موقف الوريمي موقف شجاع. فما دلالته الخلقية والقانونية؟

**** موقف الوريمي موقف شجاع فما دلالته الخلقية والقانونية؟

سأنطلق من الجـدل الدائر حول موقف العجمي الوريمي من تنفيذ الحكم في قضية برهان بسيس لأبحث في دعواي أن القضاء ليس سلطة بالمعنى الذي يقال عن السلطتين التشريعية والتنفيذية لكونه دائما تابعا للأولى من حيث كونه ليس منبع التشريع وللثانية من حيث هو ليس مصبه في التنفيذ. ما أن يسيس يفقد حتى دور الحكم.

قد أفهم موقف العجمي إذا كان القصد تنديدا ضمنيا بالتسييس بمعنى أن التنفيذ لم يكن من أجل العدل بل من أجل انتقام طرف في سلطة التنفيذ. ولا يعني ذلك أن بسيس ليس مذنبا. ولكن ذنبه لو كان حقا هو علة الحكم أولا وعلى التنفيذ ثانيا وعلة التوقيت ثالثا لكان معه الآلاف من جنسه بسبب الحصول على أجر مقابل عمل وهمي.

ولست أدافع عن العجمي رغم أنه سبق أن تتلمذ علي وأنه من الأفاضل وأهل لأن نبحث عن دوافعه في موقف يتطلب الكثير من الشجاعة للدفاع عن خصم في وضع “البقرة التي إذا سقطط كثرت سكاكينها”. ولو لم يسبق إلى ذلك لانتهزت الفرصة لأذكر بأني طالبت من البداية بقلب الصفحة والالتفات إلى المستقبل.

ذلك أني واثق أننا لو أردنا حقا أن نحقق العدل لوجب سجن أكثر من نصف من لا يزالون يصولون ويجولون ولكان ذلك مستحيلا ولأدى إلى حرب أهلية. وما كانت “اذهبوا فأنتم الطلقاء” تصدر عن أكبر حكيم عرفه تاريخ أمتنا لولا علمه بذلك. لكني لا أريد اليوم أن أبحث في هذا الأمر فقد فات أوانه.

ما أريد الكلام فيه هو تحديد طبيعة “السلطة”القضائية وأنها ليست من جنس السلطتين الأخريين لأنها عديمة السلطان التشريعي إلا بمعنى السوابق الحكمية وهو نوع من التشريع الاجتهادي بالتأويل وليس سلطة تشريعية بحق وعديم السلطة التنفيذية لأن النظام الامني العام مقدم على سلطة أحكام القضاء في كل سياسة وهي طريقة يلجأ إليها الساسة بحسب تقدير لمعطيات الظرفيات السياسية.

فالتشريع الاجتهادي بالتأويل الذي يؤسس السوابق الحكمية في القضاء ليس واجب التطبيق على القضاء الموالي بل يمكن للقاضي أن يرى خلافه ولا يطبقه حتى لو احتج به أحد المحامين في المرافعات في حين أن القاضي ملزم بتطبيق القانون ساري المفعول. والقضاء لا يستطيع رفض حجة النظام الامني العام حتى لو كان مقتنعا بأنها غير مبررة فعليا.

وهذا يوجب تعديلا آخر في في فهم ترتيب السلطتين الاخريين. فالسائد في التصور العام أن السلطة التشريعية مقدمة على السلطة التنفيذية. وهذا أيضا غير صحيح. وذلك لعلتين. الأولى أن الأغلبية المشرعة في أي نظام ديموقراطي تكون في خدمة القوة السياسية التي أوصلتها لتمثيل إرادة الشعب بالتشريع.

وهذا التمثيل يعطيها نوعين من التدخل في التشريع الموجود ببدائل لتشريع يعدله بما لها من الأغلبية إما إيجابا بإضافة ما تحتاج إليه لتحقيق البرنامج الذي انتخبت على أساسه أو سلبا بحذف ما يعارضه أو تحويره بصورة تمكن من تنفيذ برنامج القوة السياسية التي نالت الأغلبية.

فيكون التشريع بذلك تابعا للتنفيذ وليس العكس. فالقوة السياسية التي نالت الأغلبية قدمت برنامج سياسي نالت بناء عليه حق تمثيل إرادة الجماعة-تسليما بسلامة الانتخابات في حدود الممكن فعليا- دون أن تنفي حق المعارضة في التصدي لهذه الإرادة لكنها خلال مدة النيابة لا تستطيع منعها من التشريع لما يحقق برنامجها فتستخدم التنفيذية التشريعية.

ثم إن السلطة التنفيذية هي الوحيدة التي لها الحق في تقدير ما يتطلبه النظام الأمني العام فتعطل تنفيذ الأحكام القضائية التي قد تؤدي إلى مس به. ولعل مفهوم “مصلحة الدولة-Raison d’Etat” هو الحد الأقصى في هذا المعنى. وطبعا قد يستعمل هذا الحق التقديري استعمل الحق الذي يراد به الباطل.

مشكلتان إذن: 1-اعتبار القضاء سلطة ليس صحيحا أصلا إذا قصد بالسلطة ما يقصد في الكلام على السلطتين الاخريين اللتين هما فعلا سلطتان سياستان. 2-اعتبار التشريعية مقدمة على التنفيذية تشريف لكنه ليس تعريفا. فالذي يقود التشريعية هو التنفيذية وليس العكس. وإذن فالتشريع يتبع التنفيذ.

ذلك أنه من أدواته. وطبعا التنفيذ يتبعه بعد أن يضعه.فيكون التشريع سلطة على التنفيذ بمعنى أنه بنحو ما سلطانه على نفسه وله القدرة على تغيير سلطانه إذا كان من وضع من تقدم عليه من السلط التنفيذية واسبتداله ليتمكن من تنفيذ برنامجه.وحتى الدساتيرفهي ليست مستثناة حتى وإن قل المساس بها.

وقلة المساس بالدساتير علته إجرائية وليس مبدئية ومضمونية. فالاجراءات المتعلقة بالتغيير الدستوري أكثر تشددا من الاجراءات المتلعقة بالتغيير القانوني العادي. لكن يمكن للأغلبية إذا كانت كبيرة وكان لها دوافع مقنعة أن تلجأ إلى الاستفتاء إن كان من ضمن الاجراءات لتعديله رغم المعارضة.

فكيف يمكن تعريف سلطة القضاء الآن إذا كانت ليست سلطة بالمعنى الذي يطبق على التشريعية والتنفيذية؟ إنها من جنس سلطة لجان الامتحان في التربية: سلطة تقييم العمل سواء كان علميا في حالة لجان الامتحان أو مدنيا وجزائيا في القضاء بتطبيق معاييرالعلم في الاولى ومعايير القانون في الثانية.

فتكون سلطة التشريع قبل وسلطة التنفيذ بعد الحكم القضائي من جنس سلطة الاختصاص الذي يمتحن فيه الطالب وسلطة من سيستعمل الخريج بعد الامتحان مجازاة موجبة أو سالبة له على ثمرة عمله أو ما حصله. ولذلك تكلمت على سلطتي الانتخاب: المعرفي (لجنة الامتحان) والتطبيقي (لجنة الانتداب).

ومثلما أن القاضي لا سلطان له على المنبع (التشريع) ولا على المصب (التنفيذ) فذلك الممتحن في الجامعة مثلا لا سلطان له على المبنع (قواعد الفن) ولا على المصب (الانتداب بمقتضى جزاء للتحصيل). كلاهما سلطة تقدير معرفية وظيفتها تطبيق أحكام كلية بين المنبع والمصب على حالات عينية.

لكن هذه السلطة التقديرية التي لا سلطان لها على المنبع ولا على المصب يمكن أن تصبح ذات سلطان عندما تسيس إما من الممتحن والقاضي نفسيهما أو ممن يستعملهما أداة وغالبا ما يكون ذلك صادرا عن السلطة التنفيذية. ولذلك فالكلام على استقلال القضاء له بعدان: قانوني وخلقي والأول أيسر من الثاني.

فحتى لو توفر القانوني فإن الخلقي يمكن أن يلغي مفعوله لأن اخلاق القاضي هي التي تسهل العدوان على القانون في كل الحالات سواء وجدت شروط الاستقلال القانونية أو لم توجد. وهذا يصح على الممتحن والقاضي في آن. وهنا سأتكلم على الممتحن.وفقد يكون من أهم أسباب التخلف في بلاد العرب والمسلمين.

وما سأقوله على سلطة انتخاب التحصيل في التكوين وسلطة الانتخاب الاستثمار في التوظيف سواء في اجهزة الدولة أو في القطاع الخاص يصدق كذلك على القضاء حتى وإن كان مقصورا على النزاعات ولا يشمل كل الحياة مثل الانتخاب التكويني والتوظيفي في تنشئة الأجيال المتوالية في الجماعة.

والقضاء تابع للانتخاب لأن القضاة يمرون بالتكوين وبالانتداب. وإذن فهم خاضعون للانتخابين اللذين يحددان التحصيل الفني والتربية الخلقية اللذين يتجليان في العمل الذي سيقومون به والذي من وظيفة الانتخاب الثاني في الاستعمال أن يأخذه بعين الاعتبار لثيبت عامل الكفاءة والخلق في القاضي.

وأكاد أجزم أني ما تعاملت مع قاض -وهي حالات قليلة-إلا ووجدت ثغرات مهولة في الكفاءة والخلق مرعبة وهي لعمري ليست مسؤولية الأفراد بل مسؤولية ما حل بالانتخابين من أمراض سأحاول وصفها لعل ذلك يكون دليلا لبداية العلاج الذي إذا لم نسارع به فالبلاد ذاهبة إلى المزيد من الانحطاط والفوضى.

ولأتكلم على الانتخاب الأول الذي شاركت فيه بصفتي أستاذا في الثانوي لمدة ثماني سنوات وفي العالي بقية حياتي المهنية. فقد مر الانتخاب بمرحلتين عشت أولاهما قبل ذهابي إلى فرنسا للدراسة والثانية بعد أن عدت. في المرحلة الاولى كانت لجنة الباكالوريا هي التي تحدد النتائج وتعلنها.

وأذكر أن أبناء الوزراء كانوا يفشلون في الامتحان فلا ينجحون ويضطرون للذهاب إلى الجزائر للحصول على الباكالوريا التي كانت امتحاناتها أيسر. ولما عدت وجدت أن أي مسؤول ابنه ينجح حتى لو كان حمارا. أما نتائج الجامعة فقد اصبحت بالتدريج خاضعة لمعيارين هما علة ما تعاني منه تونس اليوم.

المعيار الأول يميز بين الذكور والإناث وهو جنسي وجمالي. والمعيار الثاني يميز بين من يتبع إيديولوجية المافية المسيطرة على الجامعة ومن تعارضه هذه الايديولوجية. ولهذه العلة سيطرت الظاهرتان اللتان نراهما في المجال العام وخاصة في “الافكار” وايديولوجيات الموضات الفلكلورية للحداثة.

فما يسمى بالحداثيين قلما حصلوا شيئا في أي تكوين: فنجاحهم كان مضمونا لمجرد أنهم كانوا منشغلين بالتهريج الإيديولوجي طيلة فترة التحصيل ولا تتجاوز قراءاتهم الأدبيات العامية للإيديولوجيا التي ينتسب إليها مكونوهم ومحرضوهم على التهريج حتى إن بعضهم كان يكتفي بدرسين ويحرضهم على الاضراب.

فإذا أتينا إلى الانتخاب الثاني أي التوظيف بحسب المؤهلات التقنية والخلقية فحدث ولا حرج. لما أصبح التوظيف بالوساطة وخاصة بالوساطة السياسية والنقابية فإن النتيجة هي ما ترى في كل المؤسسات. كلها غارقة في “لا عمل” وأجور هي من جنس الأجر الذي عوقب عليه بسيس.

بل وأدهى لأن بسيس دون حكم خلقي على عمله لم يكن ناقصا من حيث الكفاءة. لكن غيره وهم بالآلاف ليسوا ناقصين خلقيا فحسب بل وكذلك تقنيا. ولهذه العلة فإن الداء الذي يعاقب عليه بسيس ولست مطلعا على ملفه عام وهو مضاعف لأنه لا يقتصر على تقييم خلقي لامتحان الأعلام بل فني في أي مجال كان.

ولو طبقنا المعيارالخلقي على الإعلام في تونس لبقي أقل من القليل خارج السجن. ولهذه العلة فإني أفهم ما يجري حول قضية بسيس ليس لذاته بل لأن الأمر فيه نكأ لجرح عميق في ضمير النخبة التونسية إن صح أن لها ضمير بدأ يتحرك بمفعول الكلام في موقف أحد ضحايا العهد السابق فيه له فضيلة الشجاعة.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي