مقومات العقيدة و شروطها

آملين أن ينتبه القارئ إلى صلته بالأحداث وخاصة بحاجة السنة إلى وحدة مذهبيها الأساسيين : المذهب السلفي الذي كان منطلقة حل المشكلة العقدية والمذهب الأشعري الذي كان منطلقة حل المشكلة العملية كما بين الأستاذ أبو يعرب في تعريفه للسلفيتين الأولى والمحدثة.

تمهيد:

اشتهرت الصيغ التعليمية السنية للعقائد الإسلامية باسم الأربعين في أصول الدين مع تسليم أصحابها بأنها كان ينبغي أن تكون الثلاثين في اصول الدين.فالإمامة -المسألة الرابعة-ليست من العقيدة بل ضمت إليها على نحو الرد على من يعتبرها منها[2]. كما أن التفريع العشري لكل مقوم من مقومات العقيدة الثلاثة أو الأربعة ليس إلا تحكما تعليميا هدفه مساعدة ذاكرة المتعلم. وكان يمكن الاقتصار على الأصول دون التفريع. والمعلوم أن المقاومات في تقليد مصنفات العقيدة هي: 1-الالهيات 2-والنبوات 2-والبعثيات بالقصد الأول 4-والإماميات بالقصد الثاني أو بالتبعية.
وإذا كنا لا نرى ضرورة التفريع العشري التقليدي فإن ضربين آخرين من التفريع يبدوان لنا حتميين لانهما يمثلان عين بنية الفكر العقدي وجوهر عمله العقلي:

  1. التفريع البنيوي: مقومات العقد المضمونية في كل أصل من هذه الأصول دون تناظر حتمي بينها في كل منها. فمقومات أصل الإلهيات غير مقومات أصل النبوات مثلا لأن الأول يتعلق بالوجود والوحدانية ثم بالصفات من حيث إضافتها إلى الذات ومن حيث إضافتها إلى الغير في حين ان الثاني يتعلق بالحاجة والإمكان والصفات والوظيفة والعلامة والتعيين.
  2. التفريع المنهجي:  مقومات العقد الشكلية وتتعلق بشروط المعرفة الموصلة إليه أولا وبشروط العمل المحققة له ثانيا. ولما كانت هذه المقومات الشكلية مخمسة في الحالتين باتت الفروع عشرة ولكن بمنطق جديد يستند إلى مقومي الإيمان أي العلم والعمل:
    • أ-خمسة لشروط المعرفة الموصلة إلى العقيدة وتستنتج من صفات الله الذاتية الخمس بترتيب متنازل من أعمها إلى أخصها ومن أبسطها إلى أعقدها (الوجود والحياة والقدرة والعلم والإرادة): وهذه الصفات هي ما يمكن بيانها باعتبارها أصل الأسماء الحسنى عند محاولة تصنيفها بردها إلى صفات ذاتية للإله.
    • ب-وخمسة لشروط العمل وهي مقاصد العمل الخمسة الموصلة إلى الشريعة والتي تحقق فيها وبها القدر الممكن للإنسان مما يناظر صفات الذات الإلهية في الذات الإنسانية (1-النفس نظير الوجود 2-والدين نظير الحياة 3-والمال نظير القدرة 4-والعقل نظير العلم 5-والكرامة نظير الإرادة).

وينبغي أن يكون التأليف بين الصفات (نظر) والمقاصد (عمل) على النحو التالي: فكلاهما يكون في وضع الموصوف وفي وضع الوصف. ففي مستوى البعد العلمي من الإيمان تكون المقاصد وصفا للصفات: أي إن الوجود يكون نفسا والحياة تكون دينا والقدرة تكون مالا والعلم يكون عقلا والإرادة تكون كرامة. وفي البعد العملي تكون الصفات وصفا للمقاصد: فتكون النفس وجودا ويكون الدين حياة ويكون المال قدرة ويكون العقل علما وتكون الإرادة كرامة.

