منطلق الاستئناف وطبيعة الأزمة



لتحميل المقال أو قراءته في ص-و-م pdf إضغط على العنوان أو الرابط أسفل النص



1-قلنا للأستاذ: بعد بيان الوجه السالب من فكر ابن تيمية صرنا نتساءل عن علة اعتبارك إياه ندا لابن خلدون بل وأكثر جذرية في بيان الوعي الحاد بأزمة الأمة؟ أليس ذلك قادحا في منزلته؟
2-أجابنا: أساس الموقف؟ الفكر يؤثر ليس بما يظهره من الموجود فحسب بل بما يجعله حاضرا للوعي من المعدوم. فما حققه ابن خلدون أكثر. وحركه ابن تيمية أكبر. والجمع بين الانجاز والتمهيد هو الأصل في الوصل بينهما.
3-ولتقريب منظور الرجلين فقد اعتبرنا ابن خلدون شارك في “معمعة” عصره من منظور الحاكم وابن تيمية شارك فيها من منظور المعارض. موقفان مختلفان لكنهما متساوقان ومتصاحبان تصاحب وجهي العملة الواحدة.
4-والجمع بين الوجهين الحاكم والمعارض يمثلان الصورة كاملة: أحدهما اهتم بموجود ظرف الأمة أكثر من معدومة والثاني بمعدومها أكثر من موجودها.
5-لكن الهم واحد: فَهْم علل الانحطاط وشروط الاستئناف وكان تركيز ابن خلدون على نظرية العمل والشرع وتركيز ابن تيمية على نظرية النظر والعقد.
6-ابن خلدون يريد إصلاح الشريعة والدولة وابن تيمية يرى المسألة أعمق: إصلاح العقيدة والأمة.والجامع بينهما هو ما بين الفعلي والرمزي من آصرة.
7-والآصرة هي التي جعلتني اعتبرهما ندين رغم أن ابن خلدون تفوق بالمنجز الإيجابي (وضع علوما) وابن تيمية تفوق بالمنجز السلبي (قوض أوهاما). والمعلوم أن ابن خلدون أيضا قوض أوهاما دحضا للعلوم الزائفة.
8-العادة الجارية تعتبر البناء أفضل من التقويض.لكن التحليل التاريخي لكبوات الأمم يجعل التقويض يكون أحيانا أهم بكثير لأنه شرط متين البناء.
9-فما التكامل بين عملهما في الربع الأول من القرن الثامن والربع الأخير منه وبينهما ثورة في أصول اللغة (ابن هشام) وفي أصول الفقه (الشاطبي).
10-وقد أشرت إلى ابن هشام والشاطبي لأن ابن خلدون أشار إلى ثورتيهما والثانية خاصة لعلاقة علمه الجديد بنظرية المقاصد في مفتتح المقدمة (وهما متعاصران بنحو ما).
11-وليس لهذا السبب فحسب بل لأن تأسيس علوم الإنسان مشروط بأداتيها (اللغة والتاريخ) مشروطية علوم الطبيعة بأداتيها (المنطق والرياضيات).
12-والرجلان -ابن تيمية وابن خلدون- من علماء العصر في هذه الأدوات الأربع: اللغة والتاريخ والمنطق والرياضيات حتى وإن أغفل فقه الانحطاط ذلك ولم يُعنَ إلا بما يموت عادة مع زمانه أي الفتاوى.
13-إذن أنت عندك رجلان ممثلان للثورة على ثقافة عصرهما في نبضتها الأخيرة قبيل بلوغ الانحطاط ذروته والإبداع ثمالته التي انتهت في القرن التاسع قرن الموسوعات المخلدة للتراث جمعا دون إبداع.
14-فإذا كنت تريد البحث في شروط الاستئناف فينبغي أن تنطلق من الثورة على النبضة الأخيرة من عنفوان حضارتك وهو في مرحلة الاحتضار والجمود.
15-فيكون الممثلان أكثر فائدة لك بما يحركانه من المعدوم أكثر أهمية مما يضيفانه إلى الموجود: وكما قال نيتشه فالتاريخ النقدي أهم من المعلمي والمتحفي (أول نص نقلته إلى العربية من كتابه تأملات غير مناسبة للعصر مع نص كنط حول التنوير للتدريس في ثانوية ابن شرف سنة 1975).
16-فما الذي حركه ابن تيميه من المعدوم؟ ذلك ما وصفنا وجهه المتعلق بالخيال أمس. أما ما يتعلق بالعلم فوصفناه أول أمس. وسبق أن فعلنا مع ابن خلدون.
17-هوجم ابن خلدون أيضا من نفس المنظور ليس في علمه بل في دلالته وفي موقفه. فمحمد خاتمي درس الفلسفة السياسية واعتبره مؤرخا للاستبداد (السني).
18-وقد رددت عليه في بحث مطول نشر حينها وقيل لي إنه قد نقل إلى الفارسية. وزمارة الملالي علق على موقفه من موقف ابن العربي من الحسين.
19-فكتبت له رسالة مفتوحة رغم أن أمره لم يكن قد افتضح لكني لم أكن مصدقا أنه مقاوم بل اعتبرته في رسالتي الثانية له -بمناسبة كلامه على دور حزبه في تحرير العرب من الاستعمار- ورقة صفوية وليس مقاوما.
20-وبهذا أكون قد أجبتكم عن علة الجمع بين الرجلين في محاولتي فهم علل الانحطاط وشروط الاستئناف لأنهما منطلقه الواجب لمن يريده حقا وصدقا.
21-وما كنت لأبرر خياراتي النظرية لو لم تصبح بمقتضى الظرفية التاريخية الحالية ذات صلة مباشرة بحيرة الشباب وتفاقم أزمة الأمة وتخبطها.
22-فالخيارات النظرية لها وجهان لا يمكن تبريرهما: الأول توفيق إلهي يوجهك إلى ما له دلالة في حياتك الشخصية وفي حياة أمتك ومنزلتها الكونية.
23-والثاني جنيسه لأن الله يمدك بصبر أيوب: فما يعانيه المرء عندما يجد نفسه في صراع مع كليشهات أبناء جيله وروبافيكا العصر. علاجه بالإيمان. وشيء من تعزية النفس بالاحتكام إلى التاريخ ضد حيف المعاصرين: والتاريخ لم يبطئ في الإنصاف لأن الثورة غيرت المعادلة وانحياز الجماعة للثورة المضادة نزع عنهم أوراق التوت الشعارية.
24-كيف الصمود أمام كليشي “الغزالي ظلامي حارب العقل فكان سبب الانحطاط”. والغريب أن واضعه هو فيلسوف اليتوبيا بلوخ في نظرية اليسار الأرسطي (بمناسبة ألفية ابن سينا 1961).
25-والرديف هو كليشي ابن رشد فيلسوف الأنوار واليسار الأرسطي. هذه ملحمة أولى فرضت علي بعد عودتي من باريس من أذيال اليسار في تونس: عزل تام ونعم العزل إذ لم أحرم إلا من نخالة الموضة التي كانوا يقتاتون بها ومنها.
26-ثم ما فتئت أن قمت “بجريمة” ثانية فكتبت رسالة في منزلة الرياضيات عند أرسطو وفيها “استفزاز ابستمولوجي” لماضغي تهمة عداوته لترييض الطبيعة.
27-لكن “جريمة الجرائم وجريرة الجرائر” عندهم أن تخصص رسالة في بلد علماني لابن تيمية وتجمعه بتفضيل مع من يفخر به أبناء ذلك البلد: ابن خلدون.
28-وفي الحقيقة فهم لا ناقة لهم ولا جمل. المشكل كان مع رنان وبلوخ: كلاهما جعل ابن رشد شبيها بيسار هيجل (عقلانية وتنوير) والغزالي شبيها بيمينه. لا شك أن الكثير منهم قد شك في أني أبحث عن المصاعب مع الجميع: الرشديين العرب واليساريين العرب والتقدميين العرب أي كل النجوم في الساحة المريضة بالموضة والتطبيل للقومية الفاشية والحلف مع السوفيات.
29-وإذن فلم يكن المهم مَن هو الغزالي و من هو ابن رشد في ذاتهما وبعملهما الفكري في حد ذاته بل المهم بمن يمكن تشبيههما من مفكري الغرب : وهذه بداية الهزيمة أن يصبح الغير معيار التقويم. كل شيء يصبح مستمدا معناه من العارية.
30-مشكلتي إذن لم تكن معهم بل مع هزيمتهم وحاجتهم للعارية: وهذا هو موقف المستعمَر ذهنيا. لا يسأل من أنا بل يسأل: إلى أي حد صرتُ مثل مثالي الأعلى أي مستعمري. مطلق الاغتراب في الغير.
31-ولما كنت قد غرقت إلى الأذقان في الغير لا تقليدا بل درسا لفلسفته قبل درس فلسفتنا فلكأن العلاقة انقلبت عندي: لكأن مسار حضارتنا صار النموذج والمقياس.أقيس الجمبع بنماذج من حضارتنا واستغني عن القيس أصلا.
32-لكن الفضل كل الفضل هو أن والدي رحمه الله كان شيخا علمني القرآن ومعانيه بمجرد أن صرت أفقه الكلام. فلا يمكن لمن ذاق القرآن أن يعتبر غيره معيارا.
33-قد يكون في ما أقول شيء من الترجمة الذاتية. لكن القصد غير ذلك فأوانها لم يحن : القصد أن الحرب الحالية على التربية القرآنية تقتضي تنبيه الشباب بجنسيه.
34-لا شيء يعدل تربية ترسخ الأصول الأولى لقيام الحضارة وجعلها غربال التلقي لكل التراث الإنساني: فحينها تكون بحق حرا وندا وواثقا من نفسك.
35-ولا يمكن للمرء أن يكون بحق منفتحا من دون الحرية والندية والثقة في الذات الفردية والجماعية. الأمة الإسلامية منفتحة بفضل هذه الصفات.
36-ولأضرب مثالين: الأول مضمون القرآن. والثاني صحابة الرسول. لا يكاد يوجد كتاب ديني لم أطلع عليه. فما وجدت مثيلا للقرآن في كونيته المنفتحة واعترافه بالغيرية في إطار الأخوة البشرية (النساء 1).
37-وما رأيت رسولا صحابته جمعت بين الأبيض والأسود والاحمر والاصفر مثل الخاتم. والثورة هي أن يصبح الكل من جلسائه عتاة العرب مثل من كانوا عبيدا لهم سواء.
38-كيف لا يفخر المسلم بأن دينه قد جعل تحرير الرقاب من المكفرات الأساسية رغم عسره؟ وجعل العناية باليتيم والسائل وابن السبيل من واجباته؟ والدفاع عن المستضعفين وحرية العبادة مشرعة للجهاد الهجومي؟
39-وكيف إذا قرآن النساء 1 والحجرات 13 وفصلت 53 والنساء 58 والمائدة 48 ألا يعتبر حضارته ودينه المستقبل لتحرير البشر من الإخلاد إلى الأرض؟
40-أما من يحتج بمآل ذلك كله خلال عصور الانحطاط فهو محق وظالم في آن. محق لأن فقه الانحطاط يكاد يكون قد ألغى كل هذه الفضائل. لكنه ظالم.
41-إنه ظالم لأنه يطرد حكما غير منصف على المرجعية بثروتيها المادية (دار الإسلام) والرمزية (تراث الإسلام) بعقوق أجيال أصابها كساح الخيال (موضوع الأمس).
42-ولأجل إنصاف المرجعية بثروتيها ينبغي أن نتسابق في الخيرات وأن يتنافس المتنافسون من شباب الأمة بجنسيه. فهي مهمة تضفي المعنى على الحياة. والمرأة قبل الرجل: أليست خديجة أول من أسلم في العالم وغلب اليقين على الشك في فؤاد النبي ؟
43-وما التوفيق إلا بالله. أما ثرثرة المليشيات وأذيالها من الأنصاف فهي طنين ذباب لا يغير من الأمر شيئا إذا علم الشباب بجنسيه مناط المعنى.
44-ومناط المعنى مضاعف: الأول هو التحرر من الظن أن كل الأديان متماثلة فتقضي في الكوني بمعيار العرقي والقبلي: لا وجه للمقارنة بين الإسلام واليهودية.
45-ولا وجه للمقارنة بين الإسلام والمسيحية ومن لم يقرأ الآية 67 من آل عمران يمكن أن يصدق خرافة الأصل الواحد من دون احتراز “قبل التحريف”.

مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. (آل عمران67)

46-وجوهر التحريف في اليهودية بداية (العنصرية) والمسيحية اكتمالا وغاية (تأليه عيسى) يحددها القرآن الكريم في آية من لم يرها لا بصيرة له.
47-و نصها

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. (آل عمران 79)

48–إبراهيم شخصيتان مختلفتان: الذي عاد إليه القرآن غير الذي يدعيه اليهود والنصارى. فالأول يعتبر الدين فطرة والوحي ليس إلا للتذكير. والثاني جعلوه عنصريا وكنسيا بل وبطريرقيا متسلطا.
49- وشتان بين إبراهيم مؤسس الوحدانية ومحرر الإنسانية من عبادة النجومى -ابراهيم القرآني- وابراهيم الذي اتهمه ماسينيون بنفي ابنه وزوجته لأن العرب مجذومين وعلى مسيحيي مصر تخليصهم من الجذام ويعني الإسلام.
50-لكن التفسير هو ما بدأنا به: إذا صار غيرك -وهو من هذين الدينين المحرفين- وما أعجب له هو أن المليشيات وأبواقهم لا يتجرأون إلا على الإسلام ويخافون من المس بالدينين المحرفين مصدر الإرهاب والفساد في الأرض.
51-ولهم من ذلك فائدتان: أولا ينالون رضاه ويصبحون نجوما لديه وثانيا يعتبرهم العامة من أنصاف المثقفين نجوما تمثل التقدمية والحداثة والتنويرية. وما أسرعهم في انتحال أحد هذه العناوين مع حلفهم مع العسكر الجاهل والاستبداد والفساد.
52-ولما كان الغزالي قد بدأ فنقد هذا المرض أو حب الزعامة والنجومية عند المتشبهين بالفلاسفة في مقدمات التهافت فمن الطبيعي أن يعاديه من وصف خاصة وهو قد بين محدودية المتبوع فضلا عن التابع بالتمييز بين العلمي (المنطق والرياضيات) والخيالي والرجم بالغيب (الميتافيزيقا).
53-وكان التفتيح موجعا لأنه أصابهم في مقتل: ما يفخرون به أي المنطق بين لهم أنه شديد المحدودية وطلب ما وراءه ليجعله فرعا بسيطا من الرياضيات برده إلى اللزوم دون صلة بطبيعة المقدم لاقتصاره على الصورة.
54-ولما كان ابن تيمية قدتجاوزه فلم ينج منه الفلاسفة انفسهم مسا بـ”السبات الدغمائي” بعبارة كنط بل فتح أعينهم على وهاء الميتافيزيقا.
55-وبذلك عدنا إلى ما بدأنا به: لماذا يكرهون ابن تيمية؟
فالعلة هي للقطيعة التي أحدثها مع العلم المطلق المزعوم وما يُبنى عليه من كنسية الخداع وسلطة الوساطة الروحية المستبدة.



يرجى تثبيت الخطوط
أندلس Andalus و أحد SC_OUHOUD
ونوال MO_Nawel ودبي SC_DUBAI
واليرموك SC_ALYERMOOK وشرجح SC_SHARJAH
وصقال مجلة Sakkal Majalla وعربي تقليدي Traditional Arabic بالإمكان التوجه إلى موقع تحميل الخطوط العربية
http://www.arfonts.net/


نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي