مع رمزية الخيانة التي حصلت في بداية سايكس بيكو الأولى. فالجيش الحر الذي يحرر سوريا من دمى الغرب هو نقيض الجيش المستعبد الذي وعدوه بسوريا ثم أعطوها لفرنسا التي ما زالت تحلم بدور لها فيها. لكن جواب تركيا كان “بلعي: صه بالتونسي” أي اسكتي فأنت لا وزن لك في المعركة.
والجيش الحر حر. تلك هي رمزيته. وهو سيكون حارس العائدين لأرض سوريا.
أين؟
فالمكان له دلالة كبرى. وهي دلالة مضاعفة:
- دلالة الحد الذي لن يبقى فاصلا بل واصل بين الأتراك والعرب والأكراد.
- ودلالة مركز الوصل بين عواصم الخلافة الثلاثة الأخيرة ورمزها الرقة مصيف هارون الرشيد وملتقى الشعوب الثلاثة.
جغرافية سوريا مدفن أكبر ابطال الأمة الذين جاهدوا وانتصروا. رجالاتها في أهم لحظات تاريخها من بدايته إلى غايته وإلى الآن – من خالد بن الوليد سيف الإسلام إلى الأمير عبد القادر ومن صلاح الدين إلى الفاتحين. كل هؤلاء ملتقاهم في هذه الأرض التي مصيرها مترابط مع القدس ومع عواصم الخلافة الأربعة دون انفصام: المدينة فدمشق فبغداد فإسطنبول.
وإذا وصلت العاصمة الأولى المدينة بالعاصمة الأخيرة اسطنبول وجدت خطا يقاطعه في شبه تعامد مع خط يصل بين العاصمة الثانية والثالثة المحتلتان حاليا من إيران هدفه قطع ما بينهما من علاقة ومحو الخط الاول. وبفهم الخطة نتبين أن العاصمة الأولى إذا تركت على حالها تابعة لنظام تابع للمحتل الثاني لقلب الشام أي القدس أمكن أن نفهم مهمة نبع السلام وما يتلو من مسعاه التحريري.
فلا يمكن تحرير العاصمتين المحتلتين من إيران من دون ما يفيد أن العرب بدأوا يفهمون أن دورهم لا يمكن أن يستأنف فعلا إلا إذا التقى الشعب الذي أسس دولة الإسلام (العرب) بالشعب الذي حافظ عليها إلى سايكس بيكو الأولى (الأتراك) ليحولوا دون سايكس بيكو الثانية وإزالة آثار الأولى: وتلك هي دلالة نبع السلام.
رمزية الجيش الحر هي ما حاولت بيانه.
وآمل ألا يفهم القراء أن ما يحدث في نبع السلام خاص بشمال سوريا أو بحدود تركيا بل هو يشمل الإقليم كله. وبشموله هو يمتد إلى الأمة كلها. وقد يكون لذلك علاقة للقاء بين تركيا وباكستان وماليزيا. فهؤلاء هم طليعة الأمة في كل شيء حاليا وحضورنا رمزي.
هذا الحضور الرمز – الجيش الحر- ليس سوريا وليس عربيا بل هو رمز لدور أحفاد المؤسسين الذين رغم الطابع الرمزي لحضورهم يبقى عين الحضور الدال على أنه رمز الرموز وطليعة الطليعة. فالحاضر في لقاء تركيا وباكستان وماليزيا هو القرآن الذي بالمضمون وباللسان ثورة الإنسان برمز التحرير من عبادة العباد بعبادة رب العباد.