وبذلك يكون العلم والعمل بعدي الإيمان ومنظوري تأليف بعدي الإيمان تأليفا يوحد بينهما في حال الإيمان الفعلي من حيث هو استثناء من الخسر لأن الصفات هي المقاصد إذ تتحقق في الأفراد والمقاصد هي الصفات إذ تتحقق في الجماعات. لذلك حدد الإيمان في سورة الإخلاص فرديا بالإيمان والعمل الصالح وجماعيا بالتواصي بالحق (بعد التصديق) والتواصي بالصبر (بعد التطبيق).

الحل البديل

ذلك هو منطلق الحل الذي نطلبه بديلا من مصنفات العقيدة التقليدية بعد أن نبين أنها قد أغفلت أساسها جميعا أعني أول الفروض أي الشهادة وما تعنيه في العقد الديني. فكيف نؤيد هذا الحل بأن نستخرج مقومات العقيدة وشروطها من أول فروض الإسلام أو الشهادة بوصفها الشرط الضروري والكافي من المنظور الإسلامي لتحقيق ثمرات الانتساب إلى الإسلام أعني حرمة المساس بمقاصد العمل والشريعة الخمسة: العقل والمال والعرض والدين والنفس المناظرة للصفات الذاتية الخمس التي هي بدورها شروط مقاصد النظر والعقيدة الخمسة؟ يكفي أن نستنبط عناصر العقيدة الخمسة (الشهادة والالوهية والخلافة والنبوة والبعث) التي استبدلناها بالعناصر الأربعة التقليدية (الألوهية والنبوة والبعث والإمامة) من الفرض الأول حتى يكون بديلنا مقبولا وأفضل مما استبدل منه.

  • I- الشهادة الأولى:
    • 1- أشهد….
    • 2- أن لا إله إلا الله
  • II-الشهادة الثانية:
    • 3- وأشهد[3]….
    • 4- أن (….) محمدا عبده ورسوله.
  • III- الأصل الواحد:
    • 5- و الأصل الموحد رغم كونه مضمرا في بقية الأصول هو أن الشهادة تتضمن كل مبادئ العقيدة التي اكتشفها علم الكلام أو علم أصول الدين دون أن يكون لاكتشافه الاستقرائي الأساس الفلسفي الذي يغني عن الرد إلى الميتافيزيقا القديمة كما تبين من مآل علم الكلام إليها بالتدريج الذي اكتمل في تحريف الأشعرية وحتى السلفية قبل أن يتم تحريرهما من ذلك في فلسفة ابن تيمية نظريا وفي فلسفة ابن خلدون عمليا .

القسم الأول

ولنبدأ بتحليل القسم الأول من الشهادة أعني 1و2: فهو شرح موجز وبليغ لأمرين مهمين في الألوهية : 1- أحدهما هو نظرية الألوهية في الإسلام 2-والثاني هو طبيعة الدين فيه أي دين إنه الالتزام الحر بمبادئ وقيم روحية ذات نتائج في الحياتين الأولى والآخرة. وذلك هو عين الدين القيم والإسلام أعني مضمون الآية 256 من البقرة :لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.

  1. فهو شهادة من الذات على ذاتها ومن ثم فهو:
    • – فعل حر أو إعتراف اختياري : أنا الفرد الفلاني أشهد بحرية بالمبدأ الأول الذي يدخلي في الإسلام.
    • ب- ناتج عن تبين الرشد من الغي بمعنيين : ولما كانت شهادتي حرة فهي التزام يثبت أني اعتقد أني تبينت الرشد وتحررت من الغي..
    • فالشهادة اعتراف من الشاهد والاعتراف تعريف الشاهد للمشهود أمامه بمعرفة المشهود له أو عليه. ومضمون الشهادة أتى بالترتيب المقابل تماما لما كان يمكن أن يكون عليه لو كان العقد يتقدم فيه النقل على العقل. فلم تتقدم الشهادة للرسول على الشهادة لله. ومن ثم فالشاهد لم يشهد بالشهادة الأولى تقليدا للرسول بل هو يشهد بأنه رسول بفضل الشهادة الأولى التي تنتج عنها ضمنا صفات مبلغ أمر الله أي ما يتميز به الرسول وما به نتعرف عليه فنشهد له بأنه الرسول المبلغ: فهو عبد رسول يبلغ الحقيقة الكلية دون أن يكون مسيطرا على المخاطبين الذين لا يؤمنون إلا بفضل تبين الرشد من الغي والكفر بالطاغوت. ومعنى ذلك أن صفات الرسول ذاتية له وإضافية لمخاطبيه: صادق وأمين (صفات ذاته) وغير مسيطر ومكتف بمخاطبة الأحرار ليس بالمعنى القانوني بل بالمعنى الخلقي (ما يعني العبيد قانونيا منهم من هو حر خلقيا والأحرار قانونيا منهم من هم عبيد خلقيا): وتلك هي علة اعتبار تحرير العبيد عبادة بل هو أول الكفارات.
  2. وهو تحديد لمعنى الدين في وجهيه السالب بداية والموجب غاية:
    • أ- فهو كفر بالطاغوت: لا إله
    • ب- وهو إيمان بالله: إلا الله
    • والحصر الناتج عن الجمع بين الوجهين السالب والموجب يبين أن الوحدانية الإلهية ليست مجرد عقد في الألوهية والوحدة بل هي سعي للتحرر من الشرك بالعلَمية المعينة (الله) وبالحصر (لا..إلا) ومن ثم فثمرتها العزم المضاعف: الكفر بالطاغوت والايمان بالله لا معبود سواه فيتحرر الانسان من الطواغيب أي من كل من يتأله فيتجبر ويطغى. فتكون الآية 256 من البقرة وكأنها شرح للصيغة الحصرية للشهادة الأولى.

ومعنى ذلك أن الطاغوت ليس الأوثان فحسب بل ما ترمز إليه: الخضوع لغير إرادة الله (كما تشير الآيتان المواليتان اللتان تتكلمان في وظيفة الطاغوت ومثلتا له بالذي حاج ابراهيم في الله) وهو الوجه السالب من السلطان أو الملك الذي يعود لله وحده.
لذلك فإنه يمكن أن نقول إن هذا البند قد تضمن أصل الإمامة أو الإمارة بالسلب وهو أصل سيتكمل بالإيجاب في قسم الشهادة الثاني الذي يحدد أمر الله بدرجتيه (أصول الأوامر وأصول رعاية الشأن الإنساني بها) وبمجاليه (في إدارة الشأن الداخلي وفي الشهادة على العالمين): فبعد لا سلطان إلا لله يأتي تحديد الإمامة الإيجابي تستمد شرعيتها من أمر الله عندما تنسب الرعاية إلى الأمة الرعاية ببعديها المتجه إلى الداخل (الخلافة بسلطاتها الخمسة: تشريعا وتعليما وقضاء وتنفيذا ورقابة جماعية عامة) والمتجه إلى الخارج (الشهادة على العالمين دعوة وسياسة دولية).

القسم الثاني

ولنثن بالقسم الثاني قيسا على الأول: 3 و 4: فهو شرح موجز لأمرين مهمين أحدهما بقي ضميرا يدل عليه الحاجة إلى التصريح بالشهادة الثانية للشهيد علينا بقبول الشهادة على العالمين بمن فيهم أنفسنا أمام ربها: هما طبيعة النبوة وتحريرها من التحريف الوجودي والتاريخي.

  1. فالمعلن من الشهادة الثانية هو اعتبار محمد رسولا ووصفه بكونه عبدا.
  2. والمضمر هو عكس المعلن في البند الأول من الشهادة الأولى: إنه “بلى” جوابا على نفي مضاعف مضمر في عصر الرسول الخاتم : أيمكن أن يوجد رسول من غير اليهود ويكون بشرا ككل البشر؟ عدم يهودية محمد وتوكيده على إنسانيته: بلى محمد رسول الله رغم كونه ليس يهوديا ومجرد إنسان !

