ملاحظات أخيرة حول الانتخابات الرئاسية

**

سبق أن بينت أن مجتمعاتنا لم تنجح في التأسيس للمعارك السياسية السلمية بعد لأنها دخلت بعد حقبة الاستعمار في معارك من جنس ثان أخطر على وحدتها الحضارية وأميل إلى الصدام الحضاري منها إلى البناء السياسي والمدني.
صارت أمتنا تعاني من معركتين متراكبتين كلتاهما تشغب على الأخرى ومن ثم فالقوتان السياسيتان اللتان تتصارعان تتألفان من قوتين منفصمتين إحداهما عن الأخرى. لذلك فالمعركة السياسية فيها:

  1. قوتان إسلاميتان أصابهما فصام مرضي بمقتضى المعركة الحضارية (الإسلام السياسي النهضوي والإسلام الجهادي) لم يكن بالوسع أن يتحالفا لأن الثاني ينفي العمل السياسي المدني صراحة.
  2. وقوتان غير إسلاميتين أصابهما فصام مرضي بمقتضى المعركة الحضارية (الليبرالية البورقيبية واليسار الاستئصالي) يتحالفان على حرف لأن الثاني ينفي العمل السياسي المدني ضمنا.

لذلك فالقوتان الأساسيتان أي الإسلام السياسي المدني (الذي كون الحزب الدستوري التونسي وطالب بالدستور: الثعالبي) والليبرالية المدنية (التي طورت الحزب لتضفي عليه طابع الحداثة: بورقيبة) لم تستطيعا تحقيق المصالحة بسبب تغليب الصراع الحضاري وليس بسبب الصراع السياسي بينهما. فهما من طينة واحدة مع تغليب التأصيل على التحديث أو العكس: لكن البرنامج السياسي واحد مع ميل الأول إلى ما يتجاوز القطر وميل الثاني للتركيز على القطر.

لكن هذا الصراع تجاوزه التاريخ وينبغي التخلص من آثاره إذا أردنا أن نحقق شروط الحياة الديموقراطية. فهذه بطبعها تفرض على التحديثي أن يتصالح مع هوية الشعب حتى ينال رضاه في الانتخابات الحرة والنزيهة. وهي تفرض على التأصيلي أن يتصالح مع الحداثة حتى ينال رضا الشعب فيها: ذلك أن الشعب التونسي يريد كلتا الحضارتين بمزيج هو ما عليه المجتمع التونسي الحالي وهو أمر قد استقر ولا يمكن تغييره إلابعنف لا يمكن أن يتماشى مع الديموقراطية.
وأي سياسي لم يفهم ذلك لا يمكن أن يقبل به الشعب.
ومن ثم فالمعركة الحضارية إذا تواصلت ستحول دون أي بناء ديموقراطي حقيقي وسلمي خاصة.
ومشكلنا مع الجهادي الديني والجهادي العلماني هو تقديم صدام الحضارات على العلاج السياسي لقضايا المجتمع والمواطن وتمكينه من شروط الحرية والكرامة التي من أجلها قامت الثورة

فإذا حسم هذا المشكل فإن الساحة السياسية ستصبح ذات استقرار ويبقى الخارجان عن هذه المعادلة أعني التأصيلي الجهادي والتحديثي الإستئصالي أي الإسلامي الذي يرفض الحداثة واليساري الذي يرفض الأصالة خارج اللعبة لأنهما يصبحان هامشيين خاصة والشعب قد بين أنهما هامشيان حقا ولا وزن لهما سياسيا. ولا يغرنك النجاح النسبي للجبهة. فهو مؤقت وهو خليط لن يصمد بمجرد أن يتركهم الإسلاميون لصراعاتهم الداخلية فلا يوحدوا بينهم بعنجهية الغباء السياسي.

فإذا همش هذان الطرفان المتصلبان في موقف التنافي العقيم بسبب صدام حضارات واضح المعالم فإن هذا الصدام الحضاري هو بدروه سيهمش وننتقل إلى معارك سياسية سوية يكون فيها التداول على الحكم بين الموقفين المتطورين نحو الصلح بين التأصيل والتحديث أعني المحافظة والتقدم اللذين هما اساس العمل السياسي في كل المجتمعات السوية (سر التداول في الديموقراطية):

  1. موقف الثعالبي المتطور في مجتمع ديموقراطي لا يحتاج لوصي على خياراته الحضارية التأصيلة.
  2. وموقف بورقيبة المتطور نحو مجتمع ديموقراطي لا يحتاج لوصي على خياراته الحضارية التحديثية

ومعنى ذلك أن المعركة الحضارية تصبح معركة قيمية من نصيب المجتمع المدني وليست معركة سياسية من نصيب المجتمع السياسي.
ولا يعني ذلك أن المستويين لا يتبادلان التأثير:
لكن تأثيرهما يكون غير مباشر خلال الانتخابات بوصفه أحد عوامل الاختيار مع تقديم الوظائف الاساسية للدولة أعني وظيفة الحماية (العدل والأمن في الداخل والدبلوماسية والدفاع في الخارج) ووظيفة الرعاية (التربية والحقوق والثقافة والاقتصاد). فهذه هي العوامل التي ستصبح موضوع الاهتمام لدى المواطن بدلا من المعارك حول الخيارات الحضارية التي هي تابعة للمجتمع المدني لا للمجتمع السياسي. وهي خيارات ذات إيقاع مديد بخلاف التداول السياسي الذي له إيقاع مناسب للدورات الانتخابية.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الإسلاميين الذين قرروا خوض المعركة السياسية بشروطها الحديثة- أو الثعالبية المحدثة- قد حسموا الأمر فميزوا صفهم عن الجهاديين الاستئصاليين لمن ليس من صنفهم (ربما بسبب الظرف الدولي أو عن قناعة لا يهم).
لكن الليبراليين أو البورقيبة المحدثة ما تزال لم تسحم الأمر فتميز صفها عن اليساريين الاستئصاليين لمن ليس من صنفهم (ربما أيضا لنفس العلل).

ومعنى ذلك أن الحسم في الصلح ينتظر خطوة من الليبراليين البورقيبيين: أن يتميزوا عن اليسار الاستئصالي مثلما تميزت النهضة عن الجهاديين-أو على الأقل المستنير من قياداتها وقد كان لي في ذلك بعض الدور حتى وإن لم أكن من النهضة ولا من قياداتها- حتى يستقر الوضع فتصبح تونس واقفة على أرض صلبة: يمكن أن تكون منطلق الجمهورية الثانية التي تكون قد تجاوزت المعركة بين الثعالبي وبورقيبة وبين بورقيبة وابن يوسف ( مع شرط تخليص الاتحاد العام التونس للشغل من توظيف اليسار والقوميين له في المجتمع السياسي ليعوضوا عن فقدان القاعدة الشعبية).

أما إذا ظل الليبراليون متحالفين مع اليسار الاستئصالي فإن المصالحة ستكون مستحيلة وستقع تونس في ما وقعت فيه عندما استعان بهم ابن علي في مسخ التربية والثقافة والإعلام وكانت النهاية ما يعلم الجميع. ومن لم يفهم أنهم قد ثاروا عليه لأنه لم يذهب إلى غاية ما كانوا يطالبون به (انظر كتاب محمد الشرفي) ولأنهم شعروا أنه بدأ يسعى إلى التخلص منهم فإنه لن يفهم دورهم فيظنهم قد ثاروا من أجل قيم الثورة: وهو أمر غير صحيح بدليل أنهم مباشرة تحالفوا مع أشد ما في نظام ابن علي من معادين للإسلاميين لتحقيق الاستئصال الذي هو “جهاديتهم” العلمانية ومن ثم لإجهاض مسعى الثورة إلى تحقيق اهدافها السياسية وتحويلها إلى معركة حضارية مثلهم مثل الجهاديين وإن من منطلق يدعي له أصحابه التنوير والحداثة وهم أبعد الناس عنهما لأنهم ما يزالون يخرفون بأفكار الفاشية الشعبوية بكل معانيها.

والخطر الحالي في تونس يتمثل إذن في أن يصبح النداء بما فيه من يساريين استئصاليين وبما حوله منهم مع القوميين الذين لا دين لهم ولا ملة تابعا للنزعة التي تقدم صدام الحضارات على المعارك السياسية السوية فينقل تونس من توجهها نحو الديموقراطية إلى ما يشبه التوجه الذي طغى على مصر ويصبحون بحاجة إلى ابن علي ثان.
وهو كما في المرة السابقة لن يكون سياسيا بل سيكون عسكريا ومخابراتيا وسيفرض من الخارج تماما كما حصل في المرة الأولى وذلك خاصة إذا واصل من يريد أن يصبح رئيسا بالديماغوجيا الثورية -المرزوقي وبما يشبه السردكة المرضية التي لا تنم إلا على باطن دكتاتوري يمكن أن يظهر لو توفرت له الفرصة-دون أن يكون له قاعدة شعبية أو سياسة معقولة يمكن أن يقبل بها شعب تونس الذي هو بالأساس شعب يفضل الاعتدال والوحدة الوطنية بدلا من اللجوء إلى المواقف التي لا يمكن أن تؤول إلا إلى الدكتاتورية:
فمن يريد أن يكون حاكما من دون أن تكون له قاعدة شعبية لا مدنية ولا نقابية ولا دينية ولا إقتصادية لا يمكن أن يحكم إلا بالحديد والنار.

وبصريح العبارة فإن مآل المسعى الحالي للمتكلمين باسم الثورة فيه نزعة مخيفة قد تؤدي إلى إدخال البلد في حرب أهلية مع عدم الاستعداد ولا القدرة على حسمها لصالح أهداف الثورة ما يؤدي إلى سورنة تونس أو مصرنتها وهو ما لا أرضاه لتونس التي ينبغي أن تبقى رمز الثورة السلمية ما أمكن ذلك.
وأعتقد أن المرزوقي ومن يسانده لا يقرأون العواقب ولا أعتقد أنهم بحق يعملون لصالح أهداف الثورة لأنهم لو كانوا كذلك لحسبوا ألف حساب لشروط النجاح ليس في الانتخابات فحسب بل في ما يليها وهو الأهم: ما أسمعه منهم عنتريات أسرع لهيبا وانطفاء من نار الهشيم . والمعلوم أن وزنهم الشعبي تبين في الامتحان الديموقراطي الوحيد المعتبر عند الشعوب السوية: صندوق الانتخابات السابق والحالي بين حجمهم الحقيقي.

وقد كتبت في الصائفة السالفة داعيا كل الذين ساهموا في المرحلة الانتقالية من الصفين بالاكتفاء بما قاموا به وبدعوة جيل آخر لتسيير الجمهورية الثانية ويكفيهم أنهم كانوا المؤسسين يكفيهم ذلك فخرا وليتركوا لغيرهم البناء على ما أسسوه.
لكن الطموح الشخصي المرضي الذي بلغ حد الجنون الذي يعمي عن نتائج الانتخابات النيابية التي أنهتهم فعلا بات المحدد في غالب الأحيان للسياسات هذا المسعى الجنوني نحو السلطة. وهذا ما لا يمكن أن أسكت عليه لأني واثق أن ضرره على الثورة وعلى البلاد سيكون وخيما حقا. لذلك فإني اعتبر مقاومة هذا السلوك واجبا وطنيا. وليكن التاريخ حكما بيننا في المستقبل.

ليس في البلد إلا قوتان رئيسيتان وتوابع لهما. والقوتان إذا اتفقتا على مرحلة انتقالية لمدة عقد كامل (أي دورتين انتخابيتين كامليتن) تتعاونان فيه لإخراج تونس من علل أدوائها حتى تتكون أجيال شابة من الساسة المتخلصين من صراعات الديكة الحالية فإن تونس ستصبح النموذج الأسمى لكل الأقطار العربية.
وتلك هي الثورة الحقيقة التي أومن بها والتي لنا منها مثال بناء الدولة الإسلامية الاولى: فلو أن الرسول تعامل مع من حاربه في البداية بمنطق الانتقام فلم يحقق الصلح بين العرب لما وجدت الامبراطورية الإسلامية.

فإذا أضفنا أن الدساترة قد ساهموا في إنجاح الثورة لمجرد أنهم تركوا الدكتاتور واسرته يسقطون ولم يفعلوا ما فعلت جماعة سفاح دمشق أو سفاح ليبيا. فينبغي ألا نضطرهم لكي يميلوا إلى تقليد أمثالهم في مصر لما همشهم من تصور أن الثورة في غنى عنهم رغم أنهم تركوا مبارك يسقط دون عمل ما عمله جماعة سوريا وليبيا للدفاع عن السفاحين.

الثورة في تونس لم تكن دامية لأن التجمعيين لم يدافعوا عن ابن علي بل قبلوا بالامر الواقع. وهذا ينبغي أن يحسب لهم فيعتبر مساهمة في الثورة حتى وإن كان بعدم محاربتها في البداية. وينبغي أن نستفيد من ذلك فلا ندفعهم إلى الخيار السوري والليبي والمصري.
ولنبن على ذلك مصالحة وطنية تؤسس للديموقراطية التي تكون حول القضايا السياسية ولتنترك القضايا الحضارية للمجتمع يحلها بالتدريج وبحسب نسق تطوره الذاتي: وضمن تلك المصالحة يمكن محاسبة من أجرم منهم ومن المعارضة -وهم كثر- في مناخ من الوحدة الوطنية التي تخلو من الانتقام والأخذ بالثأر: فتونس بلد صغير لا يمكن أن يصمد أمام ما يجري في المنطقة إلا بهذا المنطق.

ذلك رأيي من البداية والذين كانوا على اطلاع يعلمون أنه كان ولا يزال كذلك والكتابات والمحاضرات والمداخلات الرسمية شاهدة على ذلك. ولا يعنيني حكم المتثائرين الذين لا يميزون بين المراهقة والعمل السياسي. فهم بلغة تونسية صرفة “دزازين مشنقة”.
تلك هي تحليلاتي وذلك هو فهمي للواقع التونسي فهم شيخ يريد أن يفيد الشباب بتجربته النظرية والعملية. والأيام بيننا.

الطبعة الثانية من 7 نوفمبر – أبو يعرب المرزوقي http://wp.me/p4ZS3x-M

في تمثيل الإرادة الشعبية – أبو يعرب المرزوقي http://wp.me/p4ZS3x-K

ملحق:  توقعات وليست تنبؤات – أبو يعرب المرزوقي http://wp.me/p4ZS3x-B

المنتظر بعد الإنتخابات : ما أتوقعه و لا أتمناه – أبو يعرب المرزوقي http://wp.me/p4ZS3x-u

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي