لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهمنزلة القرآن عقد التأصيلي والتحديثي في فهمها
وصلنا إلى الفصل الحادي عشر والأخير من المحاولة لنعرف قدر المستطاع أعقد مفهوم على الأطلاق في شبكة المفهومات الضرورية لعلاج المسألة مسألة ما يترتب على الرؤية القرآنية بوصفها استراتيجية توحيد البشرية بمشروع نقدي بنائي للتجربة البشرية في تحقيق شروط تعمير الارض بقيم الاستخلاف. تلك هي فرضية العمل التي اعتمدتها لقراءة القرآن قراءة فلسفية تحرره من اعتباره “صندوق أدوات” مباشرة فيها كل شيء بدلا من أن تكون رؤية تؤسس لنظام الآفاق المجهزة للإنسان: 1. ليقدر على تحقيق مهمتيه تعميرا للأرض واستخلافا عليها. 2. بإرادة حرة وعقل عالم وقدرة خيرة وحياة جميلة ووجود جليل. والرسالة الخاتمة لا تدعي الإتيان بالجديد بل التذكير بما هو مرسوم في كيان الإنسان العضوي والروحي وإزالة ما شابه من تحريف إما بالنسيان أو بتحريف محاولات التذكير السابقة لأن كل الرسالات لها نفس المضمون العقدي الذي يحدده القرآن حتى وإن تعدد الشرعات والمنهاجات. وتعددها مقصود لأنه هو فرصة التسابق في الخيرات حتى يتذكر الناسون ما فطروا عليه إما بأنفسهم أو خلال هذا التسابق عندما يتبين لهم تفاضل الشرعات وكأنها متوالية من مراحل التربية لتنمية الوازع الذاتي (الضمير) ولتنمية الوازع الاجنبي (القانون) مسارا لقانون القانون: الأمانة والعدل. وأولى علل تعريف العمل تعريفا جامعا مانعا هو أن اسمه الحقيقي هو “العمل على علم” لأن كل ما ليس على علم لا يسمى عملا بل هو اضطراب بايولوجي مثل الصرع أو حركات من هو في غيبوبة أو ترنحات السكير أو المريض بالرعشة. ومعنى العمل على علم الجمع بين خمس معان دقيقة. فلا بد في العمل على علم من: 1. غاية محددة 2. أدوات محددة ضرورية لتحقيقها 3. استراتيجية تصورية لمراحل الانتقال من البداية إلى الغاية 4. قدرة مادية لترجمتها إلى استراتيجية إنجاز متكيف مع الطواري في مدته 5. ما يعني قدرة خلقية للصبر والمواظفة والمراجعة الدائمة للعمل لأنه على علم. والشرط الأعسر هو الأخير: فكم من أهداف واستراتيجيات تصورية وأدوات وقدرات مادية تبذل ثم تذهب سدى فلا يتحقق الهدف ولا تثمر الاستراتيجية التصورية ولا تصلح الادوات ولا تفيد القدرات المادية إذا لم تكون مستندة إلى قدرة روحية عقلية تتكيف مع الطواري وتصابر وتثابر لتحقيق الهدف. وكان العمل مع لك قابلا لأن يكون أقل عسرا لو كان يمكن أن يحصل للفرد بل هو بالجوهر جماعي دائما. لا يوجد عمل مهما كان تافها يمكن أن ينجزه فرد مفرده ولهذه العلة لا يوجد مجتمع ليست الأعمال فيه مقسمة ومن ثم فهي متكاملة بالضرورة وخاصة في ما يتعلق بشأن جماعي وليس فرديا. والعمل الجماعي في كل أنواع العمل هو الأسمى سواء في النظر والعقد أو في العمل والشرع في تحقيق مطالب الإرادة أو مطالب العلم أو مطالب القدرة أو مطالب الحياة أو مطالب الوجود. والأول هو عمل السياسة والثاني هو عمل العلم والثاني هو عمل الاقتصاد والثالث هو عمل الفن والأخير هو عمل الرؤى. ورغم أن الإبداع لا يكون إلا فرديا فإن شروطه جماعية وثمرته للجماعة. وسأكتفي ببعض الامثلة وهي مناسبة للحسم مع خرافة المنطق الجدلي المبني على التناقض والصراع بدل التناغم والوفاق. وليكن مثالانا الأولان من فن الرسم وفن الموسيقى وهما أساس كل فن لأن مادتيهما هما أصل كل الوجود المحسوس. فالفن رغم كونه جوهر الروحي عند الإنسان لا يقوم إلا في محسوس متعين في المكان أو في الزمان. والأول هو حيز الرسم أو الأشكال السطحية أو ذات التضاريس غير الملونة أو الملونة. والثاني هو حيز الموسيقى الصامتة أو المصوتة غير الناطقة (أي صوت) أو الناطقة (صوت الإنسان: الشعر والغناء). ولنضرب الآن مثال الرسم المسطح الملون: هبنا أخذنا لونين الابيض والأسود بالتناظر مع الوضع والنفي بالمعنى الجدلي. السؤال: هل اللونان في الرسم يؤديان الوظيفة بالتناقض فيكون التقابل بين ناصح الابيض وظلام الأسود هو المؤدي لوظيفة الرسم أم الدرجات المتكاملة من اللونين وتناغمهما؟ الرسوم البديعة ليست ناتجة عن تناقض اللونين بل هي التي يتكامل فيها اللونان بصورة يكون تمازج النور والظل وتكاملهما فيها هو الذي يحققها ويبرز ملامح الرسم المحاكي أو المجرد في كل لوحة مكتفية بهما. وإذا تعددت الألوان أكثر من اثنين فالأمر يصبح أشد وضوحا ودلالة. أما في الموسيقى فلا حاجة لطويل الاستدلال: فالمستوى الارقى من الفن الموسيقي هو دون شك السنفونيات وهي لا تتألف من نشاز التناقض بين الأصوات بل هي تتألف من تناغمها. ولا أظن أنه يوجد دليل على سخف الرؤية الجدلية والصراعية في الوجود الطبيعي وفي الوجود التاريخ من هذين الدليلين. والعمارة رسم في أبعاد المكان الخمسة والآداب موسيقى في أبعاد الزمان الخمسة. سبق أن شرحت أبعاد الزمان الخمسة: الماضي له بعدان حدثه وحديثه حول حدثه الذي سبقه والمستقبل له بعدان حدثه عن احداث المستقبل التي ستليه والحاضر هو بؤرة الابداع الأدبي المؤلف منها خمستها خارجها. ولأول مرة سأتكلم على أبعاد المكان الخمسة في العمارة. فهي أولا تحتاج إلى أبعاد المكان الثلاثة التي هي الطول والعرض والارتفاع (وما دون الأرض لا يحسب لأنها المنزل مثلا يكون قد بدأ منه) والمشكل في البعدين الآخرين المناظرين للحديثين اللذين ينقلانا من الزمان الطبيعي إلى الزمان التاريخي. وهما في الحقيقة بعدان يشترك فيهما المكان مع الزمان عندما ينتقلان من كونهما بعدي الطبيعة إلى بعدي التاريخ. فالزمان يمر من ثلاثة أبعاد إلى خمسة بسبب الحديث حول الحدث السابق والحدث اللاحق والمكان كذلك يعد ذا صلة بالحدث السابق وبالحدث اللاحق. فكل منزل له هذان البعدان في العمارة. فهو بحد ذاته ثمرة الحديث عن العمارة السابقة بل هو بدوره حديث عن العمارة السابقة لكنه في آن حديث عن العمارة اللاحقة لأن صاحب المنزل تجده دائما متلهفا لجعل منزله يكون نموذجا للعمار اللاحقة فيكون عند من لم يحقق منزله ويبحث عن نماذج يحاكيها قبلة تحكي عن المستقبل المعماري. ولو أضفت مثالا آخر هو ذروة الفن وأجمل الفنون على الإطلاق وفيه ما هو مطبوع وما هو مصنوع. فالمطبوع هو الطبيعة وبدن الإنسان وما هو مصنوع هو ما يدخله الإنسان على الطبيعي خارجه وفي بدنه. فلا توجد امرأة لا تجمع بين المطبوع والمصنوع ولا توجد حديقة ليست جامعة بين المطبوع المصنوع. وما يزيد هذا المزيج بين المطبوع والمصنوع في بدن الإنسان رجلا كان أو امرأة أكثر مما يجعله يجمع بين رسم يجمع بين شكل المكان وحركة الزمان أعني الرقص. فالرقص حركة في الزمان ترسم أشكالا في المكان بكيان هو بدوره مشكل بتضاريس بدنه فهو إذن نحت متحركة وموسيقى صامتة. العجولون سيعتبرون هذا خروجا عن الموضوع. في الحقيقة لو لاحظوا أن الأمم التي تعمل بحق أي تعمل على علم بالمعنى الذي عرفناه في بداية هذا الفصل هي التي عرفت بالأبداع في الفنون التي ضربتها أمثلة لمعنى التناغم في العمل الفني والذي هو مشروط في كل عمل لأن كل عملٍ عملٌ فني بالجوهر. فإذا وجدت أمة “علماؤها” يحرمون هذه الفنون الخمسة التي ضربتها أمثلة تتعين فيها شروط العمل على علم -الرسم أساسه هندسة النسب المكانية والموسيقى اساسها عدد النسب الزمانية-فأعلم أنها أمة لا يمكن أن تبدع في أي مجال من مجالات العمل بل تكتفي بتقليد الموجود. وهو مناف الرؤية القرآنية. والأدلة كثيرة. فمنها ما هو ذو صلة بنمط الحياة الجاهلية التي لم يحرمها الإسلام بل استفاد منها وهي متعلقة خاصة بفنون الحرب والفروسية وفيها أهم خاصية يتعلق بها الامر وهي شروط النظام وتناغم الأفعال المتعددة المشروطة في العمل على علم لأن النظام فيه هو علامة كونه عملا على علم. ومنها ما له صلة بالعبادات نفسها. فالصلاة عامة وصلاة الجماعة خاصة من أهم رموز النظام والتناغم حتى إن أحد قادة الفرس عجب من كون العرب صاروا قادرين على العمل المنظم بهذه الصورة التي بهرته فقال ما لا يزال يقوله الفرس إلى اليوم محافظين على موقفهم ممن فوضوهم قبل الإسلام. ومنها ما هو أكثر دلالة على أن الموسيقى حتى وإن لم تكن خالصة قد مثلت العلاقة المباشرة مع أسمى عبادة وهي قراء القرآن. فتجويد القرآن موسيقى ناطقية بأفضل نطق وأفضل خطاب رسالة رب العالمين لخليقته. لكن علماء الانحطاط أهملوا كل هذه الإشارة فقتلوا الذوق خاصة والشعر انحط إلى التكدي. فالشعر كان من المفروض ألا يقتصر تأثره بأسلوب القرآن في مستواه الأول -وقد فعل-بل كان ينبغي أن يتأثر بمستوى أسلوبه الثاني وبروحه التي تتجاوز المادية الفجة للشعر الجاهلي. فالمستوى الثاني من الأسلوب القرآني أقرب إلى اساليب الأدب اليوناني منها إلى أساليب الشعر الجاهلي. ففيه التصوير الشعري لا يكون بالكلام بل بـ”المشاهد التمثيلة” التي تشبه التراجيديا (مدح الأبطال دراميا أي بالأفعال وليس بالأقوال) والكوميدينا (دم نقيض الأبطال دراميا كذلك) فضلا عن الابعاد الروحية ذات الرمزية الكونية بخلاف دوران الشعر الجاهلي على الذاتيات الفردية والفخر المقيت. وكان ابن رشد-وهذه من محامده-قد تنبه إلى هذه الخاصية في أسلوب القرآن لكنها لم يجرؤ لقول ذلك مباشرة فنسب الأمر إلى الكتب الدينية خلال شرحه لكتاب أرسطو في الشعر. ولا ضير في ما قاله لأن المقارنة لا تعني المساواة بين طرفيها. فالله يتكلم على نفسه بما يبدو تشبيها بالملوك وهو ملك الملوك. والتحدي بالقرآن كان ضد الكافرين به لكنه لا يعني منع محاكاة أساليبه في التعبير لأن كل ما يبدعه الإنسان هو محاكاة لأساليب الله في الخلق. فما من ابتكار إنساني وخاصة في التقنيات ليس هو مجرد محاكاة قاصرة لآيات الخلق. وكل ما نسميه فنون الذكاء محاكاة للعقل الإنسان وإذن محاكاة للخلق. وإذا كان القرآن لا يحتج على شيء إلا بالإحالة إلى نظام العالم الطبيعي وقوانينه ونظام العالم التاريخي وقوانينه ويعتبر ذلك من آيات الله والأدلة على وجوده وعل عمله على علم محيط فمن باب أولى أن تكون التربية والحكم محاكاة لهذين النظامين دليل عرفان لا عبار عن الكفران. فهذا هو معنى الاستخلاف: فما كان الله قد اختار الإنسان ليكون خليفته لو لم يكن قد جهزه بما يمكنه من أن يحاكي أفضل ما في الوجود فيخلص ما يماثلها مع النسبية طبعا والمؤمن الصادق لا يعتبر ذلك تألها وكفرانا بل هو يعتبره جوهر العبادة لأن محاكاة أخلاق القرآن وهي أسمى مخلوقات الله إيمان كنت أنوي ترك هذه البقية للغد لكن الكاتب شجعني على إتمامها رغم أن سرحته خوفا عليه من الإرهاق فبارك الله فيه والحمد لله أن المحاولة وصلت إلى غايتها حتى وإن كان كل مسائلها بحاجة إلى المزيد لكن لا بد من شد الزمام ومسك اللجام. ويكفي ما قلنا ولله الحمد والشكر على نعمائه.