منزلة القرآن، عقد التأصيلي والتحديثي في فهمها – الفصل الثاني عشر

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله منزلة القرآن عقد التأصيلي والتحديثي في فهمها

رغم أني ختمت البحث في الفصل الحادي عشر إلا أن النفس ما زال فيها شيء من حتى. لم أتكلم على عمل الدولة التي هي ذات الجماعة أو جهازها العصبي الناظم لعملها على علم. والغاية من البحث كله هي تحرير هذا العمل من عقد النقص التي يعاني منها نوعا النخب التأصيلي والتحديثي. والمثال المعروف في تقاليدنا ليس مقارنة الجماعة وعملها كذات على علم بالبدن ووحدته بل مقارنة العملين من حيث الانتظام بين الوظائف وخاصة علم وكل وظيفة بالبقية وتفاعلها معها فعلا وانفعالا. لكن ذلك لا ينفي أن كل عضو من الأعضاء العاملة معها والمتعاملة له اختصاصه ونجاحه يكون في أدائها. وقد سبق فبينت أن اعضاء الدولة العاملة بتناغمها وبقيام كل منها بوظيفته بحسب مقتضياتها هي النخب الخمسة وهي نخبة الإرادة أو الساسة بنوعيهم ونخبة العلم أو منتجو المعرفة بنوعيهم ونخبة القدرة أومنتجو شروط القيام بنوعيهم ونخبة الحياة أو الفنانون بنوعيهم ونخبة الوجود أو اصحاب الرؤى بنوعيهم. وسأضرب مثال من الفنون مرة أخرى للدلالة بمعنى “تؤدي وظيفتها كل بمقتضى اختصاصها”. وسأسمي هذا المثال من الفنون بالحاسة التي تؤديها: فعندنا عين الرسام وأذن الموسيقار وأنف العطار ولسان الطعام واللماس فيها جميعا لأنها كلها تدرك بالملامسة من العين إلى اللسان. فهذه الأعضاء تجمع بين الموهبة الإلهية في أعضاء الإدراك الحسي وتكوين صارم لهذه الموهبة للحصول على هذا النوع من الفنيين في أهم الفنون التي وصفت: عين الرسام وأذن الموسيقار وأنف العطار ولسان الذواق للسوائل وخاصة الخمور وكلها مصحوبة كما أسلفت بالملامسة بين الإنسان والمواد الخارجية. ويمكن أن نقول إن هذه الاختصاصات هي من جنس “الهوائيات الوجودية” التي لها من الدقة واللطافة ما يجعلها أسمى ما لنا من علاقة بالوجود الخارجي تجعل الجماعة بفضلهم قادرة على تحديد أرقى مستويات الذوق الفني للمرئي والمسموع والمشموم والمذوق والملموس مما حولنا من الطبيعة ومحاكاته بتقنياتنا. فالرسام والنحات يمكنهم أن يبدعوا بتقنياتهم ما يحاكي كل شيء بل وإبداع ما لا مثيل له في الوجود الخارجي ونفس الشيء يقال عن الموسيقار وعن العطار والذواق في الطعوم وكلهم من لطيفي اللمس بحواسهم الرهيفة. ونموذج الفنون تقاس عليه حاسة السياسي والعالم والمنت لشروط القيام وللرؤى. مشكل عمل الدولة هو إذن مشكل مضاعف: كيف تنتخب الجماعة هذه النخب في العمل كما تنتخب عين الرسام وأذن الموسيقار وأنف العطار ولسان الطعام بحاسة لمس أو تلق مباشر للمعطيات التي يتحدد بها قيام الدولة ونجاحها في تحقيق شرطي السياسة أعني الرعاية والحماية الذاتيتين. ثم كيف تعمل هذه النخب الخمسة بصورة تجعل عملها يكون مثل السمفونية في الموسيقى أو مثل البدن السليم في الحياة بصورة يتحقق فيها شرطان: أن تعمل كل نخبة بمقتضى وظيفتها بكامل الحرية وأن يكون الحاصل من عملها هو التناغم المجانس لتناغم الآلات الموسيقية في السنفونية المبدعة. فلأشرح أولا معنى “بنوعيهم” في الحالات الخمس: فكل واحدة من النخب هي كل الجماعة والمختصون منها بحسب المجال والاول فرض عين والثاني فرض كفاية بمعنى ان الجميع ساسة حكما ومعارضة ومنتجو معرفة إنسانية وطبيعية ومنتجو قدرة مادية أو رمزية ومنتجو فن بمواد خارجية أو بكيان الإنسان. وقبل ذلك وبعده منتجو الرؤى الدينية والفلسفية وهم نوع عجيب في كل الحضارات لأن اختصاصهم هو اللا اختصاص لكون الرؤى متقدمة على الاختصاصات ومرتبة لها وهي من جنس رئيس الفرقة الموسيقية في مستوى التصور وليس في مستوى الانجاز الذي يؤديه بنفس المعنى السياسي. فإذا تم انتخاب هذه الأصناف من النخب على أحسن وجه وأدت كل واحدة منهم دورها بمقتضى معاييره وقيمه فإن السنفونية تكون موجودة بينهم بالقوة خاصة إذا عملت النخبة السياسية بما آمنت به من الرؤى التي هي عين فهوم الجماعة في لحظات تاريخها المتوالية لمرجعياتها الروحية والعقلية. فالرؤى هي في الحقيقة استراتيجيات عمل على علم في أي جماعة. وطبعا فلا السياسي ولا العالم والقادر ولا الفنان هم مجرد آلات ناسخة للرؤى المعبرة عن المرجعيات الروحية والعقلية للجماعة بل هم بدورهم بحكم تربيتهم عليها بحرية خالية من الوساطة والوصاية لهم اجتهاداتهم الخاصة بهم. ولذلك فكلما كانت النخب حرة ومعبرة بكامل الحرية على فهومها كلما اقتربنا من تحقيق شروط الطابع السنفوني للعمل الجماعي وهو من طبع هدف عسير التحقيق لكنه شيئا فشيئا يتحقق فتصح الدولة وكأنها ساعة سويسرية تعمل بتناغم تام بمقوماتها الـخمسة:إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود. وليس هذا إلا قاعدة الأساس في عمل الدولة لأن امتحان فاعليتها هي في تطبيقاتها في وظائف الدولة المباشرة لحياة الجماعة اليومية في كل أنشطتها التي تعود بالأساس إلى علاج العلاقتين العمودية مع الطبيعة لإنتاج شروط الحياة العضوية والعلاقة الأفقية مع التاريخ لإنتاج شروط الحياة الروحية. وهذا هو المستوى الثاني من وظائف الدولة والذي هو في علاقته بالمستوى السابق من جنس التجربة الطبيعية في علاقتها بالنظر والعقد ومن جنس التجربة التاريخية ي علاقتها بالعمل والشرع. والمستوى الثاني يتألف من خمسة وظائف للحماية وخمسة وظائف للرعاية. فالجماعة لا تعمل بسلام في ما بينها -وهو شرط تقاسم الأعمال والتعاون ثم التبادل بالتعاوض العادل- من دون حماية داخلية وهي مضاعفة قضاء وأمنا ومن دون حماية خارجية وهي مضاعفة دبلوماسية ودفاعا وهذه الحماية بحاجة لأن تعمل على علم وذلك هو دور الاستعلام والإعلام السياسي في كل دولة. لكن قبل ذلك فالجماعة لا توجد ولا تبقى أصلا من دون القيام المتجدد دائما بإنتاج الإنسان نفسه تكوينا بالتربية النظامية والتربية الاجتماعية وتغذية لبدنه بالإنتاج الاقتصادي ولروحه الانتاج الثقافي وشرط ذلك عمل على العلم هو البحث والإعلام العلميين حول الطبيعة والتاريخ وحول الإنسان. ويكفي أن تنخرم واحدة من هذه الوظائف حتى تفسد البقية ما لم يقع تداركها أولا وتدارك السنفونية الحاصلة من عملها المشترك على علم تماما كما تعمل الجوقة الموسيقية بآلات أعضائها المختلفة بقيادة رئيس الجوقة الذي يراقب الإنجاز ويسيره. وهذا تقريبا هو دور الحكومة مع مراقبة المعارضة للأداء. وطبيعي أن يكون الامر شديد العسر لكن القاعدة الأساسية هي أنه كلما كانت النخب حرة ومتحاورة كان ذلك بخلاف أوهام المستبدين والفاسدين كلما تحقق التناغم أما إذا استبد أحد وخاصة رئيس الجوقة فأراد أن يصبح هو صاحب القرار في كل هذه الاختصاصات فإن النتيجة هي الانخرام والعقم الملقين. وهنا يأتي مثال عمل البدن. فإن لم يعمل جهاز الدورة الدموية وجهاز الدورة الغذائية وجهاز الدورة العصبية وجهاز المدارك الحسية كل بمقتضى وظيفته ولم يكن سليما فإن البدن يمرض ويصبح معوقا. وكذلك الامر بالنسبة إلى السنفونية فأي آله تفسد تدخل النشاز فيها فتفسد. وكذلك الدولة. والفساد يصيب العمل على علم الذي هو جوهر قيام الدولة بوظائفها من مدخلين: 1. مدخل الآلة المجردة التي هي نظام المؤسسات التي يتكون منها صورة الجماعة أو الدولة وهي جهاز آلي خال ممن القيمين عليه وهو المدخل البنيوي الآلي وفيه تكون الدولة شبه مكنة “قطعها” هي المؤسسات. كما يصيبها الخلل من: 2. من تتعين فيهم المؤسسات بوصفهم قيمين عليها وممثلين لدورها فيملؤون خانات لجهاز أو المكنة التي تتألف من منظومة المؤسسات ليجعلوها كائنا حيا وكل من يقوم على مؤسسة يكون ممثلا للجماعة وهو المقصود بالأمانة في مستويات القانون الشرط الاول فيه مع العدل شرطه الثاني. وهذا المستوى الثاني هو مناط البعد الخلقي من الدولة. الأول هو البعد التقني من الدولة والثاني هو البعد الخلقي من الدولة ويمكن قياس ذلك على علاقة نظام المكنة في السيارة والسائق. فالقيم على إحدى المؤسسات سائق لها وكأنه سيارة يمكن أن تفسد تقنيا كمكنة ويمكن أن تفسد خلقيا كسياقة. لكن المكنة تسهم في أخلاق الدولة إذا هي تطورت فتعضت أجهزتها بصورة تحول دون أخطاء السائق وتمكن من اكتشافها ومحاسبته على سوء سياقته وهذا هو دور القانون في الدول لأن مساءلة القيمين على المؤسسات لا تكون ممكنة من دون تجهيز المؤسسات بأدوات مراقبة القيمين: وهو دور خلقي كذلك. والقيمون لهم كذلك بعد تقني. فالقيم له كفاءة تقنية وله سلامة خلقية. فلا الاولى وحدها تكفي ولا الثانية بكافية بل لا بد من الاثنين: من هنا ضرورة تكوين القيمين على المؤسسات تقنيا وخلقيا. وبذلك وفيت بالمطلوب علما وأن ما في النفس من حتى لن يوقفه إلى مفارقة الحياة. والله هو الموفق. والثابت أمران: أن العمل على علم أي عمل على علم عمل جماعي حتى وإن بدا فرديا وخاصة عندما يتألف من شروط تمامه. فلا يوجد عمل فني كامل من دون المستويات الخمسة التي بينتها في إنتاج الثروة بضاعة كانت أو خدمة. فلا بد أولا من الفكرة ولا بد من المستثمر والممول والعمل والمستهلك. وذلك العمل الفني: فمثلا لو أخذنا أفلام السينما فلا بد فيها من صاحب العمل الأدبي والمستثمر الذي يكلف من يصوغها في سيناريو وممول للعمل ثم الممثلين وكل الطاقم المنجز للعمل ثم المستهلكين وهم في المقام الأول لأن المستعمر والممول لم يختاروا الفكرة إلا بعلم من حاجة المستهلك للمنتج. وكذلك الأمر في كل عمل يبدو فرديا حتى في إطار حياة الأسرة أو حتى في أقصى حالة وهي حالة الفرد المنعزل فهو لا يكون عملا إلى على علم بفكرة يستثمرها ويمولها ويستهلكها نفس الشخص في الظاهر لكن الفكرة والاستثمار والتمويل والاستهلاك كلها جماعية في شروطها وفي ثمراتها. لكن هذه الأبعاد تصبح بارزة حتى لفاقدي البصيرة في العمل الجماعي أي في الدول لأن الرؤية والسياسة والعلم والذوق والقدرة ببعدي كل واحدة منها مشاركة في أي منجز جماعي وخاصة في بعدي السيادة التي هي ممتنعة إذا لم تكن الجماعة قادرة على الرعاية والحماية الذاتيتين.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي