منزلة القرآن، عقد التأصيلي والتحديثي في فهمها – الفصل السادس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله منزلة القرآن عقد التأصيلي والتحديثي في فهمها

كيف يمكن أن نستنتج من الرؤية القرآنية بعد أن عرفناها في المحاولات السابقة والتي نعتبر ما حل بعلوم الملة من تحريف علته عدم البدء بتعريفها لتفتح نظاما من الآفاق المنتظمة المحررة مما حدث في التعامل مع القرآن بتفتيت وتشتيت أشبه بما حل بدار الإسلام من تفتيت وتشتيت مصدرين للانحطاطين. الانحطاطان هما: 1. انحطاط النظر والعقد علة للعجز في علاج العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة شرط الاستعمار في الاض. 2. انحطاط العقد والشرع علة للعجز عن علاج العلاقة الأفقية بين الإنسان والتاريخ شرط الاستخلاف. وغياب الشرطين هو معنى فساد معاني الإنسانية والتحول إلى عالة (ابن خلدون). وكما أسلفت فإن العلاقة الأفقية مقدمة على العلاقة العمودية لأنها هي التي تتأسس على الوجود والإرادة اللذين يترجمان في العمل والشرع بالرؤية والسياسة والعلاقة العمودية تتبعها لأنها أحد أبعاد الرؤية والسياسة بل هي أهم أدواتها لتحقيق الغاية التي هي القدرة المادية والروحية. فيكون مجال العلاقة العمودية هو مجال العلوم بالمعنى الذي عرفناه في المحاولة السابقة أعني في نوع ابداع المقدرات الذهنية المؤسسة للمعرفة (استراتيجية الرياضيات الخالصة) التي تتأسس عليها العلوم (استراتيجية الرياضيات المطبقة على التجربة الطبيعية والتاريخية). ويكون مجال العلاقة الأفقية هو مجال الفنون بالمعنى الذي عرفناه في المحاولة السابقة أعني في نوع ابداع المقدرات الذهنية المؤسسة للأذواق (استراتيجية السياسيات الخالصة) التي تتأسس عليها الأعمال (استراتيجية السياسيات المطبقة على التجربة التاريخية والطبيعية). وثمرة العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة هي الثروة وهي موضوع التبادل في الجماعة وبين الجماعات وثمرة العلاقة الأفقية بين الإنسان والإنسان هي التراث وهو موضوع التواصل فيهما. وطبعا فالتواصل مداره الثروة والتراث كذلك. التواصل في الاولي حول التبادل وهو في الثانية حول التواصل ذاته. والتبادل في ذروته الاعم التي تحتوي كل المتبادلات بالقوة هو رمز الفعل أو العملة. والتواصل في ذروته الأعم التي تحتوي كل التواصلات بالقوة هي فعل الرمز أو الكلمة. فيصبح كل الوجود الإنسان من حيث هو كائن عضوي روحي محكوما برمزين: رمز الفعل أو العلمة وفعل الرمز أو الكلمة. ولذلك فالرؤية القرآنية تجعل دور التذكير ووظيفة البشير والنذير في ما يتعلق بقيم الاستخلاف الضامنة لأهلية الإنسان له مدارها أحكام هذين الأداتين أداة التبادل الأعلى وأداة التواصل الأعلى: فإذا فسدت أداة التبادل وأداة التواصل وتحولتا إلى سلطان على المتبادلين والمتواصلين فسدت كل القيم. وفساد الرمزين رمز الفعل (العملة) وفعل الرمز (الكلمة) هو ما يرمز إليه القرآن ببعدي العجل في دين العجل: فساد العملة أو مادة العجل التي هي الذهب (العملة) وفساد الكلمة أو صوت العجل الذي هو الخوار (الكلمة). وهذا الفساد المضاعف يفسد الدنيا والآخرة ولذلك فهو ذروة التحريف الديني. وينبغي هنا أن نذكر بالقيم في بعدها المادي وهي موضوع ما يقدر بالعملة والقيم في بعده الروحي وهي موضوع ما يقدر بالكلمة (صاحب كلمة مثلا). فالغش في العملة والربا يفسدان العملة والخداع في الكلمة والكذب يفسدان الكلمة. وإذا فسدت العملة فسد التبادل وإذا فسدت الكلمة فسد التواصل. وعادة ما يميز في القيم المادية (الاقتصادية) نوعان من القيم: الاستعمالية والتبادلية. وعادة ما يميز في القيم الروحية (الثقافية) نوعان من القيم: الجمالية التي تطلب لذاتها وتقبل الدخول في الاقتصاد والجلالية التي لا تقبل الدخول في الاقتصاد لكونها تتعلق بكرامة الإنسان. وأصل هذه القيم الاربع التي هي فروعه هو كيان الإنسان من حيث قيامه العضوي وقيامه الروحي. ومعنى ذلك أن كل القيم هي في الحقيقة منزلة أبعاد الإنسان “المادية” من حيث هو كائن ذو حاجات عضوية وأبعاد الإنسان الروحية من حيث هو كائن ذو حاجات روحية. والجامع لا يقبل البيع والشراء والتبادل. والقيم المادية أو الاقتصادية معلومة ولا تحتاج إلى شرح. لكن القيم الروحية بحاجة إلى شرح وخاصة الفرق بين القيم الجمالية والقيم الجلالية. فيمكن أن يشتري أمير مراهق لوحة بما كان يمكن أن يعالج حاجات جيل كامل من شباب شعبه لكنه لا يمكن أن يشتري شرف إنسان حر يفضل الموت على فقدان شرفه. الشرف قيمة جلالية لا يتنازل عنه أحد إلى إذا كان ذليلا ولا يفهم معنى الجلال. فتكون القيمة الرابعة من فروح الكرامة أسمى القيم لكن سموها علته جمعها بين كل القيم الفرعية الاربعة بمعنى أن الكرامة تقتضي أن يكون للإنسان سهم في الفروع كلها ليكون رئيسا بالطبع وأهلا للخلافة. الآفاق المنتظمة التي تترتب على الرؤية لأنها تجري في الإطار الممكن العام أعني في عالم المعاني وليس في عالم الدلالات تبدو وكأنها مبدعة لموضوعاتها التي تحيل عليها من جنس الميثولوجيا واليتوبيا وليست من جنس محاكاة موجودات سابقة الوجود عنها كما في حالة عالم الدلالات. ومعنى ذلك أن ضرورة إيجادها قبل علم عالم الطبيعة والتاريخ للعمل فيهما على علم شرط في علمهما والعمل فيهما بمقتضى علمهما الذي يصاغ ويعبر عنه بها. فالآفاق المنتظمة هي التقديرات الذهنية للنظر والعقد أساسا لعلم الطبيعة والتاريخ وهي التقديرات الذهنية للعمل والشرع للعمل فيهما على علم. فيكون الإنسان لا يستطيع أن يعلم الطبيعة والتاريخ ولا يستطيع أن يعمل فيهما على علم إلا إذا “خلق” عالمين من التقديرات الذهنية التي لا مرجعية خارجية لها من جنس الطبيعة والتاريخ ذوي الوجود المدرك بالحواس بحسب درجات تطويرها لمضاعفة فاعليتها بما يصنعه من أدوات لتقوية مداركها. فما من علم إلى وهو رياضيات تطبيقية وما من عمل إلى وهو أخلاقيات تطبيعية. فالطبيعيات والإنسانيات رياضيات تطبيقية أولاهما بوضوح تام ودقة متناهية والثاني تسعى إلى أن تصل إلى هذا المستوى لكنها تبقى دون ذلك لأنها أكثر تعقيدا ولذلك فالرياضيات فيها كيفية وليست كمية. فما من علم إلى وهو رياضيات تطبيقية وما من عمل إلى وهو أخلاقيات تطبيعية. فالطبيعيات والإنسانيات رياضيات تطبيقية أولاهما بوضوح تام ودقة متناهية والثاني تسعى إلى أن تصل إلى هذا المستوى لكنها تبقى دون ذلك لأنها أكثر تعقيدا ولذلك فالرياضيات فيها كيفية وليست كمية. إذا كان ذلك كذلك ولم نقل بالخلق عن عدم فلا بد من أن نعتبر المقدرات الذهنية بنوعيها ذات مصدر ما والفرضية الاقرب للرجحان هي أن للإنسان تلق من طبيعة مختلفة عن التلقي الحسي الذي هو الركن الثاني للعلم والعمل بعد هذا الركن الاول أو المقدرات الذهنية. فهل هي فطرية ويكفي تذكرها؟ هل يمكن القول بنظرية سقراط وأفلاطون فتكون من جنس الفطرة الدينية في الرسالة الإسلامية التي تقول إن الرسول لم يأت بعلم ليس موجودا عند الإنسان بل هو يذكر بعلم مركوز في ذات الإنسان المفطور عليه؟ لكن ألا يعتبر القرآن العلم مكتسبا وليس فطريا؟ فما هو المكتسب وليس فطريا؟ فرضية العمل عندي هي أن المكتسب هو العلم والعمل بالطبيعة والتاريخ أي العلم بما له مرجعية خارجية سابقة عنه والعلم فيه أي الطبيعة والتاريخ بما فيهما الذات الإنسانية لكن التقديرات الذهنية السابقة عنهما والمشروطة فيهما مبدعة لموضوعها وعلمه والعمل فيه وهي ليست من جنس الإدراك الحسي. ولنقل إنها من جنس القدرة على الإدراك الحسي. ولو افترضنا أن الإدراك الحسي مبدع لموضوعاته لكان هو بدوره من جنسها. لا نستطيع أن نسلم بأن الأدراك الحسي مبدع للموضوعات التي يدركها رغم أنه في الحقيقة مبدع لها بنحو ما لأن ما يدركه من الطبيعة والتاريخ يثبت له العلم أوهام بمنظور علمهما. فما نراه أو نسمعه أو نشمه أو نذوقه أو نملسه من العالم “المادي” طبيعيا كان أو تاريخيا نكتشف بالتدريج وبحسب تطوير أدوات إدراكنا الحسي بفضل ما نبدعه من أدوات تقوية فاعلية الحواس مختلف تماما عما ندركه بها مباشرة من دون هذه الأدوات. إنها مبدعات حواسنا وليست حقيقة العالم الخارجي. فلو افترضنا تطور أدوات الإدراك الحسي التي نصنعها لا متناهيا لكانت مستويات موضوع الإدراك الحسي غير المباشر بتوسطها لامتناهي المستويات وكل ما تقدم على المستوى “م” من المستويات “م -1 إلى غير غاية” هي من إبداع مستوى الإدراك الحسي السابق عليه فيكون “م” هو بدوره إبداعا لمستواه كذلك. هل معنى هذا أن القول بالوحدة المطلقة الصوفية هو الحقيقة؟ أعني هل حقيقة الوجود الخارجي لا تتجاوز هذه المستويات الإدراكية التي هي من صنع مستويات الإدراك الحسي؟ فيكون الإنسان صاحب هذه القدرة على “خلق” مرجعيات إدراكاته فيكون لنا مقدرات ذهنية ومقدرات حسية بحسب عالمين مختلفين؟ لكن الإنسان هو بدوره موضوع للإدراكين فهل هو بدوره مقدر ذهني ومقدر حسي فيكون بهذا المعنى مقدرا ذهنيا مبدعا لذاته المعقولة والعاقلة ومقدرا حسيا مبدعا لذاته المحسوسة والحاسة؟ ألسنا بهذه نؤله الإنسان أم نحن أمام نسخة ممثلة لحقيقة الإله دون أن تكون إلها وهو معنى الخلافة العميق؟ هل يكون هذا مجرد نسخة من الله تجعل الإنسان يعرفه بمعرفة ذاته لأنه في آن يدرك أن ما يمكن أن يغتر فينسبه إلى ذاته لا يمكن أني كون من “إبداعها ” بل هو تلق من جنس التلقي الحسي. فنحن نتلقى بالحواس معطيات تحيل إلى مرجعية خارجية نعلم أننا لسنا نحن صانعيها. ذلك أن عدم تناهي مستويات ما ندركه من الطبيعة والتاريخ أو العالم الخارجي الذي نسميه واقعا بتطور أدوات إدراكنا لا نصل فيه إلى لحظة يكون فيها إدراكنا هو موضوع ذاته وينتهي وجود المدرك الخارجي بل إن كل مستويات إدراكنا تبقى دون الإحاطة بالموضوع الخارجي. فيكون اللاتناهي هو استحالة استنفاذ الفضل بين إدراكنا وموضوعه. والفضل الذي هو لصالح الموضوع الخارجي يعني أن إدراكنا لا يحيط بالوجود وهو معنى استحالة رد الوجود إلى الإدراك بالمعنى الخلدوني ومعنى العلم غير المحيط لوجود الغيب أو عدم معرفة حقيقة الموضوع علما يلغي الفضل.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي