منزلة علم الكلام في التجربة الوجودية



لتحميل المقال أو قراءته في ص-و-م pdf إضغط على العنوان أو الرابط أسفل النص



1-أردنا أن نختم هذه المحاولة الخاصة بعلم الكلام (أ – ب – ج – د – هـ) بسؤال عن وضعه في مسار العقل الإنساني وتجربته الوجودية ولماذا يستحيل التخلص منه رغم سلبية دوره وضرره؟
2-محاولة التخلص منه بإطلاق ذلك هو الخطأ الذي يمكن أن نعتبره من علل ضعف السنة السلفية: ميل الإنسان إلى الكلام حاجة وجدانية لا يمكن نكرانها دينيا وهي من جنس ميله إلى الميتافيزيقا فلسفيا.
3-فهو في الأصل محاولة شخصية حميمة من المرء للخروج مما طرأ عليه من شكوك في العقائد: وكل من لم يمر بهذه الحالة الوجدانية لا معنى لإيمانه.
4-بعبارة وجيزة: وهم السنة السلفية يتمثل في تصور الإنسان يمكن أن يكون مؤمنا بمجرد التقليد والوراثة والتربية الخارجية. وهذا مستحيل إنسانيا.
5-فالإنسان متكلم بالطبع:القرآن الكريم يخصص لهذه الظاهرة ولعللها لدى الإنسان جل كلامه عليه.العبارة الجامعة:

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (الكهف – 54)

6-وبهذا المعنى فالميل إلى الكلام فيه شيء من العلاج الذاتي للشكوك التي يمر بها الإنسان خلال مسعاه الوجداني نحو تحقيق حال النفس المطمئنة.
7-وكل هذا دون شك يبين فضائل هذا السعي. لكنه سرعان ما ينقلب إلى نقيضه تماما: فهو شبيه بحال الصوفي الذي يتجاوز مجاهدة الاستقامة إلى الكشف
8-تحصل للمتكلم والمتصوف الذي يتصور نفسه قد بلغ الكمال في الجدل للأول وفي المجاهدة للثاني أن يصبو لتأسيس مذهب أو طريقة طلبا للزعامة.
9-أي إنه ينفي أن يكون ما مر به هو حقا لغيره ويريد أن يجعل تجربته مثالا على غيره تقبُّله منه بالتعليم وليس بالتجريب الشخصي: والمبدأ “تغسيل الميت” إذن لا بد من قتله أولا وتلك وظيفة ال”جورو” الكلامي والصوفي.
10-فتتكون الفرق الكلامية والطرق الصوفية المتعصبة وتكثر الطوائف المتصارعة على تمثيل العقيدة (الكلام) والحقيقة (التصوف) فتضيع فائدتان.
11-الفائدة الأولى هي ما ينتج عن تحرير الإسلام البشرية من الوساطة التي تضاعفت: رؤساء الفرق الكلامية والطرق الصوفية وهما علتا الحروب الدينية.
12-والفائدة الثانية هي الجمع بين العقيدة الموحدة والتجربة الشخصية الحرة في إطار مرن مبدؤه حق الخطأ في الاجتهاد ما صدقت نية صاحبه.
13-رفض الوهم القائل إن الحيرة الوجودية يمكن أن تكون قابلة للحسم المطلق وأن المتكلم وضع الصيغة المطلقة للعقيدة والمتصوف للحقيقة: هو الطمأنينة.
14-فالطمأنينة لا تنتج عن قتل السؤال ولهب الوجدان بل هي الإرادة الجازمة في الجمع بين القدرة على الاختيار لطريق والإيمان الواعي بالشكوك.
15-وأهم شك هو الفيصل بين الإيمان والإلحاد إنه مسألة العدل الالهي في المستويين الطبيعي والتاريخي: فطبيعيا لا يبدو توزيع الاخيار عادلا.
16-وتاريخيا يبدو توزيع الخيارات أكثر ظلما حتى من التوزيع الطبيعي للإمكانات. ولا يمكن تصور إنسان مهما كان بليدا لا يشك في العدل الإلهي لما يسود في العالم من ظلم لا ينكره إلا معاند.
17-لذلك فعسر الجمع بين “الله الذي هو على كل شيء قدير” وبقاء الظلم الطبيعي والتاريخي من أعسر المسائل التي يتعرض لها الإيمان والعلم في آن.
18-ومن عاشوا التجربة وألحدوا فإنهم إذا كانوا حقا صادقين في تجربتهم الوجودية يكون إلحادهم تنزيها للرب عن الظلم: يفضلون نفي وجوده على القبول بظلمه.
19-لذلك فهؤلاء سرعان ما يكتشفون سري التناقض في موقفهم:1-من أين لي أن الله كامل وأن وجوده لا يمكن أن يصحبه بقاء الظلم والشر؟ 2-ما دوري؟
21-وهذا على الأقل بالنسبة إلى المسلم: الإنسان من حيث هو إنسان مستخلف أي مكلف بأن يحتذي النموذج أي مصدر تساؤله الوجودي في معركة العدل.
22-والتكليف فرض عين وليس فرض كفاية. الكلام والتصوف متناقضان لأنهما يبدآن حالة وجدانية فردية وينتهيان إلى نفي فرض العين ليتحولا إلى عصابة.
23-وهذه العصابة استعادة للكنسية أو للسلطة الروحية التي تتنافى مع فرض العين: الوسيط هو الذي يجتهد ويجاهد والتابع متفرج وطالب وسيلة.
24-خذ مثال العبادات: في الإسلام عكس الكنسية: واجب فردي بإطلاق. وجزاء العمل واجب فردي بإطلاق. والاجتهاد فردي بإطلاق. والجهاد فردي بإطلاق.
25-الخلاصة: الكلام -مثله مثل الميتافيزيقا- لا يمكن التخلص منهما. لكن لا يعتد بهما في النظر والعمل. هما محاولة الخروج من الظرف الإنساني.
26-وعلاجهما هو معرفة حدود الظرف الإنساني وذلك هو معنى الإسلام أي التسليم بالحقائق البسيطة للإيمان والتي من جنس: الإنسان مائت ومسؤول.
27-والطمأنينة هي أن وعي الإنسان لا يخلو من نموذج العدل المطلق ومهمته السعي للعدل: الائتمار والامر بالمعروف والانتهاء والنهي عن المنكر.
28-الطمأنينة ليست سكونا بل حركية دائمة في التاريخ: أن يجتهد الإنسان لفهم وضعه فردا وجماعة وأن يجاهد للتحرر من الإخلاد إلى الأرض أصل الظلم.
29-فيتبين أن الكلام الذي يبدو في المنطق محاولة لتجاوز الشكوك ينتهي إلى قتل التجربة ومنع إدارك حقيقتها المتمثلة في الوعي برسالة الإنسان.
30-وتلك هي علة موقف الكبار من تجربتهم الكلامية في غايتها: أدركوا أن مآل الكلام إذا صدق صاحبه نفسه فأسس فرقة يكون قد عاد إلى الكنسية.
31-والكنسية سواء كانت كلامية أو صوفية يصدق عليها قوله جل وعلا في الرهبانية : وكيثر منهم فاسقون.ذلك أن حق رعايتها شبه مستحيل.

ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (الحديد – 27)

32-أعلم أن كلامي هذا سيضاعف الأعداء. لكن الأمر ليس جديدا بالنسبة إلي. أقول ما أعتقده بعد بحث واجتهاد لا أدعي فيه مطلق الحقيقة ولا آلو.
33-وعلى كل فإن ابن خلدون وقبله الغزالي لا يريان في الكلام إلا حب الزعامة وأن فائدته لا تتجاوز شحذ المناكفات الجدلية وقد تفيد في المحاماة لاغير.
34-ولأختم بدائرة الغزالي كما وردت في المنقذ: الكلام خروج من الإيمان بالعادة والتربية يليه اليأس منه فالدخول في الفلسفة فاليأس منها..
35-يلي اليأس من الفلسفة العودة إلى نفي العقل والفكر أو التعليمية ثم اليأس منها والخروج إلى التصوف. وهنا يقف الغزالي لولا مضمون المشكاة.
36-وهو مضمون ملتبس الدلالة: فهو أقرب إلى تصوف وحدة الوجود منه إلى تصوف وحدة الشهود. وفي الحالتين شبه تعميم لمنزلة تفوق منزلة الأنبياء.
37-ولهذه المنزلة معنيان:إما اللبنة الذهبية أي خاتم الولاية بعد خاتم النبوة بقراءة صوفية حاتمية أو واضع الشرائع بالمعنى الباطني والفلسفي.
38-فيلتقي رابوع عجيب: الفيلسوف واضع الملة (الفارابي) والمتصوف خاتم الولاية (ابن عربي) والإمام المعصوم (الباطنية) ومايمكن الاصطلاح عليه بالمتكلم خاتم الكلام.
39-وخاتم الكلام هو المشكل: لأن من يمكن أن يدعي هذه المنزلة يقال إنه قد تراجع عن الكلام واعتبره مضيعة للعمر:الرازي. لكنه هو الأولى بالمنزلة.
40-وليس بالصدفة أن تكاتب هو وابن عربي. والمكاتبة بينهما لم تخل من مثل هذه الدلالة. المهم أن ما ينسب إليه من تراجع عن الكلام يفهمنا دائرة الغزالي.
41-فالتراجع عودة إلى نقطة البداية: الكلام خروج من مرحلة الإيمان بالعادة والتربية واليأس منه عودة إليه.لكن العودة إليه لا تعني بقاءه كما كان.
42-هي تعني أن الحقائق الأولى التي يتعلمها المرء من القرآن والسنة تفقدها العادة بريقها فتبدو وكأنها غير كافية لغرور من بدأ يفكر بنفسه.
43-ولما يفكر بنفسه ويمر بمراحل الدائرة الغزالية يدرك أعماقها: حقيقة الموت وحقيقة المسؤولية وحقيقة الواجبات في مهمة استعمار الإنسان في الأرض بقيم الاستخلاف وتلك هي رسالة الإسلام.
43-حينها يدرك أن الإيمان ليس عبادات فحسب فيفهم الآية 177 من البقرة ليعلم مجال الجهاد أول الواجبات ويفهم خاصة الآية 53 من فصلت فيعلم مجال الاجتهاد ثـاني الواجبات.
44-تلك هي منزلة علم الكلام في تجربة الإنسان الوجودية.فهي يمكن أن تكون تجربة تمكن من فهم طبيعة الشكوك التي يعاني منها الوجدان ما كان حيا.
45-ويمكن أن تتحول إلى كنسية قاتلة للتجربة الوجدانية عند الشعوب لأنها تلغي التجربة الفردية وتعوضها بحرب كنائس وفرق بين أمراء حرب كلامية.
46-وما كنت لأكتب في الموضوع فأُرَاكِم الأعداء لو لم يكن سرُّ ما نعاني منه من أمراءالحرب الأهلية علته الأساسية هي أمراء الحرب الكلامية الدينية.
47-وليس معنى ذلك أني ضد تعدد الآراء والتأويلات حول النصوص الدينية. ما أعارضه هو دعوى كل تأويل أو رأي أن أصحابه هم الفرقة الناجية.
48-لذلك فالفرقة الناجية عندي هي كل المسلمين -بمعناها القرآني- والفرق غير الناجية هي كل أمراء الحرب الكلامية أي إن الغالبية ناجية ما صدقت.
49-فلا يمكن لدين يقول بالفطرة والإيمان عقدا بين الله والبشر قبل الوجود الدنيوي (الأعراف 172-173) أن يجعل الناجين هم القلة والعكس هو الأصح.

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) – (الأعراف)

50-وذلك هو مفهوم الإسلام الكوني الذي بمقتضاه كلفت الأمة التي تلقت الرسالة الخاتمة تذكيرا وليس تأسيسا للدين بأن تكون شاهدة على العالمين.

وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (الحج – 78)

51-شهادتها هي تحقيق شروط استعمار الإنسان في الأرض بقيم الاستخلاف حتى تقدم للبشرية نموذج التحرر من الإخلاد إلى الأرض وحقيقة الإسلام.



يرجى تثبيت الخطوط
أندلس Andalus و أحد SC_OUHOUD
ونوال MO_Nawel ودبي SC_DUBAI
واليرموك SC_ALYERMOOK وشرجح SC_SHARJAH
وصقال مجلة Sakkal Majalla وعربي تقليدي Traditional Arabic بالإمكان التوجه إلى موقع تحميل الخطوط العربية
http://www.arfonts.net/


نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي