**
تعجب الكثير من القراء من التوقعات التي ظنوها سوداوية. ويعلم الله أني حاولت أن أكون فيها قدر المستطاع متفائلا. فقد تركت جانبا السيناورهات الآتية بعد الانتخابات الرئاسية رغم إشارتي إلى أن الحكومة ستعمل بحلف معلوم الدعامتين بين لكل ذي بصيرة إلا من أراد أن يتعامى عنها: وهو عين الحلف الذي حكم به ابن علي بين اليسار والتجمع. وقد كان الأول للزينة وكان الثاني حمار الأعراس. وتلك علة تخليهما عنه في الانتفاضة بين 17 ديسمبر و14 جانفي سنتي 10 و11 بعد الالفين فقبلا بسقوطه السهل قياسا إلى ما حدث في ليبيا وسوريا.
أما الآن فاليسار يريد التطبيق الجذري لما كان يأمله الشرفي في مستوى التربية والثقافة وهما سيكونان من نصيب اليسار مع إحدى وزارات السيادة حتى يكون التنكيل رمزيا (في وزارتي التربية والثقافة) وفعليا في العدل أو الداخلية. وهذا اصبح مطلوب الإقليم بمساندة واضحة من الغرب الذي بات يخشى حكم الإسلاميين بدعوى الخوف من الخلافة الإسلامية.
وتلك هي العلل التي جعلتني اعتبر ما حدث ليس ثورة بل انقلاب ضمن المجموعة الحاكمة لإستعادة النفوذ من ابن علي وأسرته انتهازا لفرصة الانتفاضة الشعبية. وهو ما فعلوا بعد أن استفادوا من الفخ الذي نصبوه للنهضة بعملية حدثت بنفس الطريقة في مصر: تركهم يحكمون ومشاغبتهم لمنعهم من النجاح حتى يفطموا الشعب عن أي أمل في اختيار حكامه. كل ذلك نبهت إليه سرا وعلانية في محاضرات عند التميمي وفي الجاحظ وحتى في الجزيرة.
ماذا يمكن أن يحصل بعد الرئاسيات؟
فرضيتان لا ثالثة لهما:
1-الفرضية الأولى:
إما واحد يرضاه اليسار والنداء لأنه منهما: وعندئذ سيكتفون باستعمال قوة الدولة وأجهزتها في ما وصفت أعلاه. ولما كان يصعب أن يقبل النداء نجاح الهمامي ويصعب أن يقبل من نظم الإطاحة بابن علي وإن بصورة غير مباشرة بالا يكون الرئيس من اختياره فإن المعركة الرئاسية لن تكون بين الثوار والثورة المضادة بل هي في الثورة المضادة نفسها وقد حان أوان جني ثمرة ما قاموا به لاسترداد سلطانهم.
وأمنيتي أن يؤدي الخلاف بين النداء وثعلب العهد الماضي إلى إفشال الخطة اليسارية الندائية -والقسم اليساري منها أخطر لأنه اليسار ينوي الذهاب بالحرب على الإسلام إلى غايتها كما في مصر- وهي التي وصفت أعلاه. فإذا كان الرئيس مستقلا عنهم دون أن يكون ممن يدعون الكلام باسم الثورة فإن ذلك قد لا يسرع اللجوء إلى الانقلاب بالطريقة المصرية وبصورة أكثر خبثا بل هو سيغني عنه: أي إنقلاب بتهييج الشارع وببقاء الأمن متفرجا مع عجز الجيش أو تواطؤ بعض القيادات التي ستعود مباشرة بعد الانتخابات.
2- الفرضية الثانية
أو يكون واحدا ممن يمكن أن يكون نجاحه في انتخابات الرئاسة “كاتاليزور” لتسريع لجوء الجماعة للحل المصري. فنجاح المرزوقي وهو مستبعد كثيرا-والشابي وابن جعفر انتهيا إلى الأبد والمرزوقي حسب رايي هو أيضا قد انتهي منذ بدأ- لكن الضجيح واللغط من حوله ما زال “خداما” وقد ينجح فتذهب الجماعة مباشرة إلى الحل المصري بصورة أخبث كما وصفت أعني ما كانوا يريدون تطبيقه قبل حل الحوار الوطني المزعوم: إنقلاب بتحريك الشارع في غياب الأمن والجيش اللذين سيتواطئان بقصد لا نحتاج للتدليل عليه.
سيلجؤون إلى السيناريو المصري حتما بصورة أخبث كما أسلفت: أي إن الانقلاب لن يكون بالضرورة بالجيش الذي ينزل فعلا فيحتل الشارع بل بالأمن الذي يتخلى عن حماية مؤسسات الدولة فتحلتها حركة شارعية كانوا يريدون تطبيقها في تونس قبل فرض ما يسمونه الحوار الوطني وقد تركوها لأن الحوار حقق لهم المطلوب.
لكنهم مستقبلا لن يكتفوا بذلك بل سيطبقون ما هددوا به بعد اغتيال الإبراهمي في اعتصام باردو كما ذكر الشابي الثاني. وعندئذ ستكون المعركة دامية إذا تصورنا الثوار مستعدين لذلك. وهو مستبعد كذلك لأن الثوار ليس لهم صف موحد وقد لا يكون له صف أصلا فضلا عن كون تونس لا تتحمل ما تحملته الجزائر سابقا وتتحمله ليبيا حاليا: إذا توقف العمل الذي هو الثروة الوحيدة فستتوقف الحياة. ليس لتونس بترول ولا غاز.
طبعا لا أقول هذا للتخويف أو لمنع الثوار من الدفاع عن أفكارهم بل حتى يستعدوا على بينة من المآل الممكن الذي لا أتمناه ولا أريده لكني لا أخشاه لأني أتوقعه بمقتضى المناخ الإقليمي والدولي لأن السماح للسيسي بالتدخل في ليبيا عن طريق العميل حفتر يجعل الخطر قادما إلى تونس: فما يخيف هو المفاجئ وغير المتوقع.
والسؤال هو: هل الذين يريدون هذا السيناريو من دعاة انتخاب المرزوقي مستعدون حقا للنزال أم هي ثرثرة شباب غير منظم ؟ وهل المرزوقي اثبت في السنوات الثلاث قدرة على تجميع التونسيين على مشروع إيجابي يتجاوز البناء على الأوهام بدل البناء على حقائق الشعب بالاعتماد على الواقع التونسي المعقد والذي لا يمكن أن يسوسه رئيس لا يقبل به جل الشعب بدليل فشل حزبه في الانتخابات وتحلله قبلها فضلا عن المحيط العربي والغربي مع ما عرف من ارتجال متناف مع الرصانة الضرورية لتمثيل دولة محدودة الإمكانات وتابعة إلى الأذقان حماية ورعاية ؟ كيف ستعامل مع المحيط العربي وكله لا ينسى مواقفه لما كان حقوقيا وحتى بعد أن أصبح رئيسا؟ وهل يمكن أن يكون شرعيا من حزبه لم يحصل على أكثر من كريسيات لا تسمن ولا تغني؟
أنا شخصيا كنت ضد اختياره رئيسا حتى في المرة الأولى لكن قيادات الحركة الإسلامية التي لم أكن منتسبا إليها حزبيا لم يقتنعوا بكلامي . ولا زلت على هذا الرأي: تونس تحتاج إلى رئيس متحرر من الثورة الشعارية وقادرا على نسيان ذاته. لكني أدعو ولا زلت إلى عدم تمكين الخصم من فرصة الصدام في ظرف إقليمي ودولي يعمل لصالحه خاصة والاستعداد لهذا الصدام شبه منعدم لأن الثورة لن تكون كالمرة الأولى بل لنا منها نماذج في مصر ولييبا فلا عما حصل ويحصل في سوريا.
ولو كانت الثورة المضادة تعلم أنه موجود لترددت كثيرا. ولما صرحت علنا عن خطتها ولما نجح اليسار في الحصول على المرتبة الثالثة لولا السند البين للاتحاد العام التونسي للشغل الذي هو رديف التجمع منذ الصراع البورقيبي اليوسفي: وفي الختام فإن كل ما أقدمه هنا ليس وحيا ولا هو حتى من بنات أفكاري بل هو ملخص تصريحات اليسار وتأليف بينها مع خطة النداء من البداية خطته المتمثلة في تقديم نفسه سدا منيعا باسم الديموقراطية ضد ما يزعمه ظلامية إسلامية. اكتفيت بقراءة الصريح منها وربطها بالضمني الوارد بين سطورها دون حاجة لبراعة متجاوزة للمعتاد.
وأملي كل أملي أن يكون تحليلي خاطئا مائة في المائة: فلعل النداء يكون قد تعلم من فشل بورقيبة وابن علي في القضاء على الثعالبي وابن يوسف متعينين في تمسك الشعب بهويته وأصالته فيتحرر من هذه الأوهام التي قد تجعله يربح جولة لكن نهايته مثل السيسي وحفتر وسفاح دمشق ستكون القاضية ولو بعد حين: لأن هؤلاء المجرمين هم كاتاليزور الثورة الحقيقية التي لن تبدأ إلا في الجولة الثانية عندما يتأكد الشعب أنهم سيكونوا أفشل منا كانو طيلة نصف القرن الماضي فضلا عن حربهم على الإسلام والهوية وتبعيتهم وعمالتهم للاستعمار وإسرائيل.
وآخر كلامي للمؤيدين للتصويت للمرزوقي سيكون سؤالا بسيطا: هل أنتم مستعدون حقا للنزال؟ وهل تعلمون أنه لا يقتصر على الانتخابات بل هو يبدأ خاصة إذا نجح المرزوقي كما وصفت هنا. أقول ذلك رغم شبه اليقين عندي أنه لن ينجح.
المنتظر بعد الإنتخابات : ما أتوقعه و لا أتمناه – أبو يعرب المرزوقي http://wp.me/p4ZS3x-u