من الأضداد – الدولة القوية والعادلة


مهما قلبت الأمر في دلالة “الدولة القوية والعادلة” وصفا لها برعاية من يتولون قوامة الحكم الحالي في تونس لا يمكن إلا أن تكون هذه الكلمات الثلاثة من الأسماء الأضداد في العربية بمعنى خادع يفيد عكسه في الحقيقة: أي اللادولة واللاقوية واللاعادلة.

فأولا تونس ليست “دولة” لأن الدولة تعرف بأمرين هما مقوما السيادة:

  1. القدرة على الرعاية الذاتية
  2. والقدرة على الحماية الذاتية.
    ولما كانت متسولة في الأولى ومحمية في الثانية فهي فاقدة لشرطي السيادة.
    ومن ثم فهي عديمتها واذن فهي دولة بالاسم دون المسمى.

وثانيا تونس بوصفها دولة بالاسم ليست “قوية” طبعا بل القوي هو من يساعدها في الرعاية ويدافع عنها في الحماية. وطبعا فالحماية ليست بدون مقابل وهي في عصرنا لم تعد مباشرة بحضور القوة العسكرية.

فالحماية صارت استعمارا غير مباشر إذ يتكئ من يحكمها نيابة عنه من العملاء ويهرع إليه عند اللزوم.
ويتبين مما يسمى حلفا بديلا من الاسم الحقيقي للعلاقة بين حام ومحمى.

فالحامي لا يحالف المحمي بل يستتبعه. وهو أمر ليس خاصا بتونس: فكل بلاد العرب وضعها هو وضعية المحميات وإن تنكرت في شكل أحلاف اسمية وهي لماء وجه العملاء لا غير.

وثالثا ليست “عادلة” لأن من يحكمها لا يرد طلبا لحاميه على حساب شعبه.
فإذا علمنا مم يحميه أو بصورة أدق ممن فهمنا استحالة العدل؟
طبعا يحميه من الاغلبية التي لا تقبل التبعية لاستغلال الحامي لثروتها ولحربه على ثقافتها.

فتحكم بالحديد والنار في العهد السابق أو بالتحيل كما يجري حاليا في تونس منذ الانتخابات الاخيرة وحتى التي قبلها. فلا يوجد سلطان في شرطي الرعاية المادية (الاقتصاد) والروحية (الثقافة) ليست موكوله لأكثر عملائه ولاء له.

وبصورة محددة ففي تونس غالبية الشعب لا تقبل تواصل الحماية الفرنسية ناهيك عن بداية الحماية الإيرانية. ولا يغرنك سكوت الشعب حاليا. وقد أطالت أزمة كورونا بداية الرفض العلني.

والثورة ستستأنف مسارها وبسرعة لا يتوقعها أولئك الذين “يدزون” كروشهم وينفخون صدورهم في الحكومة الحالية وكأنهم غزاة لبر تونس في حين أنهم لا قاعدة شعبية لهم.

وبين أن ذلك صار ممكنا بسبب دمية قرطاج وعدم فهم المخلصين للوطن رهان هذا العهد الذي يهدد هوية تونس مرتين بهدف جعلها لبنان ثانية في المغرب لنفس الغرض من القوتين الحاميتين.

فمثل لبنان تونس حاليا يتقاسم الهيمنة على مقدراتها فرنسا الحامي القديم وإيران الحامي الجديد.
والعلة أن هذه تعودت على أخذ دور الفيروس الذي يلتصق بقوة غربية للحرب على السنة منذ فجر التاريخ إلى اليوم.

كانت مع الصليبيين ثم مع المغول ثم مع الاسترداديين ثم مع الاستعمار المباشر مرتين الذي كان اوروبيا ثم صار أمريكيا وروسيا. وهي اليوم تحاول أخذ سهم مع فرنسا في مستعمراتها القديمة في المشرق والمغرب.

فتونس صارت محمية مرتين مثل لبنان: بعض حكامها تابعون لفرنسا منذ ما يسمى بالاستقلال وخاصة بعد انجلاء حماسة الوطنية في حرب التحرير.
وبعضهم الثاني تابع لإيران منذ الانتخابات الاخيرة.

ولذلك ففي تونس اليوم مقيمان عامان لهما من التدخل في شأنها ما لا يستطيع أحد من عملائها منعه حتى للتظاهر بالسيادة.
وما بدأ يتجلى حاليا من فوضى في قواها السياسية علته الصراع بين المقيمين العامين حول سهم توابعهم في حكم تونس.

وعلينا أن نتساءل عن علة هذا الوضع. وهي علة مضاعفة: أولاهما تتجاوز القوى السياسية وتتجاوز تونس تجاوزا يتجلى في ميولها التي تشمل الإقليم كله لأن تفتيته لم يقض نهائيا على الروابط التاريخية.
ولذلك فصراعها يحمل هذا الطابع.

فما نتج عن مرحلة استعمار دار الإسلام وتقسيمها إلى كانتونات لا تستطيع بحجمها أن تكون دولا ذات قدرة الحماية والرعاية لكن القاعدة الشعبية العريضة ما زالت متعلقة بما تقدم على التفتيت.

فالمعلوم أن ما صار فتاتا كان في الغالب شبه ولايات في دولة مراوحة بين الوحدة والفرقة بحسب قوة المركز وضعفه وانفرط عقها لما قضى عليها الاستعمار وتقاسمتها الامبراطوريات الأوروبية.

لكن هذه الامبراطوريات بدأت نهايتها في الحرب الكبرى الأولى وانتهت في الحرب الكبرى الثانية وعوضتها الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي باستثناء ما بقي لفرنسا وانجلترا من هيمنة في بعض المستعمرات بتزكية أمريكية.

أما العلة الثانية وهي التي تعنيني الآن فذات صلة بالنخب الخمس التي تتألف منها كل القوى التي يستند إليها قيام الجماعات وتبنى بها الدول. فالقوى السياسية لا تعمل بمفردها بل إن لها أدوت في نخب المعرفة والقدرة والذوق والرؤية الوجودية

وهي في حالتنا العربية عامة والتونسية خاصة ظاهرة من عجائب التشويه الذي ترتب على ما فرضه الاستعمار من أمراض جمعها ابن خلدون في ما سماه “فساد معاني الإنسانية” في أمة فقدت دورها.

وقد علل هذه الأمراض بالعنف في التربية وبالعنف في الحكم الذي يجعل الجامعة التابعة في حرب دائمة على ذاتها استراتيجية حاميها لاستتباعها ثقافيا واقتصاديا حتى تصبح عالة عليه بنفس الاصطلاح الخلدوني بسبب فساد معاني الانسانية فيها بشرها.

والمعلوم أني قد صنفت هذه النخب التي تمثل أقطاب فاعلية الجماعة أي جماعة إلى خمسة أصناف بحسب ما يغلب على صفاتها من الصفات التي تعرف الإنسان من حيث هو ذو إرادة وعلم وقدرة وذوق ورؤية.

  1. فنخبة الإرادة هي النخبة السياسية التي تدعي تمثيل إرادة الجماعة وتتكلم باسمها وتقوم بقوامة ما تبحث له الجماعة عن حلول تغنيها عن مد اليد في الرعاية وعن التبعية في الحماية.

  2. ونخبة المعرفة هي النخبة المعرفية التي تدعي تمثيل علم الجماعة وخبرتها في العلاج العلمي والتقني لسد حاجات الرعاية وحاجات الحماية أدوات ومناهج إذ إن العمل الذي ليس على علم تخبط.

  3. ونخبة القدرة هي النخبة المنتجة لما يسد الحاجات العضوية أو القيم الاقتصادية والحاجات الروحية أو القيم الثقافية وهم في الغالب تابعون للنخبتين الأولين لأن نخبة الإرادة تمثل السند السياسي ونخبة المعرفة تمثل السند المعرفي للقيم.

  4. ونخبة الحياة أو الذوق هي النخبة التي يعتبرها ابن خلدون ما يميز الاجتماع عن العمران. فهذا لسد الحاجات العضوية خاصة وهو الانتاج المادي وأساسه التعاون والتبادل.

في حين أن ذاك لسد الحاجات الذوقية خاصة وهو الانتاج الفني والجمالي للأنس بالعشير أو للتواصل وليس للتبادل. وهي قيم كمالية بها يتجاوز الإنسان المائدة (الغذاء) والسرير (الجنس) إلى فنيهما.

  1. ونخبة الوجود أو الرؤى الوجودية التي تبحث عن المعنى في كل ما تقدم وهي في الغالب دينية وفلسفية. وغالبا ما يكون الجدل بينهما ممثلا لرؤيتين حدين أولاهما طبعانية والثانية تاريخانية.

والأولى مادية وعلتها اشكالات العمران والتبادل والثانية روحانية وعلتها إشكالات الاجتماع والتواصل.
لكنهما متكاملتان وتمثلان حوار الغايات في الموجود والمنشود الإنسانيين.

ما ألاحظه هو ما حاول ابن خلدون وصفه بفساد معاني الإنسانية أو تحول هذه النخب كلها إلى “عالة” في أدائها لوظائفها ما يجعلها من الأضداد هي بدروها لأنها تصبح منتحلة لصفات ليس لها منها غير الاسم وفقدان المسمى:

فالنخبة السياسة كلها توابع للراعي والحامي ولا تستمد مشروعيتها من الشعب بل من الراعي والحامي وهو طبعا لا يرعى ولا يحمي حبا في المرعي والمحمي بل لحماية دوره في تحقيق مصالحه حتى صار يعين من لهم جنسيته حكاما علينا.

وهو يختارهم بالذات عديمي القاعدة الشعبية حتى يكونوا طوع إرادته بإطلاق: وقد أصبح الامر مطلقا بعد أن صار الحكم بيد وزير أول غير منتخب تابع لرئيس حكومة حزبه ليس فيه إلى نائبان حاصلان على اغلبية فعلية والبقية بالفضلات تحت رئيس دولة لا يمثل إلا كذبة كبرى عاشها الشعب التونسي المغلوب على أمره.

ولما ترى المردد لعبارة الدولة القوية والعادلة وكيف يكاد صندوق صدره ينفجر من الانتفاخ الكاذب تعلم أنك في كوميديا ليس فيها أدنى هزل بل هي الجد الدال على مأساة شعب تونس الذي صار لا يحكمه إلى الأقزام المتبخترين من زنس المزروب المفاخر بإعجاب النساء به فما دونه إلى الكذاب باسم مكافحة الفساد.

والنخب المعرفة لا احتاج للكلام عليها. فهي مثل السياسية من الأضداد.
فالنظام الذي ينتج هذه النخبة والثمرة التي تنتجها هذه النخبة لا علاقة لها بالرعاية ولا بالحماية لأن ما يسمى دولة لا يفكر في ذلك هدفا لتكوين العلماء القادرين على تحقيق المهمتين.

وحتى لو سلمنا بأن البعض من النخبة السياسية تريد أن تحقق هذين الغايتين فإن من يفكر في نظامها التعليمي -وهو سيدها الحامي- يفرض عليهم فضلات ثقافته ليكونوا نسخة تابعة وعاجزة.
وإذا نبغ فيها أحد صار في خدمته. والبقية للبطالة أو للعمالة نوادل وخدم.

ولما كان الساسة متكئين على ما يمدهم به الحامي من فضلات ما ينهبه من ثروات بلادهم فهم سعداء بذلك لأن تربيته المستعمر على أكتاف النخب سواء كانت جامعية أو اعلامية كافية لأنها شهادة لهم بالحداثة الفرنكفونية وتغني عن المنتج لشروط الرعاية والحماية الذاتيتين.

أما نخب القدرة التي تسد الحاجات المادية (الاقتصاد) ونخبة القدرة التي تسد الحاجات الروحية (الثقافة) فحدث ولا حرج.
فالقدرة الثانية أو سد الحاجات الروحية أو الاجتماع والتواصل بلغة ابن خلدون لا احتاج للكلام عليها.

فالثقافة في تونس ليست ثقافة بل مثاقفة قهرية صار دجالو الحداثة يقومون بما يسميه الاستعمار اخراج الانديجان من التخلف رغم أنوفهم لقتل ثقافتهم وتعويضها بثقافته ويسمها المهمة التحضيرية.

لكن القدرة الأولى أي سد الحاجات المادية أو الاقتصاد أو العمران والتبادل بلغة ابن خلدون فعندي فيها شهادة للتاريخ: فقد صحبت رئيس الحكومة المهندس حمالي الجبالي في لقاء مع منظمة الاعراف الفرنسية.

فرأيت العجب: المنظمتان التونسيتان اللتان صحبتا رئيس الحكومة في الوفد التونسي تبين لي خلال اللقاء أنهما مجرد وكلاء أذلاء لفريقين من الاعراف الفرنسيين وكلهم من صهاينة فرنسا.

لا أحد منهما يمثل مصالح تونس بل هم توابع لمصالح فرنسا ووكلاء لا غير لمنظمة الاعراف الفرنسية. ولا أحد منهما يمكن اعتباره في خدمة الاقتصاد في نظام التبادل الكوني أو الثقافة من حيث هي أحد فروعه في نظام التواصل الكوني.

ولن أتكلم على الفنون ولا على الرؤي. فما أظن أحدا يجهل ما يجري.
وغاية الأمر هو أن جدودنا الذي قدموا دماءهم لتحرير البلاد لو عادوا لكانت هذه النخب أول من يصفهم بكونهم إرهابيين ومتخلفين يرفضون الحداثة.

ومعنى ذلك أن ما يغلب اليوم هو منطق “الحركيين” بالمصطلح الجزائري و”الصبايحية” بالمصطلح التونسي. فكل من لهم نفوذ في الدولة المزعومة والتي هي محمية لا يمثلون شعبها بل يمثلون محتلها بهم.

وهذه هي المعركة الجارية في المستويات الخمسة:

  1. فالمعارك السياسة الفعلية والمسكوت عنها هي بين شعب مغلوب على أمره وطبقة سياسية عديمة الشرعية لأنها تحكمه ليس بإرادته في تحديد مصالحه وقيمه بل بإرادة من يحميها ضد مصالحه وضد قيمه.

  2. والمعارك المعرفية لا علاقة لها بوظيفة المعرفة من حيث تحديد أدوات سد الحاجات المادية والروحية ومناهجها حتى يكون الشعب قادرا على رعاية ذاته وحمياتها بل مدارها الوحيد هي التحديث العنيف بمعنى الوظيفة التحضيرية للأنديجان.

  3. والمعارك الاقتصادية لا تتجاوز التنافس على خدمة مصالح الحامي ونهب ثروات البلاد وجعله يوما بعد يوم أكثر تبعية في الرعاية وفي الحماية وهو أصل الترابط بين المافيات المتحكمة فيه وفي الحكم حتى صار لا يحكم إلا من ليس له قاعدة شعبية حتى يكون دمية بيد المقيم ا لعام.

  4. ومثلها المعارك الثقافية وضمنها الفنون والذوق: فكل القيم التي تمثل تراث الشعب وليس دينه أولغته أو تاريخه فحسب هي ما ينبغي التحقير منه بوصفه ممثلا لماض ينبغي محوه بل كل الثقافة تحولت إلى فرض البديل من ثقافة أصحابها أنفسهم يحاولون تجاوزها. فلا يوجد فرنسي حاليا عدى اليمين الاقصى ما زال يؤمن بأن الفرنكفونية هي مستقبل الإنسانية.

  5. أما الرؤى الدينية والفلسفية فيكفي أن تقرأ ما يكتب حتى تعلم أن الأولى صارت تمثل مجرد رد فعل المغلوبين على أمرهم في الداخل والثانية تمثل رد فعل المغلوبين على امرهم في الخارج.

لكن الفرق هو أن هؤلاء منهزمون روحيا ولذلك فانتفاخ صدروهم هواء مثل الأكر التي يلعب بها الاطفال وسرعان من تنفجر في حين أن الاولين بدأوا يدركون قوتهم وقد تكون الآن فرصتهم سانحة للتخلص من هذه الفقاقيع الجوفاء.

ويمكن القول إن ما يبشر بالنصر الحتمي هو ما يجري في ليبيا وفي الجزائر. صحيح أن ليبيا ربما ستكون هي السباقة ربما لأن حفتر يمثل الشكل الفاضح لكل ما وصفت ولاجتماع فرعي الثورة المضادة العربية التابع لإسرائيل ولإيران مباشرة ولأمريكا وروسيا بصورة غير مباشرة. أما فرنسا فلم يعد لها حول ولا قوة إلى في تونس.

وهنا يأتي دور الجزائر فحزب فرنسا وبقية الحركيين افتضح أمرهم ولعل أهم قرار حامس اتخذته الجزائر هو القطيعة مع الفرنكفونية والاستعاضة عنها بالإنجليزية مع احياء اللغة الوطنية العربية والأمازيغية في إطار وحدتهما الإسلامية.
.
لذلك فهزيمة حفتر في ليبيا هي بداية هزيمة فرنسا في ا لجزائر وفي افريقيا كلها وطبعا هزيمتها في تونس ومعها فرعا الثورة المضادة العربية اللذين يمولان كل الحروب الجارية على الاقليم وثقافته وعلى شروط نهوضه المادي والروحي.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي