نبط الينبوع، شرط استئناف التاريخ المبدع – الفصل الأول

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله نبط الينبوع شرط استئناف التاريخ المبدع

معضلة المعضلات التي جعلت التشيع ينكص للوساطة والوصاية رسميا ويجعلهما مقومي الدين والتسنن ينكص إليهما خفية في الأفعال ويواصل القول بنفيهما في الأقوال لا يمكن تفسيرها بمجرد إرادة النكوص لكأن أصحابها-وإن كان ذلك ممكن وموجود-شياطين أرادوا استمداد سلطة بتحريف الإسلام. بل ينبغي أن نعترف بأن الأمر موضوعيا حقا وأن الاستغناء عن الوساطة الروحية والوصاية السياسية ليست بالأمر الهين وهو غير ممكن من دون بديل شديد التعقيد لم يكن بالوسع تحقيقه من البداية رغم أن السنة تنسب الاستغناء عنه للخلفاء الراشدين والشيعة تعتبر ذلك كفرا بما تنسبه لآل البيت. وأكثر من هذا فالسنة لا تنسبه إلى الخلفاء الراشدين بمن فيهم الخليفة الرابع بل هي تصف ذلك بكونه سلوكا فيه إشارة إلى معنى الاستغناء عن الوساطة والوصاية وهو بالأساس ما اعتمد في التواصل بين المتفرغين للمعرفة والمكلفين بالسياسة بالتواصل الدائم مع الجماعة باعتبار الأمر والنهي فرض عين. وإذن فهم قد كانوا وإن بصورة لم تصل إلى مستوى التنظير الصريح والتحول إلى مؤسسة كانوا يعلمون طبيعة البديلين ما هما. لكن ما أسميه وساطة ووصاية ليس في وجود من يختص في المعرفة ومن يكلف بالسياسة بل عدم التمييز بين ضرورة تقسيم العمل فيهما وبين اعتبار ذلك كافيا لإلغاء فرض العين فيهما. فمعرفة القانون لا تجعل صاحبها سلطة سياسية ومعرفة النصوص الدينية لا تجعل صاحبها سلطة روحية وهما لا تغنيان اي مواطن عن معرفة الضروري من القانون في حياته السياسية والمدنية والمؤمن عن معرفة الضروري من الدين في حياته الروحية والدنيوية. وهنا نفهم البديل ما هو. البديل ليس نفي التخصص في القانون والتخصص في معرفة المرجعية الروحية للجماعة بوصفهما جزءا من تقسيم العمل في الجماعة بل هي تنفي أن يصبح هذان التخصصان مصدرا لسلطة سياسية وروحية تلغي واجب المواطن السياسي وواجب المؤمن الروحي: كونه ذاتا فاعلية بذاتها فيهما معا وليس منفعلا بهما. ولهذه العلة اعتبرت الوجه الموجب هو الحرية الروحية والحرية السياسية أما الوجه السالب فهو التحرير من هذين الدورين للوسيط والوصي اللذين يلغيان واجب المواطن والمؤمن في أن يكون ذاتا سياسية وذاتا معرفية لا تقتصر على الروحي كمعرفة نصية بل به شرطا في العلاقتين العمودية والافقية. وبعبارة ذات دلالة يفهمها الجميع: تحرير الإنسان من سلطة الوساطة الروحية ومن سلطة الوصاية السياسية تلغيان “ايبسو فاكتو” عبارة الكريهة بين الخاصة والعامة وبين الرسوخ في العلم المزعوم رسوخا فيما يتجاوز المعرفة بعالم الشهادة والاحاطة بما يعتبر القرآن تأويله مقصورا على الله. فيكون أصل المعضلة كله هو دعوى البعض أنهم قادرون على معرفة الغيب بقيسه عالم الشهادة. ولهذا الوهم مصدران: أحدهما يزعم الكشف والعلم اللدني والثاني يزعم المعرفة العقلية مطابقة لحقيقة الشيء على ما هو عليه. لذلك ورغم خصامهما عامة فإنهما يجتمعان في كل رؤية كل باطني حتى وإن قدم اللدنية. وأعتقد أن أول من تفطن لهذا الاجتماع عند الباطنية والتعليمية هو حجة الإسلام في كتابه فضائح الباطنية عندما بين ان المقدمات التي تنبني عليها الرؤية الباطنية للقرآن وخاصة نظرية التأويل التي لم أر أحدا فضحها مثله واحدة في دعوى العلم اللدني والعقلي إذ يزعمان العلم المحيط بالغيب. ومن يدرك هذه الفطنة الغزالية يفهم علة اعتباري إياه مؤسس الخطوة الأولى لتجاوز الفلسفة القديمة ونظرية المعرفة المطابقة بمفهومه الثوري الذي سماه “طور ما وراء العقل” حتى وإن عاد لاحقا وكأنه نسي ما بينه في الفظائع فاعتبره -ربما-لم يقله صراحة أنه الكشف الصوفي. فنفهم حينئذ لماذا صار الغزالي سينويا إذ كما بين ابن خلدون فابن سينا كأنه لم ينس تكوينه الباطني في شبابه عندما قال قولته الشهيرة في الحاجة إلى ما يشبه القطب أو النبوة شرطا في وجود التشريع وهي قولة دحضها ابن خلدون في المقدمة بالعقل والتجربة التاريخية. ومن يقرا كتاب الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد دون أن يكون له نباهة الغزالي هذه يظن الكتاب نصرة للسنة السلفية ضد الأشعرية. لكنه في الحقيقة كما بين ذلك ابن تيمية لاحقا وله ما للغزالي من النباهة وأكثر فيه علامتا التطابق بين دعويي اللدنية والعقلية والعلم المحيط: إنه إلجام العوام. فاستنتج ابن تيمية منه أنه ينفي أن يوحد غيب محجوب على الفلاسفة -بل هو ذهب في كلامه على كلام الله أن الفلاسفة مثل الرسل ينفث الله في روعهم وحيا يقولونه عقليا-وأنه من ثم يعتبر الخاتم لم يبلغ الحقيقة بل أخفى على العامة ما ينصح الفلاسفة بإخفائه ويتهم المتكلمين بالتشغيب على الشرع. وبهذا المعنى فالرشديون العرب الجدد -مثلهم مثل المعتزلة العرب الجدد-متخلفون حتى بالقياس إلى الغزالي لأنهم أولا يعتقدون أنهما يمثلان العقلانية وأن علمهم علم بالأشياء على ما هي عليه وأن معارضيهم ضلامويون وأنهم هم أي الرشديين والمعتزلة الجدد تنويريون مثل ابن رشد والمعتزلة. ويتوهمون أن هذا الموقف الأيديولوجي تفلسفا ثم يصطف معه الحداثي الماركسي الذي يدعي المقابلة بين النص والواقع ويحاول الولوج إلى الواقع من دون كل التراث الذي يتوهمه نصوصا وليست مناظير لما يسميه الواقع الذي لا يدركه على ما هو عليه أحد إلا الله إن آمن به. والاعجب في ذلك كله أن هؤلاء يعتبرون أنفسهم خاصة وأن غيرهم عامة وأنهم سلطة علمية وأن فكرهم هذا يمكن أن يكون مخرجا من التخلف في حين أن سر كل تخلف هو هذه السذاجة الفلسفية التي تعتبر الواقع هو ما تؤسس عليه المادية الجدلية رؤيتها ولا يرون أنها رؤية وليس واقعا. وقد ربيت أجيال وأجيال بهذه الرؤى الساذجة التي تصورت الفلسفة والفكر اللذين يتجاوزان المباشر من الأمور التي لا فائدة منها وأن الارتماء المباشر في العمل بما هو جاهز من الايديولوجيات والتبسيط الصحفي تنويرا وتحديثا مغنيين عن أعماق العلاقتين العمودية مع الطبيعة والافقية مع التاريخ. وليس للفكر والعقل والتنوير والإبداع وهلم جرا من حقيقة ثابتة غير التي تمثل عصر الغوص في هذين العلاقتين غوصا يترجم في استرماز هو بالقياس إلى ما يسمى عقلا وفكرا مثل الماء بالنسبة إلى الحياة البحرية. فإذا كان ماء الفكر بركة آسنة فالحصيلة هي ما نرى من نكوص إلى بسيط الايديولوجيات. ولهذه العلة فلا فرق عندي بين نوعي الكاريكاتور الذي يدعي التأصيل والذي يدعي التحديث لأن الخلط بين الإسلام ومآله في عصر الانحطاط والخلط بين الحداثة ومآلها في عصر الاستعمار لا يختلفان في شيء: كلاهما يخلط بين ما يتكلم باسمه وقشوره التي يظنها مغنية عن استنطاق بذوره. ولذلك فعندما تسمعهم يتكلمون على الاحتكام للواقع تدرك أنهم من حيث لا يعلمون يعترفون بأنهم غارقون في القشور إلى الأذقان: فالواقع عندهم هو الامر الواقع الذي هو ظاهر الموجود فيعودون منه على أنه حقيقة الموجود ويجعلونه عين المنشود فتقلب العلاقة ويصبح الحاصل هو الواجب: منطق التقليد. كلاهما سلفي بالمعنى المقيت. فالسلف عندهم فقد دلالة الريادة بالإبداع. إنه السابق بمعنى المتقدم في الزمان الذي ينبغي محاكاته لتقدمه فيه. لكن التقدم بمعنى الريادة هو التقدم في نظام الامر نفسه من حيث صلته المباشرة بالبذور وما فيها من إبداع خلاق. والاستوحاء للإبداع وليس للتقليد. ومن ثم فسؤال البذور يشبه ما يسميه الغزالي إزالة الرمال عن المنبع حتى يفتح مجرى الماء من الينبوع وليس الاندفان في الرمال التي توقف السيل وتغرق في الجمود: قشور الاصالة وقشور الحداثة. تلك هي المعركة التي تدور بين الكاريكاتورين والتي لا يمكن الاستئناف من دون تشخيصها مرضا يعالج. والعلاج الذي يسكن الأعراض ليس علاجا وإن كان ربما ضروريا في مرحلة البحث عن التشخيص لمعرفة علل الداء والشروع في بيان طبيعة المرض وكيفية فشوه في بدن الحضارة وتعطيل ما به يحقق الإنسان وظيفتيه مستعمرا في الارض ومستخلفا أعني ما يعطل قدرته على علاج العلاقتين. ولا يمكن القيام بذلك من دون وضع نظريات تحدد مسار التعليل أو مسارب الفشو المرضي في جسم الكيان الحضاري للجماعة. وأعتقد أني قد تقدمت في ذلك وعلي الآن أن أبين كيف يتم التحرر من العطالة التي حالت دون المسلمين وعلاج العلاقتين العمودية والأفقية للحماية والرعاية الذاتيين مقومي السيادة.

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي