ه
من يقرأ بنود الاتفاقية التي تمت بين تركيا وأمريكا يتأكد أن تركيا حققت نصف المهمة. وأمريكا أبقت على نصفها الثاني. كلتاهما تتحين فرصة استكمال المهمة. فماذا حققت تركيا؟ وماذا أبقت أمريكا لها؟
لا أدعي أني من كبار المحللين ولا أعتقد أن الأتراك ليسوا على وعي بما فكرت فيه رغم قلة خبرتي في المسألة التي تعالجها تركيا. قيادة تركيا لا تجهل هشاشة موقفها بين:
- روسيا التي تتحين فرصة سايكس بيكو الثانية ولا تريد إضاعتها كما أضاعت الأولى بسبب الثورة البلشفية.
- وأمريكا أعدت العدة لإعلان سايكس بيكو الثانية من قلب الإقليم بين سوريا والعراق وتركيا.
- والغدر المحتمل من إيران التي تحلم بالممر إلى الأبيض المتوسط عن طريق الدولة الجديدة مقابل التنازل لها على جزء ضئيل من شمالها.
- والنظام وخاصة داعش التي نعلم أنها مستعدة للعودة حتى تغطي على الخطة الإيرانية الروسية.
- وأخيرا الغدر الحاصل من أنظمة الخيانة العربية باسم الغيرة المزعومة على وحدة سوريا وهم يعلمون أن الذي يهددها هو نشأة دولة كردية.
ومن يعلم ذلك كله لا يمكن ألا يعتبر أن تركيا وجدت فرصة لتحقيق أقصى ما يكمن تحقيقه في مرحلة أولى لعلاج المشكل وهو ربح الوقت إلى أن تتحرر من الاتفاقية التي تنتهي سنة 2023 أي نهاية ما يكبلها من بقايا سايكس بيكو الأولى. ما بقي هو إذن محافظة أمريكا على القوة أكراد سوريا لذلك اليوم الذي لا يجهلون ما سيترتب عليه.
الاستراتيجي الذكي هو الذي يعلم حدود قوته فلا يستعملها إلا بالقدر المحقق لمرحلة أولية مستسنحا أفضل الفرصة لاستعمالها. لو انتظرت تركيا إلى نهاية المدة الأولى لتحقيق الهدف بالكامل أي إلى نهاية حكم ترومب في مدته الأولى لامتنع عليها أن تفعل شيئا لأنه سيكون أمامه سنتين لا يحتاج فيهما لأي حذر لعلمه أنها آخر مدة حكم له فكان سيستعملها ليخلد اسمه بتحقيق سايكس بيكو الثانية ويعترف بدولة كردية كبرى تفتت أربعة دول كبرى في الإقليم وهو حلم أعداء الأمة كلهم.
ذلك أن أحفاد سايكس بيكو الأولى هم أحرص الناس على تثبيت ما ترتب عليها أعني أنظمتهم العميلة والتمهيد للثانية رغم أن من يفهم من نخب بلدانهم الرهانات يعلمون أن بلدانهم مستهدفون ـأكثر من تركيا لأنهم جميعا حدودهم عورة وليس لهم القدرة على الصمود أمام جحافل الحشد الذي يستعد افتكاك الكعبة والتنكيل بالصحابة.
كنت واثقا من أن اردوغان -الذي وصفته بمعاوية الثاني من حيث الدهاء والرؤية الاستراتيجية بعيدة الغور والدور التاريخي في حماية البيضة- لن يفرط في الفرصة. ولذلك كتبت متابعا مراحل نبع السلام وبينت قدر مستطاعي دلالتها وتوقعت نجاحها. لكني اعترف أني لم أكن اتوقع نجاحها بهذه السرعة وبأقل كلفة ممكنة في مثلها. والأهم من ذلك كله هو أن الحمقى ممولي إرهاب العلمانيين خسارتهم لا تقدر.
ستفرض عليهم أمريكا دفع كل ما التزمت به لتركيا لتحصل على الاتفاقية التي يحتاجها ترومب أكثر من أردوغان: وتلك هي النباهة الاستراتيجية التي لم تول أهمية لعنتريات ترومب الدالة على الضعف وليس على القوة. فعودة المهجرين إلى ديارهم يحتاجون إلى حلب السعودة والإمارات بالقدر الضروري لإسكان مليونين على الاقل ودفع حمايتهم التي تكفلت بها تركيا دون أن تتكفل بكلفة تتجاوز حماية حدودها.
وحماية المنطقة التي سيستقر فيها العائدون من المهجرين السوريين سيدفعها من كان يمول الإرهابيين نقمة في تركيا وفي الحقيقة خجلا من نذالتهم وجبنهم لأن موقفهم من تركيا لا يختلف عن موقفهم من أي ناجح حتى في ما بينهم. عقليتهم عقلية عجائز البدو التي تغار من جارتها إذا فاقتها حتى بجمال إليتها. سيدفعون الكلفة كاملة وهم صاغرون.
والآن ما المشكل الأهم في المهمة؟ النصف الثاني منها والذي يمكن اعتبار أمريكا قد حافظت على امكانية مواصلته لاحقا: هل ستقبل تركيا أن تبقى القوة التي كونتها أمريكا وإسرائيل وفرنسا وخونة الأمة من حكام العرب حاشا الشعوب مجاورة لها ولو على بعد ثلاثين كلم حتى لو لعب الإرهابيون الأكراد مؤقتا لعبة العودة إلى النظام؟ المعركة طويلة وينبغي نزع اسلحتهم إعادتهم إلى مناطقهم الأصلية قبل الحرب طوعا أو رها.
فأنا اعرف المنطقة جيدا أعرف الرقة وأعرف دير الزور وأعرف البوكمال وأعرف أهلها وكلهم من أفضل قبائل العرب وأشجع رجال الأمة وقد نلت من كرم الضيافة عندهم ما ذكرني بما عشته بين في قبيلتي لما كنت طفلا وشابا فلم أشعر بأدنى غربة بينهم فعلمت أن الامة بخير ولن تغلب أبدا في الشهادة على العالمين.
والحل -ما أظن القائد اردوغان غافلا عنه- تجاوز العلاج العسكري حاليا. المعركة لم تعد عسكرية بل هي صارت أساسا ثقافية واجتماعية. لا بد من أن تتكفل تركيا بتكوين آلاف الشباب من هذه المناطق في كل الاختصاصات بما فيها الدفاعية ليكونوا نخبة قائدة في سوريا بأخلاق الإسلام المتعالي على العرقيات والطائفيات: معركة ثقافية بالأساس استعدادا للجزء الثاني من الخطة.
أربع سنوات لن يتحرك فيها الأكراد بل ستحرك إيران والنظام وأعراب الثورة المضادة من جديد لتحميل تركيا مسؤولية عودة داعش وخاصة لتبرير بقاء الحضور الأمريكي فضلا عن الإيراني والروسي بدعوى الاستجابة لنظام شرعي في حين أن الجميع يعلم أنه “فنتوش”=طرطور لا سلطان له حتى على غرفة نومه إنه حبيس مليشيا إيرانية.
إذا كان أردوغان يؤمن بدور الأمة المقبل وليس له ما للصفوية من تفضيل لعرق على عرق من أبناء الأمة فإنه سيعامل السوريين معاملته للأتراك والأكراد وكل من يؤمن بأن مصير الإقليم واحد في معركة الاستعداد للمعركة الحاسمة. لا بد ألا ننسى أن ضعف أحد أقوام الإقليم سيعرضه كله إلى الخطر الذي يهدد الجميع. فالأضعف عندما يشعر بظلم الأقوى من ذوي القربى يصبح مستعدا لكل الخيانات.
ولست غافلا على أن ذلك له كلفة سياسية في الداخل التركي أكبر من الكلفة في الخارج. فتحريك النعرات القومية والطائفية من أدوات الأحزاب المنافسة في كل بلد ديموقراطي. لكن المدة ليست طويلة والنصر الحالي يعطي للقائد مهلة محترمة من رضا الشعب بحيث إن الدعاية ضده في هذا الباب لن تؤثر كثيرا.
ثم إن عودة مليونين من السوريين إلى وطنهم سيخفف من وطأة استعمال هذه الورقة ضد الحزب الحاكم بل هو سيقنع بأن سياسته كانت حكيمة وخاصة لأن الحرب لم تكلف الجيش التركي كثيرا من الشهداء وأرجعت إلى الشعب التركي قدرا كبيرا من “الفيارتي ناسيونال” من الأنفة القومية التي هي من روح الأتراك.
وفي الختام فإني سعيد بأن الأخوة بين الجيشين التركي والحر مكنت من بناء لحمة اعتقد أنها ضرورية لما بقي من المهمة لأني اعتقد أن تركيا قد تضطر لآخر الدواء الكي مرة أخرى ولكن بعد 2023 وتلك هي المعركة الحاسمة. وحينها تكون تركيا قد أصبحت قادرة ليس على تحدي ترومب أو غيره بل جل أعدائها سيخافونها وخاصة القزم الفرنسي.
أعتقد جازما أن وحدة العرب والأتراك أي من يمثلون بداية دولة الإسلام ومن يمثلون غايتها هم من سيمثل استئنافها ولا يمكن أن تغلب دولة الإسلام إذا تحالفا بصدق وبها سيتحرر الإقليم بكل شعوبه-شعوبا وقبائل لتعارفوا-حتى يستردوا دورهم في نظام العالم الذي لم يعد يسمع للأقزام أن تبقى ذات سيادة اذ هذه شرطها الرعاية والحماية الذاتيتين والاستغناء عن الحماة.
كل بلاد العرب بل وكل أهل الإقليم ليس لهم دول بل محميات والمستعمر يخترع لهم عداوات تجعلهم يبقون جميعا آكلة لكل آكل وطعمة لكل طامع لا يستطيعون تحقيق شروط التنمية المادية والثقافية التي تتطلب حجما ليس لأي منهم شيء منه فيصبح متسولين في الرعاية وفي الحماية ممن يعيرهم فتات ما يسرقه منهم.
لن يستقر الإقليم ما لم نصبح مجموعة متعاونة ومتحدة في تحقيق شروط الرعاية والحماية بصورة تجعلها ندا للضفة الشمالية من الأبيض المتوسط على الأقل حتى يكون بوسعها تحقيق تلك الشروط فتكون بحق ندا وشريكا في نظام العالم باقتدار.