يظن البعض أن رئيس الدولة يحق له أن يختار رئيس الحكومة بالتحكم. بمعنى أنه يمكن أن يخالف ما يحقق شرط “الأقدر على”.
ولست ادعي الفقه في القانون الدستوري فضلا عن الزعم بأني أفقه من غيري فيه. لكني أزعم أن المتكلمين باسم هذا الفقه- كما بينت التجربة التي مررنا بها خلال مراحل تشكل الدستور الحالي أي منذ سقوط النظام السابق الذي عين قبل ذلك من سيصوغ التجربة كلها- كانوا ولا يزالون “بريكولور” وليسوا فقهاء بحق أعني أنهم لا يحترمون منطق النظر وأخلاق العمل: هم وتلامذتهم ولعل الرئيس أحدهم خاصة إذا كان يتصور أنه سيطبق ما يخرف به “ناطقه” الاكثر تمثيلا حتى وإن لم يكن رسميا.
وليس من الصدفة أن من عين منهم المتحكمين في مسار الثورة-ابن علي-قد تحكموا بقصد أو بغير قصد حتى لا أتهم النوايا-في المسار وتمكنوا من وضع البلاد الدستوري الحالي خلال سنة الثورة الأولى وما ترتب عليها بعدها بسبب النظام الانتخابي هو عين من يمكن تحميله كل أدواء تونس الحالية.
والفرضية القائلة إن تشاور الرئيس مع القوى السياسية التي اختارها الشعب ليست ملزمة له في اختيار “الأقدر” على تشكيل الحكومة التي تستطيع إدارة الشأن العام علتها إما الجهل بالأمرين التاليين أو تجاهلهما وكلاهما ينتجان عن عدم احترام منطق النظر وأخلاق العمل:
1-“فالاقدر” تعني علاج ما حال دون الاغلبية ذات الشرعية الانتخابية والحصول على الثقة أي إن المشكل هو عجز الاغلبية الانتخابية على تحقيق شرط العمل السياسي الذي يجعل رئيس الحكومة قادرا على إدارة الشأن العام بالقانون الذي لا يصبح قابلا للتطبيق من دون الحصول على نصاب معين في الدستور.
وإذن فالشرط الذي يترتب على ذلك هو أن يكون من سيختاره الرئيس هو الأقدر على تحقيق هذا الشرط دون أن يكون هو من يختاره بصورة تخالف نتيجة التشاور مع القوى السياسية التي انتخبها الشعب.
فإذا اختار دون اعتبار ذلك يكون قد ضاعف المشكل ولم يقدم له حلا في الإطار الدستوري الحالي ومال إلى خيار آخر لم يعد يعترف بأن تعيين الحكومة ليس من اختصاصه إذ شتان بين التوفيق بين القوى السياسية لتجنب الذهاب إلى إعادة الانتخابات والتحول إلى بديل منها.
2-لكن الأهم من ذلك -خاصة وهو يدعي التخصص في القانون عامة والدستوري خاصة-هو أن مفهوم:
* “النظام القانوني العام” وهو (منطقي يتعلق بتناسق القوانين سواء كانت عادية أو دستورية). وهو غيرلا المفهوم الموالي إذ هو شرطه والموالي مشروطه.
* ومفهوم النظام السياسي العام (وهو أمني). وهو غير المفهوم الموالي إذ هو مشروطه مبدئيا ومشرطه ثمرة للمبدأ.
* ومفهوم النظام الاجتماعي العام (وهو قيمي). وهو أبعدها غورا لأنه أصل الدساتير عامة وأصل شرعية القوانين الخلقية بصورة أخص. وهو إذن شرط الأولين وثمرتهما إذا توافقا معه بصورة تجل القانون ذا نظام والسياسة تتقدم فيها الشرعية على الشوكة لأنهما يمثلان أخلاق الجماعة وقيمها.
وثلاثتها -مجتمعة وحتى واحد منها كاف -توجب عليه ألا يغير طبيعة النظام السياسي. وهذا المفهومات الثلاثة وما بين أولها وثانيها وما بين ثانيها وثالثها من قانون العقل وقانون الإرادة أو من الأصل المنطق للفكر القانوني ومن الأصل الخلقي للفعل القانوني. ومن يجهل ذلك لم يدرس فلسفة القانون ومن يتجاهله يجرم في حق الدستور (دستوريا) والقانون (خلقيا) والسياسة (شرعيا) والاخلاق دينيا وفلسفيا.
فإذا خالف المقترح الحاصل على الأغلبية-أي القرينة التي تفيد بأنه سيكون الاقدر على تشكيل حكومة قادرة على العمل بالنظام البرلماني- فإنه يكون قد جعل النظام رئاسيا فغير طبيعته.
وحتى لو تغاضينا عن ذلك كله فإن من سيعينه لن يفلح في تشكيل الحكومة إلا بأحد أمرين وهما نفي مطلق للديموقراطية: فإما أن النواب سيرضخون خوفا من أعادة الانتخابات إذا مر الشهران دون فلاح أو أن الرئيس قد اختار بتواطؤ مع الذين أفشلوا الاغلبية الانتخابية حتى يعين لهم من يختارونه فيكونوا هم الذين اختاروا وليس هو أو هم وهو كانوا متفقين من البداية على هذه خطة ما.
إذ حينها يكون الرئيس هو الذي يضفي الشرعية على رئاسة الحكومة متجاوز دوره في اختيار الحاصل على الخصلة الناقصة في الأغلبية الانتخابية الأولى إذ تصبح تابعة له وليست تابعة للبرلمان حتى لو افترضنا أن من يعينه سيكون مستقلا عنه.
وهذه جريمة مثلثة إزاء النظام القانوني العام (زوال التناسق بين بنود الدستور) والنظام السياسي العام (زوال العلاقة بين القوى السياسية وحكم البلاد كما يحددا الدستور) والنظام الاجتماعي العام (زوال سلم القيم التي بمقتضاه تم وضع الدستور).
لكن توجد فرضية قصوى وهي أن تحصيل أغلبية ثانية تفوق الاغلبية التي فشلت -ما يعني أن الامر وكأنه حل وسط يمكن من تجنب إعادة الانتخابات: هي فرضية عدم وجود اسم مقترح حوله اغلبية تتجاوز العقبة التي لم تستطع الأغلبية الانتخابية تجاوزها أي شرط القدرة على تشكيل حكومة قادرة على تسيير الشأن العام بالقانون (تمرير ما تحتاج إليه من تشريعات).
ففي هذه الحالة لا يكون الحل المس بهذه الأنظمة العامة الثلاثة بل حل البرلمان واعادة الانتخابات. وهو قرار من حق الرئيس أن يتخذه إذا لم يجد اسم مقترح حاصل على اغلبية اكبر من التي فشلت في المرحلة السابقة.
وكل ميل إلى التعسف والمس بطبيعة النظام بتعيين من يختاره الرئيس من خارج المقترحات تغيير لطبيعة النظام. وذلك خيانة للدستور وتحول الرئيس إلى سلطة مؤسسة لدستور بديل وهو انقلاب على الدستور ومن ثم فهو خيانة عظمى.