1-لا بد أنكم لاحظتم أني مؤخرا صرت أتابع تطور المناخ الفكري في دار الإسلام عامة والوطن العربي خاصة -وكنت قبلها لا أكاد اخرج من الفلسفة وتاريخها- ولكن بصورة أخص في الخليج العربي. وسبق أن عللت لم أفعل.
2-فعندي أن الخليج يعيش التاريخ العربي الاستعماري الحديث بصورة شديدة السرعة بحيث إن عقوده الستة الأخيرة = قرنين من تاريخ العرب الآخرين.
3-وما يعنيني من هذا التسارع في طي مراحل النضوج الحداثي بالتأثر الغربي وخاصة بين الشباب بجنسيه هو ما يساعد على فهم الظرفية العربية وأزماتها.
4-وما يعنيني اليوم يتعلق بالكلام على أول مرة وقع فيها اتصال بيني و بين الخليج وكانت على يد النقيدان لما طلب مني رأيي في أحد مزيفي القرآن.
5-وإذا لم تخني الذاكرة فقد كان ذلك في الأعداد الأولى من جريدة الوطن. لماذا اخترت هذا المثال؟ أولا لأنه أول لقاء مع الخليج وثانيا لما يلي مما هو أعمق.
6-ظللت اتابع النقيدان لأني توسمت فيه الذكاء والنباهة والحس الصوفي والوجداني العميق. وقرأت له مؤخرا ما يفيد أنه بدأ يميل إلى عتيق الموضة (ككل الشباب الزارب -بالتونسي- أي المتسرع).
7-لذلك فرغم اعجابي ببعض ما يكتب فإن تعليقي لا يقصده هو بالذات بل عتيق الموضة ولها صلة بموقفي من حسنين هيكل: تفسير السلوك الديني بالدنيا.
8-ما أساس كلامي؟ فلأقل إن تفسير الأعلى بالأدنى بلغ ذروته عند نيتشه لكن شرطه كان نفي وجود الأعلى أو نفي نظرية أفلاطون وشكلها الشعبي أي المسيحية.
9-وقبله ماركس قالب نظرية هيجل من سير العالم على رأسه إلى استوائه على رجليه. وبينهما تحليل فرويد ردا للأعلى إلى الأدنى أي الجنسي.
10-إذا جمعت وجدت أن عتيق الموضة هو: عضوانية نيتشه واقتصادية ماركس وجنسية فرويد أي إن كل ما هو بدني من الإنسان هو الأساس.ولا بأس من ذلك.
11-البأس هو في تناقض الثلاثة: هل يمكن أن يكون نيتشه محقا؟ فلم إذن يميز بين الحقيقة والكذب الناجح؟وهل يمكن أن يكون ماركس محقا؟ فلم يثور؟
12-لوصح قول فرويد على اللاوعي والجنس فكيف لا يكون ما يقوله عنهما هو بدروه من مفعولهما المطلق وليس علما يرد به الأسمى إلى الأدنى ؟
13-ما يقوله الثلاثة ينفي نفسه بنفسه لمجرد أنه قد قيل: تكذيب نيتشه لأفلاطون وعيسى وقلب ماركس لهيجل وإطلاق اللاوعي والجنس لا بد لها من شرط.
14-هذا الشرط هو الذي ينساه النقيدان عندما يتكلم على الشباب المقاوم ويعتبر أن تضحيتهم بذواتهم تفسيرها الوحيد هو الرغبة في الحور العين.
15-لست أدري -لأني لم أشق على صدر أي شاب- إن كان ذلك صحيح أو ممكن. ما أدريه هو التالي: أليس بوسع المرء أن يحصل على الحور في الدنيا دون موت.
16-أليس الإستبداد والفساد والعمالة لأصحابها في الداخل والخارج أمور تمكن من الحور والعين وأكثر في الدنيا؟ أليس التزاحم الدنيوي تلك علته؟
17-ولأعد إلى هيكل: في أحد معارض الكتاب في القاهرة وكنت حينها في ماليزيا قرأت له كلاما حول علاقة الدين وخاصة المجاهد منه بالفقر والجهل.
18-عجبت لغبائه منذ ذلك الحين لأن الشيء الأكيد هو أن ابن لادن أغنى منه وأكثر ثقافة بالمعنى الحقيقي للثقافة. فشهادة المستعمل للعميل كاذبة.
19-ولا أتمنى للنقيدان أن يكون من هذا المستوى: لست أدري ما الذي يجري في نفس الشباب.لكن لا يمكن تفسيره بالحور العين لأن ذلك ممكن دون موت.
20-فأي خائن يمكن للمخابرات الغربية أن تغرقه بين الغواني حتى يفقد كل طاقته الجنسية. ذلك أننا لم نعد في عصر البداوة التي كان فيها إحصان.
21-كلمة المحصنات لا معنى لها في العولمة التي يمكن للمخابرات توفير “خيراتها” لكل خائن. لذلك فيمكن أن نفسر الخيانة بالجنس لكن ليس الشهادة.
22-وما أظن النقيدان ينفي مفهوم الشهادة. قد يكون الشاب مؤمنا: بالشهادة -وحتى لو تصورنا المفهوم وهميا فهو وهم أسمى من التفسير بالحيوانية.
23-وختاما كتبت هذا لشعوري بأن فراستي حول الرجل -وكنت أتصور نفسي صحيح الفراسة- هذه المرة أخطأت التقويم إن صح ما فهمت مما كتب حول الحور.
24-لماذا كان لا بد أن أكتب في الموضوع: طبعا خطأ الفراسة ليس دافعا كافيا.دافعي بحق هو أن هذا النوع من التفسير له ضمائر يغفلها مستعموله.
25-وهذه الضمائر معرفية وخلقية أو نظرية وعملية. فعمليا من يفسر سلوك الإنسان أسماه بأدناه ينبغي أن يتخلى نهائيا عن كل قول بوجود قيم خلقية
26-ثانيا لا يمكن القول بهذا التفسير من دون جعل العقل مجرد مرآة تعكس الموجود ولا تتجاوزه بمنشود معرفي يسمو به إلى ما يتجاوز الأمر الواقع.
27-وإذا جمعنا الشرطين يصبح الإنسان الجدير باحترامنا هو خادم الاستبداد والفساد لانه يوفر له فعلا لا وهما ما يطلبه الحيوان في الإنسان.
28-وبهذا المعنى فإن الأمم تصبح مواشي تحكمها الغرائز الجنسية (فرويد) والاقتصادية (ماركس) والعضوية عامة (نيتشه) ولن يوجد أي من هؤلاء الفلاسفة.
29-ففرويد لم يصبح طبيبا بدافع جنسي وماركس لم يصبح فيلسوف العدل والحرية بدافع الاقتصاد ونيتشه لم يغص في النفس البشري بسبب عضواني. هلا فهمتم؟
30-زمارة الملالي وطبال العسكر وناصح السوء في مصر يقيس الناس على ذاته: لعله هو دافعه الفقر والجهل.لكن المجاهدين في كل العصور دافعهم القيم.
31-ما سميته عتيق الموضة ليس ما قاله فرويد وماركس ونيتشة بل ما صار يعتقده من اساء فهم محاولاتهم فهم سلوك الغالبية ممن لم يتجاوزالحيوانية.
32-لكنهم هم بمجرد مسعاهم تجاوزوها لأن ماركس يريد تحرير الإنسان من سلطان الاقتصاد ونيتشه من سلطان الغرائز وفرويد من سلطان اللاوعي.
33-اختم بكلمة مارلو بونتي حول كتاب الأمير: قال لو كان ماكيافال ماكيافيلييا لما كتبه لأنه أطلع الناس على أسرارها ليحررهم منها. هلا فهمتم؟