نبط الينبوع، شرط استئناف التاريخ المبدع – الفصل السابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله نبط الينبوع شرط استئناف التاريخ المبدع

تحددت الأزمة الوجودية الكونية فهل لدينا شروط المهمة؟

إذا قسنا المسلمين اليوم بالقياس إلى من يحرك هذه الآلة الجهنمية التي تستعبد الإنسانية بإلغاء الحريتين الروحية والسياسية مع الاعلاء من أيديولوجيتهما في الثقافة التنويمية لماكياج للعبودية: معاني الإنسانية ألغاها الوسطاء والأوصياء.

والاعتراض يبدو وجيها وهو اعتراض يباهي به محقرو الإسلام والمسلمين من كاريكاتور الحداثة العربية خاصة لأن المسلمين الآخرين لم تبلغ الوقاحة عندهم هذا الاستهتار الدال على خفة العقل وبلادة الذهن عند من يتوهمون أنسهم حداثيين وهم أكثر تخلفا ممن يتصورون أنفسهم يقاومون جهلهم وظلاميتهم.

ومن علامات عماء البصيرة الذي يعانون منه أمران لا يغفل عنهما عاقل:

  1. إذا كان المسلمون والإسلام ليسوا تحديا جديا للعبودية الجديدة روحيا وسياسيا أو العولمة فلماذا يحاربهم كل هؤلاء الأعداء؟

  2. فلنقس نسبة قوتنا إلى ما كان يمثل أزمة الوجود في النشأة الاولى بنسبة قوتنا اليوم إلى نظرائهم.

وحتى تكون المقارنة منصفة فلا ينبغي أن نقتصر على الحاصل بالفعل من اسباب القوة لأننا بينا سابقا أن العلاج له التفاتان من الحاضر إلى الماضي ومن الحاضر إلى المستقبل والحاضر محيط بالبداية والغاية. فيكون تقدير القوة ذا صلة بالبداية التي قد تمكن من تقدير الغاية. كذلك يحسب الأعداء قوتنا.

فاستراتييجيوهم يقولون: ماذا لو استأنف المسلمون دورهم ولهم شروط الاستئناف كلها (جغرافيا وثمرتها اي الثروة الممكنة وتاريخيا وثمرته أي التراث الممكن ومرجعيا أي الفلسفات التي ذكرت)؟

وكيف نحول دون ذلك ونحن نعلم أنه ممكن وأنه إذا حصل فسلطاننا على العالم قد يهدد؟

ذلك أن استراتيجييهم ليسوا أغبياء مثل أدعياء الحداثة عندنا الذين يعتقدون أن عسل أيديهم من الإسلام -وهم أقلية تافهة لا وزن لها بين المسلمين-يعني أن الإسلام وحضارته من الماضي ولا مستقبل لهما في تاريخ العالم في حين أنه حاليا بؤرة عالمية لتحديد شروط النظام العالمي الجديد.

فهل بالصدفة تخسر أمريكا مليارات المليارات من الدولارات لتحارب في افغانستان وفي العراق وفي الصومال وهلم جرا.. لو لم يكن استراتيجيوها يعلمون أنهم من دون السيطرة على دار الإسلام من مندناو إلى المغرب لا يمكنهم أن يبقوا قوة عالمية أولى ومن ثم فحربهم علينا دليل فهم لمنزلتنا في العالم.

وهل الاستراتيجية التي ستردعهم يمكن أن تكون غير تبينهم أن هزيمتنا مستحيلة وأنهم يمكن إن واصلوا هذه الحساب فهم سيسقطون بأسرع مما يتصورون لأننا قد لا نكون قادرين على الانتصار عليهم وهم لن يقدروا كذلك على السيطرة على جغرافيتنا وثمرتها وتاريخنا وثمرته وخاصة على مرجعيتنا الإسلام.

وطبعا فلا الصين ولا الهند ولا البرازيل وكل القوى الصاعدة ستنتظر أمريكا حتى تفرغ منا لتستفرد بثروات دار الإسلام وممراتها حتى تكون قادرة على المنافسة مع عماليق العصر القادم ومن ثم فلا مفر لاستراتيجييها من التخلص من وهم معاملة الإسلام كما فعلوا مع الشيوعية.

فهو ليس إيديولوجيا نخبة يمكن شراؤها بل هو عقيدة شعوب كلما حورب ازداد قوة وهبهم نجحوا فاغروا بعض الحمقى والمراهقين من حكام بعض العرب وخاصة في الخليج فيغيروا البرامج التعليمية. لن تكون النتيجة مهما فعلوا أفضل مما حصل في تركيا وفي تونس: كلا الشعبين ازدادوا تعلقا بالإسلام.

والأهم من ذلك كله -وهو ما يغفلون عنه-أن شباب الغرب نفسه لم يعد مقتنعا بدين العجل الذهبي لا بمادته (سلطان البنك) ولا بخواره (سلطان هوليوود) بل صاروا أميل لحياة الحرية الروحية والحرية السياسية وساعين إلى الثورة على هذين السلطانين الروحي (الإيديولوجيا) والسياسي (القوة المادية).

ولهذا التبرم الشبابي في الغرب ضد العولمة سلطان البنوك والبورصات والشركات العابرة للقارات والسلط الخفية للمافيات وللوبيات فيه كثير مما يغريهم بالثورتين الإسلاميتين: الحرية الروحية ضد الوساطة وإن تعلمنت وضد الوصاية السياسة وإن تظاهرت بالديموقراطية المزيفة لأن المال هو المحدد فيها.

ولهذه العلة فاستراتيجية الاستئناف ينبغي أن تأخذ لذلك كله في الحسبان وأن تكون رسالة كونية بقيم القرآن ليس كما آلت إليه في علوم الملة المحرفة بل كما هي قبل أن يفسدها تعطيل الدستورين وتحول الفتح الذي كان يهدف إلى تحرير البشر من عبادة العباد إلى استعمار يستبعد العباد.

ولأذكر مرة أخرى أن وزن الامم لا يقاس بالموجود فحسب بل وكذلك بالممكن لموجودها إذا طابق منشودها كيف يصبح وهو قوتها بالقوة والتي تحسب في تقدير أوزان الأمم على الأقل في الاستراتيجيات بعيدة المدى عند الشعوب التي تتنافس على العالم وعلى دورها في نظامه.

لو كان هيجل بيننا الآن أو حتى في نهاية القرن الثامن عشر لاستحى من نفسه. فالتاريخ كذبه مرتين: لمن ينته عامة وتاريخ الإسلام استؤنف بأكثر مما يتخيل من العنفوان والقوة الغربية التي تصورها سيدة العالم في نهاية التاريخ أي ليس بعدها بعد قد أفلت وخاصة الآن ونحن على عتبه نظام عالمي جديد.

لم يعد الشرق الأقصى مجالا تباع فيه المخدرات بقوة المدافع بل صار من كان يستعمره يخطب وده. ولا شيء يمنع المسلمين أن يحققوا ما حققته الصين وأكثر. كل ما في الامر هو ما نطلبه هنا: نبط المعين حتى ينسكب في العروق عنفوان الحياة التي أفسد معاني الإنسانية فيها العنفان التربوي والسياسي.

ولما كان العنفان قد نتجا عن تعطيل الدستور المعرفي (علما ومنهجا) وتعطيل الدستور السياسي (حكما وتربية) فإن الاستراتيجية صارت واضحة: وهي بدأت عفوية في ثورة شباب الأمة بجنسيه طلبا للحرية والكرامة ثم بالتدريج وبسبب غباء الثورة المضادة ستنتقل إلى الموجة الثانية فتستكمل شروط التحرير.

فعقبات التحرر تبينت نابعة من نقص التحرير: لا وجود لدولة عربية بل وإسلامية واحدة مستقلة وليس لأي منها شروط الاستقلال التي هي ليست مقصورة على إرادة النحبة الحاكمة فحسب بل هي متعلقة بما فرضه الاستعمار على أحياز كيانها من شروط تحول دون شروط السيادة.

وبذلك نصل إلى المفتاح الأساسي للاستراتيجية التي تحكم تنافس الشعوب والحضارات على شروط الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها. ومشكل المشاكل في نخبتنا بنوعيها التي تدعي التأصيل والتي تدعي التحدث سواء كانت في الحكم أو في المعارضة هو الغفلة عن هذا المفتاح الابدي.

وقوة استراتيجيي الغرب تتمثل في فهم هذا المفتاح الذي كان ولا يزال مفتاح شرطي قيام الدول: شرط القدرة على الحماية والقدرة على الرعاية الذاتية من خلال حيازة شروطها الجغرافية والتاريخية والرؤيوية أو المرجعية المؤسسة للحضارة. والجغرافية مضاعفة والتاريخية مضاعفة فتكون خمسة أحياز.

ولما كانت كل استراتيجية في هذا التنافس ذات وجهين: تعظيم أحياز الذات وتقزيم أحياز المنافس. فتفهم كيف أن أمريكا تتكون من خمسين دولة وليس ولاية كما في الترجمة العربية وأن اوروبا شرعت في محاكاتها وستسمى الولايات المتحدة الأوروبية وهلم جرا لكنه يفتتون أي دولة إسلامية لتصبح محمية.

والجغرافيا هي مصدر الثروة الحقيقية بما فيها من خامات وبما تحتله من موقع في جغرافية العالم والحركة فيه برا وبحرا وجوا. والتاريخ هو مصدر التراث الحقيقي بما فيه من مبدعات حضارية علمية وفنية وبما يحتله في تاريخ العالم والحركة فيه (انتقال التراث الإنسان بفضله) والمرجعية هي روح الجماعة.

ولا يوجد عاقل في الدنيا يمكن أن يشكك في أن ما لدى المسلمين من ذلك لا يضاهيه موجود أي حضارة أخرى فهي جغرافيا وتاريخيا ببعديهما كليهما قلب العالم مكانه وزمانه وهي أصيلة بخلاف دل حضارات الغرب ولا يماثلها في الأصالة إلا حضارات الشرق الاقصى.

خذ لك مثال أوروبا ناهيك عن امريكا التي هي من فضلات أوروبا والعالم: مادا فيها هو منها؟ لاشي كل شيء فيها بني على كذبة. لا علاقة للجرمان الغول باليونان ولا بروما لأنهم هم أهماج أوروبا الشمالية أطاحوا بروما ونحن إذن أقرب إلى اليونان منهم وتراثهم لم يصلهم إلى بفضلنا.

ولا شيء يصلهم بالمسيحية فهي ينت أرضنا ولم تصبح أوروبية إلى بسب الاستعمار الروماني وقد بينت أنه لا علاقة بالأوروبيين الحاليين. ومن فأقدم تاريخ روحي (الاديان) وحضاري (العلوم والفلسفة) من الشرق الذي صار إسلاميا ولم يقطع مع ماضي الإقليم إلى بثورته التي هي تحرير لتجاوز أزمته.

وختاما فإن المرجعية القرآنية هي المرجعية الدينية التوحيدية في تاريخ الاديان الإنسانية سواء كانت طبيعية أو منزلة التي تعتبر نفسها موجهة إلى الإنسانية كلها. فاليهودي لشعب واحد أو لنقل لقبيلة واحدة والمسيحية تتمة لها ولم تصبح عالمية إلا بعد إصلاح بولس في رسائله لغير اليهود.

واديان الشرق الاقصى الطبيعية ليست كونية بل هي خاصة بشعوبها وتعتبر بالأحرى اجتهادا إنسانية هدفها الاساسي سياسي والروحي فيها تابع للسياسي والدنيوي. وإذن فدور المسلمين بات مطلوبا كونيا سواء طلبوه هم أو تخلوا عنه. الإنسانية لن تتحرر من العولمة إلا بفضل الإسلام أو ما يشبهه.

الحاجة موجودة والمكان خال ممن يشغله وهو إذن ينادي المسلمين لكي يشهدوا على العالمين. لكن ذلك لن يتاح لهم من دون أن ينبطوا الينبوع فيعيدوا للإسلام نظارته التي تتثمل في ثورتيه الروحية والسياسية. وهو ما لا يمكن أن يتحقق بلعوم الملة المحرفة ولا بأعمالها في عصر الانحطاط: ثورة الاستئناف.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي