ه
موقفي من سعيد
ما دعاني لكتابة هذا النص علته أن ما يحيرني أكثر ليس سعيد ومن معه ولا حماسة الشباب التي هي معقولة ومقبولة في مجتمع جل شبابه عاطل عن العمل ومضطر للانتحار إما بالارتماء في البحر في ميله لجنة الدنيا أو بالارتماء في توظيف الجهاد المحرف في ميله لجنة الآخرة. ما يحيرني حقا هو تردي ردود المدافعين عنه ممن يسمون أنفسهم مفكرين وكنت اظنهم يفكرون. فقد تبين أن جلهم لا يختلفون عن الكرونيكورات الذين يعيبون عليهم ثقافة الإعلام كما عهدناه في مدرسة ابن علي: اعتبار الدفاع عن المواقف بديلا من بيان الرؤى التي تتأسس عليها.
وطبعا فلست غافلا عن كون الموقف القضوي في المنطق وراءه الموقف العقدي للرؤية المعرفية وهي إذن جزء مما يشوب نظرية المعرفة بالذاتية فيؤثر في مضمون القضية العلمي. لكن لو غالينا فرددنا هذا إلى ذاك لاستحال أن نميز بين الالتزام بشروط المعرفة العلمية وبشروط الخيارات الثقافية السياسية للإنسان من حيث هو منتسب إلى حزب معين. وأعلم أن ما يغلب على المفكرين العرب حاليا هو قراءة تاريخ الفكر من منطلق الموقف القضوي وليس من منطلق المضمون القضوي. فهم مثلا يرجعون علم الكلام كله إلى مواقف المتكلمين المذهبية -ولها تأثير لا شك في ذلك- ولا يرون أن علمهم فيه على الأقل منهجيا محاولة لتجاوز ذلك إلى ما يساعد على الولوج إلى الحقيقة قدر مستطاع العقل الإنساني.
أصل الآن -بعد هذا التمهيد القصير- لإثبات أن ما يحدث حاليا ليس بدعا بل هو من عادات الفكر في حضارتنا التي ما تزال تسعى إلى التحرر من الخلط بين الامور بسبب الأرضية الرخوة للانتقال من ثقافة القشور إلى ثقافة الالباب. أصل إلى موقفي من سعيد وعلل توجسي من برنامجه المعلن وليس الخفي الذي استنتجه منه إلا إذا كان البرنامج مجرد أقوال ليس له استراتيجية تحقيقه بالأفعال. وهما من أبسط الامور فهما:
- لا أحد يمكن أن يدعي أن سعيد كان معارضا قبل ثورة الربيع. وإذن فدوره السياسي الذي يظهره دور جديد. هل معنى ذلك أنه كان سياسيا مطلق الحياد “نوتر” قبل الثورة أم إن الحياد في هذه الحالة كان على الاقل رؤية تعتبر ما كان يفعله ابن علي يمكن السكوت عليه حتى لو سلمنا أن هذا السكوت لم يكن ثمرة لمقابل ما؟
- لا أحد يمكن أن يدعي أن سعيد كان ذا مشروع يمكن أن يعتبر ثمرة لبحث علمي سابق إذ هو لم يكتب رسالة دكتورا ولم ينشر بحوثا علمية في اختصاصه على حد علمي. هل معنى ذلك أن الرجل كان ذا مشروع سياسي في “الراس وليس في الكراس” أم إن الوحي نزل عليه بعد الثورة؟
وقد يناقشني في المسألة الثانية من يجهل أني دارس للقانون عند كبار المختصين في أعرق جامعة في القانون: جامعة أساس في باريس. يكفي أن يعلم أني درسته عند أحد عمالقة القانون العام أعني جورج فودال. لكن ليس هذا محل الخلاف بل محله أن الرجل لم يكمل أدلة الجدارة باسم المختص وهي نوعان: - الرسالة التي لا تثبت الإبداع بل تثبت الحصول على الانتساب الرسمي لأهل الاختصاص.
- والبحث العلمي بعدها أو قبلها لا يهم وهو على الأقل في نظام البي ايتش دي ما يؤكد العلامة الأولى. لكن العلامتين غائبتان. فهل هما أيضا موجودان في الراس وليس في الكراس؟
لذلك ولأني لا اومن بعلم في الراس لانتقل إلى الكراس أستنتج أولا أن سمعة الرجل العلمية ليس عليها دليل لئلا أقول إنها كذبة صنعت بعد أن اصبح للرجل صيت مصطنع من قوة ما تحتاج إليه غطاء لفعل يتربص بثورة تونس بدليل شهادة في الصيت من أكبر مزوري القانون في تونس ليس حبا في الحقيقة بل لغاية في نفس يعقوب.
وثاني نتيجة استنتجها هي أن من يأتي إلى الثورة بعد أن يشيخ -ليس بالمعنى التونسي- يمكن أن يعتبر قد تاب من حياد سابق لكن ذلك يكون في النظر وليس في العمل. أما في العمل المباشر فأمر قلما يصدقه من يعلم العلاقة بين السن والرؤى التي من هذا الجنس اللهم إلا إذا قلنا إن الرجل نكص إلى أحلام الشباب بمعنى أنه وصل إلى أرذل العمر فصار يحلم بما كان ربما يتمناه لما كان شابا. وما أظنه على الاقل عضويا.
والنتيجة الثانية تتعلق بأمر يعسر اثباته لأنه يتجاوز الظاهر إلى السرائر التي لا يعلمها إلا الله. لذلك فسأكتفي بالظاهر وما يمكن أن يترتب عليه والله يتولى السرائر. والظاهر أن الرجل مستقيم الخلق متدين بل وفاضل إذا قسناه بنظرائه من الجامعيين في تونس وهو أمر لا أجهله خاصة إذا تكلم على المحاصرة التي اشار إليها لكنها لم تحل دوني ومحاولة الخروج من أحابيلها. وشهادة الكثير من طلبته في أخلاقه وعدله لا يوجد داع للقدح فيها رغم أنها لم تظهر إلا بعد أن صار فيه “مطموع”. وهو أمر يدعو إلى التساؤل.
لكن إذا سلمنا بكل ذلك واعتبرنا الرجل فاضلا فهل يمكن أن يكون جاهلا بأن أجره مثلا ثلثه فقط يقابل التدريس والثلثان الآخران يقابلان البحث العلمي والتأطير الأكاديمي للباحثين من الطلبة؟ وبما أنه كان مساعدا فهو لا يحق له التأطير. ولما كان لم ينه الرسالة ولم يكتب بحوثا علمية منشورة في مجلات محكمة أو في كتب معتبرة مراجعة فهل يحق له أن يحصل على الثلثين من دون العمل الذي يجعله مستحقا لهما عن جدارة؟
صحيح أن هذا المعيار غير معمول به في الجامعة التونسية لان الثلثين صارا شبه عنصر من الأجر العادي لأن الكثير من الأساتذة حتى لو كانوا ممن أتم الرسالة لم يقوموا بالبحث العلمي ومع ذلك يحصلون على المقابل المادي بحجة أن الدولة تحيلت فلم تسم هذين الثلثين زيادة في الاجر بل تشجيعا للبحث لتجنب التنافس بين الموظفين على الزيادات. كل ذلك أفهمه. لكنه لا ينطبق عمن يقدمونه وكأنه “متصوف” يبحث عن التطبيق الصارم “للقانون” وطبعا للأخلاق. فكيف سمح له ضميره القانوني والخلقي أن يحصل على ثلثي أجره دون القيام بالعمل الواجب ليكون ذلك شرعيا؟
أما علل التوجس فهي عامة ليست خاصة به وتتعلق بحصول مفاجأة في ما لا يمكن أن يحصل فجأة من دون سر ما. ولها مصدران:
• الأول حديث ومثاله نجاح ترومب في أمريكا. كلنا يعلم أن الامريكان خصصوا الكثير لحل اللغز وتبين أن التقدم في استعمال فنيات التزييف عند الروس كان حاسما في إسقاط منافسته وإنجاحه.
• والثاني قديم ومثاله استرداد إيران ما تسميه امبراطوريتها في الهلال وفي اليمن والاعلان عن السيطرة على أربع عواصم عربية وكلنا يعلم من يحكم العراق وسوريا ولبنان واليمن وبماذا أعني بالمليشيات بصنفيها أي مليشيا القلم وقد سمعنا بعض أذيالها في تونس باسم المقاومة ومليشيا السيف وهي التي تستعد لكي تفرض تحقيق الرنامج الذي أعلنوا عنه بالقول إنهم سيغزون نظام تونس السياسي.
ولا يوجد عاقل يصدق أن هذا التغيير سيكون بفرمانات قانونية بل لا بد له من قوة فاعلة على الأرض تشبه الحشد الشعبي وأحزاب الله التي يقودها سليماني بأوامر علية من دولة الملالي فاخر بها أحد أذيالهم في تونس- سماني أبا معروف وهو صادق لأني فعلا معروف ولست نكره مثله إذ سبقه غيره فسماني أبا يرعب وهو صادق كذلك لأني فعلا أرعب الاذيال ولست مرعوبا مثله- واعتبر ذلك دليلا على أن إيران قوة عظمى. وما سعى إلى القذافي طيلة أربعين سنة أنهى بها الاخضر واليابس في ليبيا يريد سعيد ومن يستعملونه تحقيقه في تونس لجعلها يبابا بسرعة لأن مستعمليه صارت لهم خبرة تهديم الدول وتعويضها بالمليشيات التي هي أذرع دولة الباطنية. فلا تنسوا أن القذافي في الأخير أعلن أنه تابع للدولة الفاطمية التي هي واحدة من دول الباطنية القديمة. وجماعتنا في تونس ينتسبون إلى الباطنية الحديثة التي نراها تحتل بلاد العرب الواحدة بعد الاخرى.
وأخيرا فما أكتبه ليس ردا على من هم من جنس منصر الهذيلي الذي هرب من المناظرة التي اقترحها أحد الشاهدين على صحة ما قال في مقاله لهجائي مستعملا الحديث الخاص ومتجاهلا أنه بالأمانات -للدفاع عن الملالي بل هو خطاب موجه لذوي العقول ممن لا يشترون بمال قارون وليس بليلة في فندق بلبنان أو بزيارة لطهران. فهذه أمور جربت معي ولم تنجح. وعندي فرق كبير بين مساندة أي بلد عربي يقاوم الباطنية وهو أمر اعتز به بل واعتبره واجبا قوميا ودينيا وإنسانيا وبين مساندة المافيات الباطنية التي هي ليست بنت اليوم وخاصة بالنسبة إلينا في تونس: فأكبر دولها نشأت عندنا وكانت الحليف والظهير للحملات الصليبية تماما كما كانت الصفوية حليفا للبرتغاليين في حروب الاسترداد لكن أذيال إيران في تونس أجهل من احذيتهم وأعني صاحب الرد وشهود الزور معه ممن يزعم أن الفلاسفة لا يفهمون السياسة لظنه ان التلحيس كياسة.