**** منتدى الأناضول، رؤية لوعي الأمة وشخصية المسلم
ولهذه العلة ركزت مشاركتي في الندوة على المسألة التالية-وستنشر المداخلة إن شاء الله في اليوتيوب-: “ما الذي يصل بين وعي الأمة وشخصية الفرد المسلم” في فهم الفرد لظرف التحديات التي تعترض الأمة وفي ابداع شروط تحويلها إلى فرص النهوض المستقل دون قطيعة مع تجارب أمته وغيرها من الأمم؟
وبعبارة وجيزة: ما الذي تضيفه صفة “مسلم” لشخصية الإنسان الذي ينتسب إلى حضارة الإسلام في اللحظة التاريخية الحالية والتي قد تشعره بأنه مستهدف من اتصافه بها؟ وكيف ينبغي ألا يجعله ذلك في موضع من يرد الفعل بدلا من أن يكون فاعلا سعيا لتحقيق شروط الاستئناف بدلا من معارك جانبية تفرض عليه؟
فالكوني في التحديات وفي تحويلها إلى فرص هو الفعل الذي يجعل التعامل معها وليس مع ما يراد له أن يغرق فيه من معارك جانبية تصرفه عن تحقيق شروط السيادة بصنفيها: • الصنف المتعلق بعدم التبعية في الرعاية • والصنف المتعلق بعدم التبعية في الحماية. فهذان هما شرطا السيادة والحرية والكرامة.
هدفي من المحاولة يمكن أن يلخص في كلمة واحدة: كيف ينتقل المسلم من رد الفعل إلى الفعل؟ أو كيف يصبح مستقلا في الرؤية التي تحقق شروط الاستئناف؟ بدلا من أن يجعل أفعاله ردود أفعال على رؤية تجعله كما يراد له معتبرا ماضيه عائقا دون مستقبله الذي يراد له أن يكون نسخة من ماضي غيره.
وبعبارة أوجز: كيف يتخلص المسلم من كاريكاتور التحديث الذي يواصل مهمة التحضير العنيف الاستعمارية التي تجعله يؤمن بأن مستقبله هو تكرار ماضي الغرب من بداية نهوضه إلى اليوم بدلا من أن يبدع مستقبلا يكون مستندا إلى قيم كونية يشترك فيها الإنسان الذي له قيام ذاتي روحي ومادي فيبدع مستقبله؟
وهذا يعني نوعين من الاستقلال: • معرفي (ابستمولوجي) • وقيمي (أكسيولوجي) لا يكون مستقلا إلا بشرط الكونية من حيث الماصدق والمثالية من حيث المفهوم. فالمعرفي والقيمي كلاهما مفهوم مثالي يشمل كل الإنسانية لكن تعينه متعدد بتعدد الأساليب الحضارية لتحقيق المثالي والقيمي وتعيينها التاريخي. فيكون الإشكال كله متعلقا: بكونية المفهومي وعينية التاريخي. لا يمكن للقيم الا تكون كونية من حيث هي مثل عليا، لكنها لا يمكن أن تحقق في التاريخ إلا إذا تعينت كونيتها في أسلوب حضارتها التعييني. وهذا هو معنى “شخصية” الفرد المسلم. والنسبة تناظر النسبة بين المعنى والمبنى في اللسان.
فالمعاني الكونية تقال بمبان معينة هي اللغات المختلفة. ولولا كونية المعاني المتجاوزة لعينية المباني لاستحال التواصل بين البشر ولكانت الترجمة من ثم مستحيلة. كذلك الأمر في ما يتعلق بالإبداع الحضاري. فموضوع القيام المستقل في الرعاية المادية والروحية وفي الحماية الداخلية والخارجية. وبهذا المعنى، فالانحصار في رد الفعل علته المقابلة بين الأساليب لجعل المسألة وكأنها خيار بينها وليس بين دورها في أداء المعاني معرفيا وقيميا. تصور أن كاريكاتور الحداثة يريد أن يفرض علينا مباني لغة أجنبية بوحدتها الوحيدة المحققة لما يعتبره قيما كونية فيجعل لغة المستعمر شرط التقدم. ومن علامات ذلك ما حصل في المغرب العربي: فأدعياء التحديث تصوروا أنه مشروط بالاستغناء عن العربية وتعويضها بالفرنسية، وبدلا من تعريب العلوم فرنسوا الشعوب. ولما كان ذلك دليلا على الغباء وسخفا في اختيار الطريقة الأنجع والأنسب، خسروا الأمرين لا علوم ولا لغة. جعلوا الشباب أبكم وعيي. لكن المسألة أخطر في قضية التحديث الشامل: فعندما تأخذ الحداثة بالمقلوب أي من غايتها بدلا من بدايتها، فأنت تجعلها مستحيلة التحقيق. ولنأخذ مثالا شديد الوضوح: فلو كان الغرب في بداية تحديثه قد اشترط ما صار ممكنا لاحقا لاستحال التحديث. ما حصل في الغرب لا يقبل التكرار لعلل بينة. لم يكن له منافس يحول دونه والتفرد بأمرين: تحقيق المنجزات واستثمارها للاستفراد بثروات العالم كله بعد استعمار عباده وقواها الإنتاجية وبلاده وثرواتها الطبيعية. لكن الأهم أنه لم يكن يعطي للعمل ما صار يعطيه له من حقوق. فأمكن حينها بناء القاعدة الأساسية للإنتاج المادي وللبحث العلمي. وهذا الشرطان منعدمان عندنا وتحقيق ما صار ممكنا من حقوق العمل في غياب القاعدتين الأساسيتين يجعل التصنيع مثلا مستحيلا في كل بلاد العرب. لكن الآسيويين -ولذلك فهم جاذبون لراس المال الغربي- لم يثقلوا كاهل مؤسساتهم الاقتصادية بما يطالب به العمال العرب حتى تكونت عندهم القاعدتان. وعلموا أن الشرط الأساسي هو الحجم: فكونوا وحدات تعاونية في آسيا جعلت الحجم الصغير يصبح كبيرا بسوق مشتركة وتعاون يمكن من شرط الحجم الذي من دونه تمتنع التنمية المادية وشرطها العلمي والتقني. لكن كل بلاد العرب تخضع لحدود حديدية يمنع عليها التعاون فتصبح بحجم لا يمكن من التنميتين.
والمثال القاطع هو إفلاس التصنيع الجزائري والعراقي والمصري وكل محاولات العرب التي لا تتجاوز حدود القطر، لأن كل دولة عربية تابعة لمستعمر الامس في كل شيء وليس لها سيادة تمكنها من تحقيق شروط الرعاية فضلا عن سيادة تمكنها من شروط الحماية بمقتضى الحجم القزمي: هي محميات وليس دولا. من سيترك السيارة الألمانية ويشتري السيارة الجزائرية أو المصرية خاصة وكلفة هذه ربما أكثر من كلفة تلك فضلا عن فرق الجودة؟ فيصبح كل بلد عربي تابعا بالجوهر وكلما توهم أنه بدأ يصنع اقتصاده مثلا يكون في الحقيقة قد أوغل في التبعية فيكون قد جعل بلاده مصبا لفضلات حماية المستبدين بأمره. لن أورد مضمون الكلمة بتفاصيله لأنه سينشر في اليوتيوب، لكني أذكر أهم المسائل التي حاولت علاجها وتقديم أجوبة تنقلنا من رد الفعل إلى الفعل: 1. هل فقدت الأمة الوعي بشروط وحدتها التي تحقق شروط السيادة في الرعاية والحماية؟ 2. كيف نسترد هذا الوعي لنسهم في نظام العالم الجديد؟ 3. ثم ما الذي يمكن أن نستعيده باسترداد الوعي بهذه الشروط؟ 4. كيف ينتقل الوعي من الأذهان إلى الأعيان باستراتيجية تطبيق النظر في العمل على علم؟ 5. وكيف يتحقق ذلك في شخصية المسلم بالتربية (علم وخلق) وبالحكم (سلطة القانون والانتاج الاقتصادي والثقافي للتحرر من التبعية المادية والروحية)؟ وبذلك، فالإشكال كله إشكال سياسي متعلق ببعدي كل سياسة ذات استراتيجية فاعلة بدلا من التبعية المنفعلة: • أولا تربية المسلم العلمية والخلقية ليكون مبدعا لشروط السيادة رعاية (الإنتاج الاقتصادي والثقافي) وحماية (تطبيقاتها التقنية والاقتصادية). • حكم القانون والاكتفاء الذاتي شرط السيادة. وهذا يعني أن المسلم في وضعه الراهن ليس له نظام تربوي يحقق شروط الإبداع المحرر من التبعية المادية والروحية. فالنظام الذي يسمونه إسلاميا لم يخرج من الكلام الوعظي ولا يحقق شروط سد الحاجات المادية والروحية لجماعة دينها شرط أمرين في قيامها: تعمير الارض بقيم الاستخلاف. والنظام الذي يسمونه تربية حديثة لم يتجاوز إيديولوجيا الحداثة إلى شروطها العلمية والتقنية والأبداع المنتج للثروة وللتراث. أفسد تربية تدعي الحداثة مآلها الحرب على الموجود دون أن يكون لها تصور للمنشود إلا في ما يتعلق بثمرات الحداثة وليس بشروطها: العيش الحديث دون شروطه الإبداعية. وكلا النظامين التربويين يتجاهل أن الشروط تتعلق بالحجم وبالرؤية: فما فرض على أوروبا التوحيد رغم ما بين دولها من تاريخ أسود هو اعتبار هذين الشرطين: الحجم المناسب لعصر العولمة رغم ما لدولها من حجم ورؤية تتجاوز الدولة القطرية والقومية. لا توجد دولة أوروبية بحجم أمريكا أو الصين. فلا يمكن لأي دولة أوروبية أن تنافس أمريكا في الطيران المدني فضلا عن الطيران العسكري وفضلا عن مشروعات البحث العلمي الاساسي أو غزو الفضاء فضلا عن الحماية من الأعداء. لكن النخبتين العربيتين التي تدعي الأصالة والتي تدعي الحداثة ما زالتا تعيشان على رؤى عالم مات وفات.