فيكون نص الشهادة الثانية عند اعتبار الضمير: بلى إن الرسل يمكن ان تكون من غير اليهود + بلى إن الرسول عبيد الله كغيرهم من البشر بل ومن كل الموجودات. ذلك أن المشهود له معين بالاسم وبالسياق التاريخي. ومن ثم فهما من مقومات تحديده. والظرف يحدده أمران هما المعلوم في أمر النبوة عند المخاطبين عندئذ وهم لم يكونوا نفاة للنبوة عامة بل كانوا نفاة للنبوة من غير اليهود وللنبوة التي يكون فيها النبي انسانا عاديا وليس مدعيا الملكية أو الألوهية. وتلك هي العلة في كون اثبات نبوة محمد في القرآن الكريم في وجهها السلبي اعتمد على دحض هاتين الحجتين:

  1. بيان وجود أنبياء في كل الأمم بل اشتراط الحساب بالإنبياء في كل الأمم.
  2. ثم بيان أن كل الأنبياء عبيد الله مثل كل الموجودات وأنهم بشر.

وبذلك يكتمل مقوم الخلافة أو ما يسمى بالإمامة بمعناها الكلامي لا الشيعي أي من توليه الأمة أمرها بالبيعة بوجهه الموجب: الأمة هي التي تتولى أمرها بحسب ما بلغها الرسول الذي بين لها أن الله كلفها بذلك في الوجهتين الداخلية وتولي من ينوبها في السهر على الشأن العام: حكم ذاتها لانها هي المعصومة دون سواها والشهادة على العالمين وهو يتولى الشهادة عليها في قيامها بالوظيفتين. فإذا كان النبي مجرد عبد من عبيد الله فبالأخرى ألا يدعي الحاكم التأله. ومن ثم فالشهادة الثانية نفي لعبادة الأنبياء-ناهيك عن عبادة غيرهم- للإشارة الصريحة إلى عبودية النبي ونفي لنظرية الشعب المختار بالإشارة الصريحة إلى عين الرسول الذي لم يكذب أحدا من الرسل بل يوجب الإيمان بهم جميعا ويثبت أن كل أمة لها رسول بلسانها وأنه الرسول الخاتم. وهذا يتضمن أصلين آخرين من أصول العقيدة:

  • الأول هو النبوة.
  • والثاني هو البعث.

فالشهادة بإثباتها العبودية جعلت الشهادة التي تتم أمامه لا تتوجه إليه-إذ هي مجرد عبد من عبيدى الله كغيره من البشر والموجودات- بل هي توجه إلى الحاكم المطلق. ومن ثم فكل لحظة من حياة الإنسان شهادة وهي نسخة دنيوية من الشهادة-الاعتراف يوم الدين. فتكون العناصر بأصلها الموحد-مقام الشهادة أي يوم الحساب-خمسة:

  1. نظرية الشهادة: أو الاعتراف الذي هو تعريف بمعرفة: أو نظرية الحقيقة والعلم وغايتهما العلم بالحقيقة الدينية التي يعتنقها الإنسان بكامل الحرية كما عرفها القرآن الكريم في الاية 256 من البقرة. وتتضمن هذه النظرية شرطي النظر والعمل: الكفر بالطاغوت والإيمان بالله شرطي تبين الرشد من الغي ونتيجتيه في آن. وهما شرطان لأنه لا يمكن طلب الحقيقة من دونهما طلبا صادقا : من يؤمن بالطاغوت ليس له الشجاعة لطلب الحقيقة فضلا عن قولها أو حمايتها ومن يكفر بالله فقد كفر بكل حقيقة لأنه هو الحق في كل حقيقة. ثم هما نتيجتنان لان طلب الحقيقة الصادق ينتهي إلى معرفة أن لا معبود إلا الله وأن كل ما عدا ذلك أوثان. فتكون نظرية الشهادة نظرية المعرفة ونظرية القيمة المتأسستين على نظرية دوافع الإنسان لطلب الوجود الحق بمقتضى كونه إنسانا: وتلك هي الفطرة. وإذن فهذا المبحث معرفي وخلقي لأنه يتعلق بنظرية العلم والعمل الموصلين إلى الإيمان.
  2. نظرية الألوهية[4]: كما عرفتها آية الكرسي
  3. نظرية الخلافة[5]: كما عرفتها آيات الاستخلاف منزلة للإنسان من حيث هو إنسان وخاصة لمن يورثه الله الأرض عندما يؤدي أمانة تحقيق شريعته أصلا لآية أولي الأمر منكم حيث تكون دلالة منكم ليست بعضية فحسب بل سببية: فهم أولياء بسبب توليكتم لهم وهم أولياء لأنهم بعضكم أنتم الخلفاء الذي تنتخبون من بينكم من ترأسونه عليكم لتحقيق شروط الاستخلاف أدوات (السياسة) وقيمها غايات (الدين).
  4. نظرية الرسالة[6]: الرسل في كل الأمم نفيا للشعب المختار والرسل مجرد بشر وسطاء وليسوا معبودين (الآيات 79 إلى 81) من آل عمران.
  5. نظرية البعث[7]: أكثر مضامين القرآن ترددا ووظيفة الانبياء الاولى التذكير بالبعث والحساب أو يوم الدين.

الشهادة بفرعيها أو السبيل العلمية والعملية للإيمان

نؤلف الجدولين كما أسلفنا بأن تكون الصفات موصوفة بالمقاصد في أولهما لندرس البعد النظري من الذات المؤمنة (البعد الذي تشير إليه الشهادة الأولى خاصة) والمقاصد موصوفة بالصفات في ثانيهما لندرس البعد العملي من الذات المؤمنة (البعد الذي تشير إليه الشهادة الثانية). ثم نشرح مفردات الجدولين بتعريف كل واحدة في خاناتهما وبيان سر تركيبها من الموصوف في الجدول العمودي ومن الوصف في الجدول الأفقي. فيكون الفصل مؤلفا من خمسين مادة أي من خمس وعشرين مادة في كلا الجدولين: وهي المواد التي يمكن أن نعتبرها حصرا لمفردات المعجم الذي مكن من الكلام على فلسفة الدين القرآنية. وبذلك يكون بحثنا مقصورا على المسألة الأولى من مسائل العقيدة في منظورها الجديد: مسألة الشهادة النظرية والعملية.

التفريع المخمس : من منطلق العلم والعمل الموصلين إلى الإيمان

المخمس النظري

المخمس العملي

المعجم الأساسي

والتعريف يسير في هذه الحالة. فهو خاضع لنفس المبدأ سواء أخذنا الجداول عموديا أو أفقيا. لذلك فسنكتفي بضرب الأمثلة من الجدول العمودي. فكل مفردة تتألف مما يتقدم عليها في مدلولها الفعلي أو ما يحصل منها في الوجود الفعلي ومما يليها في مدلولها المثالي أو ما تشرئب إليه لتصل إلى الكمال. أما التي ليس لها ما قبلها والتي ليس لها ما بعدها فإنهما تتميزان بالخصائص التالية. فالتي ليس لها ما قبلها تتألف من الصفة والمقصد اللذين يلتقيان عندها موصوفين أو واصفين. وهي الأكثر تجريدا والأبسط. والتي ليس لها ما بعدها هي الأكثر تعينا والأكثر تعقيدا. لذلك فهي تامة في أدنى حد توجد فيه أي إن كمها لا دخل له في كيفها. بخلاف الأولى التي يعد الكم فيها سعيا نحو الكيف.
فالوجدان مثلا غير متعين في منزلته الأولى إلا بكونه وجودا نفسيا. وهو يتعين أكثر في الشوق ثم في الشعور ثم في الوعي ثم في الحكم. فيكون عندئذ على أتم صوره. أما الحكم فهو يكون موجودا أو معدوما دون درجات رغم عبارة “أحكم الحاكمين” القرآنية وصفا للذات الإلهية. والدليل أن الله لا يقبل المقايسة بغيره ومن ثم فليس الفعل هو الذي يقاس بل شروط الفعل. وإذن فالأمر لا يتعلق بالحكم من حيث هو فعل حكم بل من حيث مستنداته العلمية. حكم الله أحكم ليس من حيث هو فعل حكم بل من حيث هو تام الشروط للوصول إلى ثمرة الحكم لما لعلم الله من الإحاطة. والحكم من حيث هو حكم لا يقبل الزيادة والنقصان لأنه يتضمن كل المعاني التي فوقه في الجدول: فلا بد فيه من الوجدان والشوق والشعور والوعي. لذلك فمهما كبر أو صغر فعل الحكم فإن الكم يتعلق بمادته أو بشروطه لا بصورته من حيث هو فعل.
وقس عليهما كل التصورات الأخرى. فمثلا الجهاد من الحدود الغائية يتضمن التحقق والتقويم والضمير ومن ثم فهو غير مجرد المشاركة في المعركة بالمال أو بالنفس بل هو لا يكون جهادا إلا من حيث هو ضمير يعود على تقويم تحقق الذات من حيث تحقيقها لما تؤمن به من قيم ومثل. فيكون موجودا أو معدوما ولا يقبل الزيادة والنقصان من حيث حقيقته حتى وإن كان البعد السياسي من الجهاد يستدعي أن نضفي عليه خاصية الزيادة والنقصان حتى ندخل فيه كل المشاركات النفعية في المعارك رغم أنها ليست لوجه الله بل لحسابات سياسية. وكذلك التحقق من الحدود البدائية: فهو لا يتحدد بمفرده إلا من حيث هو وجود ديني أي مجرد حدس بالحياة الصادقة. لكن هذا الحدس يزداد لما يصبح تقويما للصدق (ومراحل التقويم هي المجاهدات بالمعنى الصوفي للكلمة: أي مجاهدة التقوى ومجاهدة الاستقامة ومجاهدة الكشف العفوي ومجاهدة الكشف النبوي الذي يختلف عن الكشف المحرم أو الكشف الرياضي عند المتصوفة لأنه يخلط بين وسوسة الشيطان والنفحات الربانية فيتصور الولاية فوق النبوة راجع في ذلك تعليقاتنا على كتاب شفاء السائل لابن خلدون) ثم يزداد لما يصبح فرقانا فضميرا إلى أن يكتمل في غايته أعني الجهاد: أنى تتحقق الذات فعلا لذلك كان الجهاد رهبانية الإسلام[8].
وقد يعترض علينا معترض في مسألة المنزلة التي خصصناها للعقد خلطا بينه وبين الإيمان. فبعض المذاهب تنفي أن يكون الإيمان قابلا للزيادة والنقصان ويتصورون العقد مثله. ونحن نسلم أن الإيمان التام أعني العقد المتلازم مع العمل الصالح لا يقبل الزيادة والنقصان. أما العقد بمفرده فهو دون التصور فضلا عن التصديق لأنه شرط التصور إذ هو شبه حكم عفوي يشهد بمثول موضوع التصور أمام الذهن مثولا يقظا وليس خيالا في منام ثم يتلوه فعل التصور فالتصديق. وهذا العقد يمكن أن يصبح عقيدة إذا تلا التصور والتصديق فلم يبق مجرد حكم عفوي يشهد بالمثول بل حكم قصدي يثبت المثول بوضوح التصور ودليل التصديق وبذلك يتحقق ركن الأيمان الأول ويبقى ناقصا إلى أن يتلازم بمجرده مع العمل النابع من شدته ووثاقته.
ولأن ركنه الثاني ليس من جدوله لم يكن الإيمان فيه المفهوم الغاية بل كانت الشجاعة. فالشجاعة هي التي تتألف من الفكر والعقد والتصور والتصديق. أما الإيمان فهو يتحدد بجدول أفقي في الذات المؤمنة وفيه من المقومات الشجاعة التي تتألف من هذه العناصر. فالذات المؤمنة تتألف مما فوقها عموديا ومما قبلها أفقيا: فهي ذات طبيعية فخلقية فمعرفية فإيمانية وهي تتقوم بالروح والبصيرة العزم والشجاعة مع ما تتقوم به كل هذه التصورات عموديا.
قد يكون هذا المنهج في التعريف شديد التعقيد لكنه بسيط لمن يفهم منطق تأليف التصورات ودور الصفات والمقاصد فيه. وبين أن المفهوم الأصل في الجدولين هو مفهوم الذات المؤمنة ومقوماها النظري أو العقيدي ممثلا بالصفات والعملي أو الشريعي ممثلا بالمقاصد نظيرا لمفهوم محجوب لأنه مما لا يحيط به علم أعني الذات الإلهية التي هي موضوع الإيمان أو المألوه الذي استمددنا من صفاته ما به نعرف مقومات الذات المؤمنة أو الآلهة في بعدها النظري والعقدي ومن تشريعاته المقاصد التي نعرفها به في بعدها العملي والشرعي.
فليعذرنا كل من يعتبر ذلك من تكلف ما لا فائدة منه. وليعلم أننا نسلم بأنه مما لافائدة منه. لكن العلم ليس محكوما بالفائدة بل هو عبادة ورياضة روحية. من يقلو ذراها لا تثريب عليه ومن لا يلج شواطئها ليس بقابل لأن يتصف بصفات المسلم العامل بما يوجهه اليه القرآن الكريم. والله أعلم وفوق كل ذي علم عليم.

[1]  بدأت العمل في هذه المحاولة في الفصل الثاني من السنة الدراسية الفارطة بماليزيا. ثم واصلته في الفصل الأول من سنة 2006 في تونس
[2]  وذلك هو المميز الأساسي للموقف الشيعي أو إن شئنا الحد الفاصل بين الفكرين السني والشيعي: منزلة الإمامة في العقيدة. فالشيعة يعتبرونها جزءا لا يتجزأ منها والسنة يعتبرونها ملحقة بها بمقتضى الإجماع على ضرورة الخلافة لا غير. ويمكن أن نضيف أن الخلاف الأعمق هو حول طبيعة الإمامة: هل هي بالوصية أم الاختيار. الشعية تعتبرها بالوصية والوراثة والسنة تعتبرها بالاختيار كيفما كان. هذا في الواجب لكن الواقع متماثل: ففي الحالتين  الإمامة غصب واستبداد.
[3]  ازدواج الشهادة هو بدوره ذو دلالة: فمرحلتها الأولى تدل على الفطرة الغفل التي يمكن أن يعتريها النسيان أو الإسلام الأصلي والمرحلة الثانية هي الفطرة الواعية التي تمثل التذكير النهائي الذي يبقى إلى يوم الدين بسبب نجاح الرسالة في تحقيق شروط بقائها ما وجد الكون: اشروط القايم المادي الذي لا ينقرض وشروط التفوق الروحي الذي لا يغلب لأن حرب الله هم الغالبون.
[4]  ندرسها لاحقا إن شاء الله (في بقية التفسير الفلسفي للقرآن الكريم).
[5]  ندرسها لاحقا ونركز على مسألة الحاكمية التي يدور حولها الخلاف الزائف: لمن تعود.
[6]  ندرسها لاحقا ونركز على مسألة الرسالة المصلحة والخاتمة ما معناها وما علامات رسولها ورسالتها.
[7]  المسألة الوحيدة التي ليس فيها عقليا إلا عدم الامتناع أو الإمكان العقلي أما ما عدا ذلك فسمعي وينتسب إلى ما لا يقبل التأويل. لكننا مع ذلك سندرسها من منطلق النص القرآني والسنة النبوية الشريفة مع التوكيد على حصر القول في الترجيح العقلي دون القطع.
[8]  وليس الجهاد مقصورا على القتال أنظر معانيه الخمسة التي حددناها في غير موضع أعني الجهاد الأكبر والكبير والأصغر والصغير وأصل الأصناف الأربعة أو الإرادة الحرة التي هي عين الكرامة الإنسانية التي تتأسس عليها مسؤولية الأمانة والاستخلاف. انظر في ذلك خاصة مقالنا حول منافع الحج الثقافية الذي نشر في العديد من المواقع كما نشر في كتاب ندوة الحج لسنة 2004.


مقومات العقيدة وشروطها

(اضغط للقتح او التحميل في ص.و.م – بي دي اف )

أبو يعرب المرزوقي

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي