اعتبرت من واجبي رغم أني لست سياسيا أو بالأحرى لم أعد مباشرا للعمل السياسي -الذي التزمت به لسنة واحترمت التزامي فاستقلت من المجلس والحكومة بعدها- أن أدلي بدلوي في معركة الانتخابات التي تجاوزت التنافس السياسي إلى ما يشبه الاحتراب الأهلي البارد لأنه يقدم الصدام الحضاري على التفاوض السياسي.
وقد اكتفيت إلى حد الآن ببيان مخاطر المغامرة التي يقودها من يدعي لنفسه زعامة الثورة عديم القاعدة الشعبية. وهو مغتصب لقاعدة أصحبت “رزقا بلا أمالي” كما يقال بسبب الانخرامين اللذين أشرت إليهما سابقا في قيادة النهضة وفوضى مؤسساتها وبسبب خوف لا أفهمه اللهم إلا إذا افترضناه ناتجا عن سلوك بعض المنتسبين إليها خلال حكمهم بما يفيد أن لهم ما تخشونه من حكم الشعب الذي أزاحهم ديموقراطيا من السلطة في الإنتخابات الأخيرة.
وقد يؤيد هذا التعليل المحتمل للتلكؤ ترشح الكثير من الوجوه التي حكمت سابقا وكان من المفروض أن يتركوا الفرصة للشباب ويهتموا بتأطير الحركة خاصة وهم يعملون في وظائف محترمة يمكن أن تجعلهم قادرين على مساعدة الحركة في التنافس الديموقراطي بتمويلها من مداخليهم وترك المسؤولية التشريعية لشباب حائز على شهادات عليا عاطل كان يمكن أن يعزز منزلة الحركة في مجلس النواب ويوسع إشعاعها من خلال الوجوه الجديدة التي يمثلها شباب مؤمن بالقيم الحديثة وأصيل في نفس الوقت بدلا من مواصلة إشباع نهم بعض الوجوه التي تريد أن تحتل الواجهة تماما كالحال في ما يسمونه النظام القديم الذي لا يغادر الناس فيه الكراسي إلا إلى القبر.
وما كنت لأقدم على هذه المحاولات للمساهمة في تجنيب البلاد والعباد مغامرة قد تفقدنا النتائج التي تحققت والتي هي نتائج مهمة لا يستهين بها إلا من لا يفهم بطء التغيير لعطالة قرون من الانحطاك وعقود من الاستعمار. ولعل قبول النهضة بنتائج الإنتخابات الأخيرة و مبادرتها لتهنئة الحزب الفائز من المبشرات حول الشروع في بناء الدولة المدنية والديموقراطية .
وهذه النتائج لو ثبتناها ومتناها لجعلنا تونس مثالا يحتذى في التدرج السلمي نحو الغايات دون مزايدة أو استعجال لما هو أفضل وإن كان الأفضل ضروريا رغم أن طلب الأفضل غالبا ما يكون عدوا للفاضل إذا لم تحترم شروط الحذر في التغيير المتسرع. فتثبيت ما حصل من ثمرات من شروط النجاح. ويمكن أن نعتبر حصيلة الموجة الأولى من الثورة بداية طيبة لخروج الأمة من الإنحطاطين الذاتي والاستعماري والشروع في تكوين الدولة المدنية دولة المواطنة وعلوية القانون على الجميع.
أعلم أن الوقت لم يعد كافيا لإيقاف المغامرة. لكن محاولة الحد من آثارها ما يزال ممكنا. وعسر المهمة علته شبه امتناع الحسم المناسب للظرف في حركة النهضة لأن الخللين في مؤسساتها يجعلانها تفوت الفرص فلا تأخذ القرار المناسب في اللحظة المناسبة رغم أن ذلك هو جوهر القيادة. ولعمري فلكأن بعض القيادات يجعلهم خوفهم من سلوك لا نعلمه يؤمنون بأن “شنقة مع الجماعة خلاعة في النهضة”. لذلك فهم يدخلون الحزب ذا المرجعية الإسلامية الوحيد المتبقي (إذا ما استثنينا المغرب الأقصى) يمكن أن يحقق معجزة التوفيق بين قيم الأصالة وقيم الحداثة في مغامرة ستكون وخيمة في كلتا الحالتين سواء نجح المرزوقي أو خاب.
فمغامرة قدافي تونس المفلس أو المرزوقي وتعريضه شباب الثورة سواء كان من النهضة خاصة أو من غيرها ستكون أخطر في حالة نجاحه منها في حالة خيبته. ذلك أنه سواء قبل به الصف الثاني شريكا في الحكم – الصف الذي ربح النيابية- أو رفضه فإن وجوده على رأس الدولة سيكون مؤذنا بنهاية كل امكانية لإدارة الديموقراطية الناشئة إدارة حكيمة تثبت ما أسلفنا فتحقق بعض المطلوب لتحسين الوضعية وإعادة الأمن شرط التنمية فضلا عن الحصول على المساعدات الضرورية. فوجوده سيكون حائلا دون التعاون الدولي مع تونس إذ لم يحسن التصرف في الدبلوماسية التونسية فضلا عن ماضيه الحقوقي المزعوم الذي أفسد علاقاته مع جل الأنظمة العربية. وما أظنه مرغوبا فيه في الغرب وخاصة في الجوار المباشر لتونس.
والاحتجاج بأن وجوده سيحمي الثورة هو من جنس “الهروب من القطرة والوقوع تحت الميزاب”. أما الزعم بأنه سيتصدى لعودة النظام القديم فهي مزحة بل هي من أسخف الآراء إذ هو فاقد للقاعدة الشعبية اللهم إلا إذا أراد لشباب النهضة أن يكون وقود معركة ليست معركتهم إذا كان لهم إدراك بالوضع المحلي والإقليمي والدولي الذي لا يستهدف غيرهم. والمعلوم أن قدافي تونس سيكون بين خيارين :
- فإما الخضوع للأغلبية النيابية التي اختارها الشعب والقبول ببرنامجها كاملا فيكون طرطورا أكثر مما هو الآن لأن ما كانت توفره له الأغلبية الصديقة لن يناله من الأغلبية المعارضة لخياراته البهلوانية.
- أو يرفض ذلك فيحاول التنمر بدكتاتورية تدعي تدجين الجيش وهي أكبر مغالطة سوق لها مستشاروه الذين يتكلمون على منع الانقلابات فيكون مدافعا عن الدكتاتورية وليس على الديموقراطية.
وإذن فوجوده على رأس الدولة أخطر حتى من عودة النظام السابق لأن هذا النظام حتى لو سلمنا بصحة هذه الفرضية لا يمكن أن يعود بنفس الشكل بل هو سيضطر للعب اللعبة الديموقراطية لأن الشعب تغير بالفعل وليس في الظاهر فحسب.
وجوده سيدخل البلاد في أزمة أمنية واقتصادية لا يعلم غير الله مداها. ولعمري فإني أرى بيقين كل ذلك ماثلا مثلما ما سبق أن دللت عليه بيقين لا يرقى له شك أولا لفراستي في خفة عقل الرجل ومهرجيه بسبب عدم حكمته وبسبب تجاهله للمعطيات التي تتصف بها الوضعية المحلية والإقليمية والدولية وخاصة بسبب الوضع الأمني والاقتصادي للبلاد.
إن وجوده على رأس الدولة سيسد كل إمكانية للحصول على ما يمكن أن يستمد من التعاون الدولي من أجل إخراج تونس من أزمتها. وكم أعجب من دعواه إلى مناقشة البرامج واستعداده للمناظرة مع المرشح الثاني حول البرامج التي تمكن من إخراج تونس من أزمتيها الأمنية والاقتصادية. ولعجبي علتان بينتان :
- أولا أي معقولية في مثل هذا القول من رئيس لم يحقق شيئا من ذلك طيلة ثلاث سنوات مع أن الأغلبية الحاكمة كانت من صفه ويدعي تحقيقها عندما صارت الأغلبية البرلمانية في صف معارضيه؟
- وثانيا كيف له أن يكون ذا برنامج مع أنه لا سلطان له على مالية الدولة ولا قدرة له على استجلاب تمويل من التعاون الدولي ومن ثم فهو سيكون عديم العلاقة بمخططات الأغلبية البرلمانية مخطاطاتها الاقتصادية والتنموية؟
فإذا أضفنا أنه لا وزن لحزبه في السلطة التشريعية التي لا تتماشى معه في تهويماته الصبيانية (مثل الحريات الخمس أو التدخل في خلاف بين جارين عمره عقود لم ينجح في تحريكه عمالقة العالم وسياحاته العقيمة التي رأينا عقمها في السنوات الثلاث الماضية) فإن الرجل سيكون مقيدا لا يستطيع حتى الخروج من قرطاح لأن تصرفه في ميزانية الرئاسة يمكن أن تتدخل فيه السلطة التشريعية لترشدها بصورة تحول دون سفرات تكلف ما لا يطاق ولا تثمر إلا أصفارا.
لكن ما أعجب له أكثر هو المنطق الذي يفكر به المندفعون من الشباب معه في هذه المغامرة. كيف لا يفهمون وفيهم من لا أشك في ثقافته وإخلاصه للوطن والثورة أن هذه المغامرة ستؤدي إلى نتيجتين تنهيان إلى الأبد ليس الثورة فحسب بل كل ما حققته من نتائج لا يستهان بها (التعددية وحريات التعبير والتجمع والتضاهر والدستور والانتخابات). فسنصل إلى مرحلة يصبح مجرد الكلام على الثورة مما لا يريد الشعب سماعه.
فالشعب الذي سيعاني من فقدان الأمن بمعناه الشامل أعني شروط حمايته وشروط رعايته بسبب ما سينتج من سد لكل الأبواب أمام مقومات التنمية سيستدعي الدكتاتورية ويكفر بالحرية لأنه سيعتبر الدكتاتورية رحمة بالقياس إلى عنتريات قدافي تونس المفلس ومهرجيه الذين يتصورون الصدام سيكون مقصورا على الكلام في الفايس بوك وليس حربا أهلية لن تبقي ولا تذر كما نرى ذلك في سوريا ومصر وليبيا. ومعنى ذلك أن هذه المغامرة لن يستفيد منها إلا صنفا الإرهاب :
- الرمزي الذي يمثله توظيف غلاة اليسار والذي سيصبح إرهابا مسلحا لأنه سيقوي الإرهاب المادي.
- المادي الذي يمثله توظيف غلاة الإسلاميين والذي سيعم لأن المعركة ستصحب بين فريقين متعصبين يتصوران تونس ساحة معارك بين مراهقين في الجامعة.
وبذلك يصبح للأقليتين الهامشيتين القدرة على منع جهود المصالحة الوطنية بين تياري حركة التحرر التونسية أعني مرحلتي الدستور التونسي الثعالبية والبورقيبية الللتين تكونان قد تجاوزتا الصراع الحضاري وتكتفيان بالتنافس السياسي في مجتمع سوي متصالح مع ذاته ومع الحداثة. ولما كنت دائما أعتبر نفسي جامعا بين التوجهين في شكل يتجاوز ما جعلهما يفترقان : الثعالبية المتصالحة مع الحداثة والبورقيبة المتصالحة مع الأصالة فإني لن أبقى مكتوف الأيدي وسأناضل ما استطعت إلى ذلك سبيلا لمنع المجانين من الوصول إلى حكم تونس. حاولت لمنع ذلك في المرة الأولى فلم أنجح. وأحاول الآن وإن شاء الله سأنجح.
إن كل أقطار الوطن العربي سواء بصورة ذاتية أو بصورة موظفة من المخابرات التي تسعى فيها الثورة المضادة بسند من القوى الاستعمارية إلى التصفية التاريخية للأحزاب ذات المرجعية الإسلامية بسبب ردها كلها إلى غلاة حقيقيين أو صناعيين (من قبل المخابرات) بدعوى أن الإسلام السياسي هو أصل الداء ولعدم الاعتراف بأن الحقيقة هي لأنه يمثل المنافس الحقيقي الذي قد يختاره الشعب ديموقراطيا لإدارة شؤونه العامة.
لذلك فالطبقات الحاكمة في الأنظمة القبلية والعسكرية العربية تحاول تغطية فشلها في التنافس السياسي بتحويله إلى صدام حضارات حول نمط المجتمع من خلال استعمال الإرهابين الذي يريد أسلمة الناس بالعنف والذي يريد تحديثهم بالعنف : عدم الاقتصار على التنافس السياسي والانتقال إلى الصدام الحضاري يلغي كل إمكانية لاستقرار الأوضاع ويحول دون الشعب والتفرغ لعلاج مشاكل الحماية والرعاية التي هي شرط كل حياة جماعية سوية.
ومثلما أن غلاة اليساريين يريدون توريط النداء في صدام الحضارات باسم قيم الحداثة والديموقراطية قيمهما التي هم أبعد الناس عنها مشترطين منع كل مشاركة للأحزاب ذات المرجعية الإسلامية في إدارة الشأن العام رغم أن الشعب أعطاهم ثقته فإن غلاة الإسلاميين يريدون توريط النهضة في نفس الصدام باسم قيم الأصالة والدولة الإسلامية قميهما التي هم أبعد الناس عنها. والمشكل أن قائدي هذا الخيار الهدام بفرعيه يساريان وعلمانيان : حمة الهمامي ومهرجوه والمرزوقي ومهرجوه. وهذان هما الإرهابان اللذان ستكون مغامرتهما إن استمع إليهما الحزبان الأكبران منطلقا لمخاطر الحرب الأهلية التي تدق على الثغور من كل الجهات.
أبو يعرب المرزوقي