ملاحم الأمة بين الواقع والمثال 02 من 05

**

لما حاولت صباح هذا اليوم الكلام على ملاحم الأمة وكيفية تنزيلها بين الواقع والمثال اقتصرت على مقوماتها الأساسية ولم ابحث في تفاصيل أي من هذه المقومات. فالهدف كان تحديد طبيعة العلاقة بين الفنون التي لا بد من وجودها في الشعر الملحمي حتى يكون شاملا للفعل الإنساني الجماعي وحتى الفردي بما هو معبر عن الجماعي في شكل أفعال تتعين فيها القيم التي تمثل روحانية الجماعة.

فحصرتها في أصل هو حقيقة الإنسان من حيث صلته بالمطلق صلته التي سماها القرآن تكريما واستخلافا والتي تتعين في مقومات كيانه وفي أربع مجالات تتعين فيها هذه الصلة من حيث هي أفعال الإنسان الجمعية المعبرة عن مقومات الكيان :

الفعل السياسي أو التصوير المادي في الأعيان للوجود الإنساني

والفعل التربوي أو التصوير الرمزي في الأذهان للوجود الإنساني (ما يسميه ابن خلدون بصورة العمران بمعنى التصوير وليس بمعنى الصورة الفلسفية)

والفعل الاقتصادي أو الانتاج المادي والفعل الثقافي أو الإنتاج الرمزي لشروط قيام الوجود الإنساني (ما يسميه بمادة العمران : بمعنى المقوم مصدر المدد وليس بمعنى المادة الفلسفي).

ووصف هذه المقومات بصورة درامية أي بعرض لها بما هي أفعال وليس بما هي أقوال ذلك هو جوهر الشعر الملحمي وهو قابل لأن يكون مادة للعرض المسرحي الذي يحاكي الدراما الإنسانية أعني تاريخ العمران والاجتماع بلغة ابن خلدون.

فماذا الآن؟– استكمالا لما حاولنا تحديد مفهومه هذا الصباح – لو حاولنا تفريع هذه المقومات في تعيناتها الجمعية وفي صداها في النفس الفردية؟

ذلك ما سنحاوله في القسم الثاني من هذه المحاولة لنعين الشكلين الأساسيين لمضامين الملاحم بمعناها الذي حددنا هنا مع ما يترتب عليهما من تأثير متبادل بينهما ومن حصيلة هي في آن أصل للشكلين وللتفاعلين:

1-الشكل الأول : ففي التعينات الجمعية في الأعيان نبقى في الشكل الملحمي بما هو أفعال درامية للعلاقات الجمعية.

2-الشكل الثاني : وفي التعينات الفردية في الأذهان يصبح الشكل غنائيا إن صح التعبير بمعنى الوعي الشعري بصدى تلك الأفعال في أعماق النفس البشرية وبردود النفس عليها.

3-التفاعل الأول : أثر 1 في 2 : أي أثر الملحمي في الغنائي كل البطوليات.

4-التفاعل الثاني : أثر 2 في 1 أي أثر الغنائي في الملحمي : كل اليتوبيات.

5-أصل المقومين والتفاعلين هو ما أطلقت عليه مفهوم الشعر المطلق (راجع كتاب الشعر المطلق والإعجاز القرآني دار الطليعة بيروت 2000) والذي هو كامن في قدرة الإنسان مهما كان فاقدا لحس التعالي على الواقع للوقوف منه موقف المقوم له بأصناف القيم التي هي مصدر الحياة الروحية كلها عند الفرد أو الجماعة لأن هذه القدرة هي جوهر الإنسان وهي التي لأجلها اعتبر الخالق الإنسان أهلا للاستخلاف رغم حجج الملائكة وحجج إبليس لإثبات عدم أهليته.

فالقدرة على التسمية بعد أن علم الأسماء كلها مشروطة بهذه الدرجات من الوعي التقويمي :

1-الوعي بالمطلق والمتعال (غاية الإيمان).

2-والوعي بالخير والكمال (بداية الإمان).

3-والوعي بالإمكان والجلال (الوصل بين المتناهي واللامتناهي = الحرية).

4-والوعي بالحق والجمال (غاية العلم).

5-والوعي بالوجود والسؤال (بداية العلم).

وغالبا ما يكون المدار في تردد الوعي متعلقا بالمستوى الثالث الذي يصل بين المتناهي واللامتناهي والذي هو جوهر التردد بين الحرية والضرورة وبين الإرادة والكراهة ومن ثم فذلك هو منطلق المواقف الوجودية التي تكون إما مؤمنة النظر إلى ما فوقها (مشرف الوجه) أو ملحدة بالاقتصار على ما دونها (مكب الوجه).

لكن الملاحم المعهودة لم تغص نظريتها ولا تطبيقها إلى هذه المعاني التي نستمدها من الأساليب القرآنية والتي غفل عنها شعراؤنا فلم يهجروا المضامين الجاهلية والمبتذلات الصوفية التي يتصورونها عمقا وهي شطح عيي خاصة في الأشكال التي تحاكيها حديثا.

والملاحم بهذا المعنى تبقى دون الشعر المطلق فضلا عن أن تكون في مستوى الأسلوب القرآني المعجز ليس لأنها لا تستطيع أن تجمع كل هذه المستويات بل لأنها حتى عند الاقتصار على أحدها أو على بعضها فإنها تكون من حيث الغوص إلى أعماقها عاجزة عما فيه أو فيها من المستويات الأخرى.

لذلك فهي قلما تجاوزت البعد الأول أي العمل السياسي موضوعا للملاحم وخاصة وظيفته المتعلقة بالحروب وقياداتها.

لكننا يمكن أن نبين أن حصر الملاحم في السياسي عامة والحربي منه على وجه الخصوص ليس إلا قصورا في فهم جوهر التعبير الملحمي على أفعال الإنسان فردا كان أو جماعة.

والسؤال هو: هل يمكن تصنيف كل الأغراض الملحمية التي تقبل العرض الدرامي (في شكل أفعال لا أقوال) بصورة تمكن من فهم معنى الشعر المطلق الذي لا يختلف عن عبارة الفلسفة والدين عن الإحساس بالوجود والوعي بمعضلاته سواء في الوعي الجمعي أو الفردي؟ ذلك ما نحاول الجواب عنه في هذا القسم الثاني من المحاولة.

وقد بينا في محاولة الصباح أن المقومات أربعة ذات أصل واحد :

الأصل هو رئاسة الإنسان بالطبع رئاسته المتمثلة في مقومات كيانه الخمسة أي الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود رئاسته التي يؤسس عليها ابن خلدون فلسفة التاريخ عليها وعلى معضلات المترتبة عليها في العلاقة بالطبيعة وبالحضارة وكيفيات عيش الجماعة والفرد لها سواء كان رئيسا أو مرؤوسا.

والفرع الأول الأقرب إلى الأصل في مستوى الأعيان هو السياسة بوظائفها العشر المتزاوجة زوجين زوجين وبأساس هذه الوظائف وثمرتها والذي هو جوهر الحكم المعبر عن سيادة الأمة :

الزوج الأول : القضاء والأمن ومدارهما الحد من صراع المصالح والمنازل في الداخل.

الزوج الثاني : الدبلوماسية والدافع ومدراهما الحد من صراع المصالح والمنازل في الخارج.

الزوج الثالث : التربية والمجتمع المدني ومدارهما إعداد الإنسان للنجاح في هذه الصراعات سلما أو حربا.

الزوج الرابع : الثقافة والاقتصاد ومدارهما مد الإنسان بالأدوات والطرق التي تمكن الإنسان من النجاح في تلك الصراعات بأقل التكاليف.

الزوج الخامس : الاستعلام والإعلام السياسي والاستعلام والإعلام المعرفي ومدارهما تمكين الإنسان من السلطان على الطبيعة والمجتمع في علمه الذي يكون على علم.

ونموذج هذه الأزواج الوظيفية الذي هو في آن ثمرتها أي بداية و العمل السياسي وغايته هو الحكم المعبر عن الأصل الشامل للأبعاد الأربعة أعني مقومات حصانة الأمة الروحي التي هي إرادتها وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها.

فإرادة الأمة وقدرتها والوصل بينهما بعلمها لتعيين شروط حياتها حتى تكون ذات وجود ذاتي غير تابع ذلك هو معنى السيادة التي هي جوهر الحكم السياسي من حيث هو تعين الدولة وانتقالها من المعنى المجرد إلى المعنى المعين.

ولهذا الحكم المعين للدولة بعدان : البعد التنفيذي والبعد التشريعي (القضاء ليس سلطة إلا اصطلاحا لكنه في الحقيقة تابع للسلطتين الأخريين لأن التنفيذ يجعل أحكامه ذات ثمرة والتشريع يحدد القوانين التي يحكم بمقتضاها :

هو سلطة مستقلة بالمعنى الفني أي إن السلطتين الأخريين لا تتدخلان في فهمه وتأويله للقوانين لا غير) :

اي مؤسسات الحكم بوجهيها التنفيذي وأصله (تنافس الأحزاب والسياسات)

والتشريعي وأصله (التنويب والمراقبة الشعبيتين).

والتنفيذي بخلاف المظنون متقدم على التشريعي لأنه هو الذي يضع القوانين بعد أن يختاره الشعب للحكم فيكون في آن نابعا عن الانتخاب للحكم بتشريع يحقق برنامجه.

ويمكن الآن القياس على هذا التعيين الأول للحصانة الروحية للأمة فنحدد تعيينها في الأبعاد الثلاثة الأخرى. ذلك أن هذه الأبعاد جميعا هي في الحقيقة تطبيقات للسياسة بهذا المعنى الذي يحقق رئاسة الإنسان :

فهي سياسة تربوية وسياسة اقتصادية وسياسة ثقافية وسياسة استعلام وإعلام سياسي ومعرفي لتحقيق الرئاسة الإنسانية فردا وجماعة.

ولكن في الحالات الثلاث الباقية لا يكون ذلك بمؤسسات الحكم بل بمؤسسات تخص تلك الأبعاد.

فالتربية والمجتمع المدني تحقق ذلك بتكوين النشء من حيث الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود. وبفضل دورهما يصبح الإنسان الطبيعي إنسانا تاريخيا (حيوانا ناطقا) منتسبا إلى حضارة معينة (ذا تراث معين) ومواطنا (في دولة معينة) حائزا على اختصاص يجعله مسهما في الإنتاج المادي أو الرمزي للجماعة (المهنة التي يكون فيها) من أجل أن يكون إنسانا مبدعا يضيف إلى ما حصله بفضل التربية ما يثري الأبعاد التي ذكرنا أي الإنسانية والحضارة والمواطنة والعمل بإبداع وتجديد.

ووظيفة الملحمة التي تقص كل ذلك دراميا هي بيان الاجتهاد والجهاد وما يصيبهما من معاناة ونجاح وفشل خلال طور التنشئة وذلك هو جوهر التراجم الذاتية في الآداب مثلا.

ولهذه العلة يمكن أن نعتبر السياسة التي تشمل كل هذه الوجوه من التكوين التربوي والتنشئة الاجتماعية رديفا ملازما للفكرين الديني والفلسفي : لا يمكن تصور دين تام من دون سياسة ولا فلسفة تامة من دون سياسة لسياسة الحكم ولسياسة التربية ولسياسة الاقتصاد ولسياسة الثقافة ومن ثم فهي تتعلق بالحياة بكل أبعادها.

وهذه التربية بواسطة المؤسسة التربوية والمجتمع المدني تهتم بالأبعاد الخمسة التي ذكرنا أي الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود ولكن من منظور تكوين الإرادة والطبع جوهر الحرية والشخصية.

والثقافة والاقتصاد هما ثمرة هذا التكوين وعلته :أي إنهما هما اللذان ينتجان أدوات هذه الأبعاد وشروطها لكنها تنتج عنها في آن :

فلولا التربية والمجتمع المدني اللذين يكونان الإنسان

ولولا الحكم الذي ينظم ذلك ويحفظه ويوفر له شروط لما أمكن إنتاج مادي ولا رمزي

ومن ثم فالإنتاج الرمزي (الثقافة) والمادي (الاقتصاد) هما الشرط الضروري والكافي لوظائف الحكم التي ذكرنا والتربية والمجتمع المدني (تمويلا وطرقا).

لكنهما في آن ناتجان عن الحكم والتربية والمجتمع.

وهذا التشاجن والتعاكس بين العلة والمعلول هو الذي يمكن أن يكون غرضا من أغراض ملحمة الاجتهاد والجهاد الإنسانيين ومن ثم فوصفهما من حيث هما فعلان يمثل أحد أغراض الأدب الملحمي.

تلك هي الأغراض التي يمكن أن ينقسم إليها مضمون الملاحم عندما نحاول تفصيلها وبيان أصنافها وهي لا تكاد تتناهى لأن كل غرض منها يمكن أن يكون مدخلا للبقية خلال الكلام على ملحمته الخاصة به سواء أخذناه في مستوى الشخص أو الجماعة.

وكل ذلك يمثل أهم أغراض الإبداع الأدبي والعلمي وهو في كل الحضارات مضمون الفكرين الديني والفلسفي عندما يكونان بحق فكرين يعالجان ما يلقاه الإنسان من معاناة في عمله الفكري (الاجتهاد) والفعلي (جهاد) بوصف ذلك محققا لرئاسته التي تخرجه من الخسر لو اقتصرت حياته على النكوص إلى الحيوانية الخالية من هذا الجهد الذي يمكنه من السمو الذي حاولنا بيان مستوياته ودور المستوى الأوسط في تجاوز الإخلاد إلى الأرض أو البقاء فيه.

والقرآن الكريم لا يمكن أن يفهمه من لم يدرك كل هذه المعاني فيتجاوزها إلى ما لا يمكن الإتيان بمثله باعتباره الغاية والحد الذي يحرك الإنسان المشرئب إلى الكمال دون أن يطمع في الوصول إليه أو حتى الدنو منه. والمسافة الفاصلة بين هذا الحد وما ينتج عن الاجتهاد والجهاد للتحرر من الإخلاد إلى الأرض هو الإيمان والعمل على علم في الحياة وفي التعبير المبدع عنها.


ملاحم الأمة بين الواقع والمثال 02 من 05 – أبو يعرب المرزوقي

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي