مقال في وسطية العقلانية الإسلامية – تمهيد

تمهيد1**:**

منطلق هذه التساؤلات هو الاجماع الذي يكاد يحصل حول التناقض بين حال الأمة العقلية والروحية فضلا عن حالها في وجوه الثقافة والعمران الأخرى وما تقوله النخب التي تمجد التجربة العربية الاسلامية فتنسب إلى فكرها خصائص تجعلها أسمى مما يقارنوها به من أصناف الحضارات الاخرى غربية كانت أم شرقية.

فالأمر لا يخلو من احدى خليتين عند تحديد المواقف التقويمية من تجارب الامم التاريخية:

فإما أن نواصل تقديم فكرنا بصورة لا علاقة لها بأثره في واقعه لعدم مطابقتها لما يمكن أن ينسب إلى وقع الفكر في واقع المسلمين

أو أن نسائل هذا الفكر حتى نفهم الخلل الذي يمكن أن ننسب إليه حال المسلمين التي نرى الآن**.**

فليس من واجبات الفكر النظري الاقتصار على ما يمكن ألا يتجاوز تعزية الذات عن اخفاقاتها الحضارية ليواصل الغفلة عن العلل الحقيقية مكتفيا بالنوم على إيقاع ارجوحة الأماني بدل اليقظة التي تذكيها هزات التفاني.

إن الإشارة إلى اخفاقات حضارتنا ليس فيها أي استنقاص من عمل الأستاذ عمارة العلمي. بالموضوعية تقتضي أن يصف موضوعه دون اضطرار الى التقويم حتى وإن كان هذا الموضوع مادة للتقويم. كما أن التساؤل عن أسباب هذه الاخفاقات في حضارتنا لا يعني أننا ننسب ما عليه حال المسلمين إلى الدين عامة وإلى الدين الإسلامي خاصة: فشتان بين الكلام في الفكر الديني والكلام في القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل**.**

وهو أخيرا لا ينسب حال المسلمين إلى صفات عرقية قد يكون العرب والمسلمون متصفين بها لأننا نرفض التفسير العرقي فضلا عن التفسير بعقيدة أرواح الشعوب التي من جنسها.

مطلبنا الوحيد هو المحددات التاريخية الفعلية التي جعلت فكر المسلمين يصيبه خلل يؤول به إلى العقم فيعجز رغم قرني النهضة والاصلاح عن استئناف الابداع في مجالاته بصنفيها اللذين من القوة الاولى (قيم الذوق والرزق) وصنفيها اللذين من القوة الثانية (قيم العمل والوجود) وصنفها الذي يجمع بين الجنسين جمع أداة (قيم العلم في الرزق والعمل) وجمع غاية (قيم العلم في الذوق والوجود) وأثر ذلك في حال المسلمين الحضارية.

وطبعا فالمقام لايسمح بغير الاشارة السريعة إلى هذه الامور التي عالجناها في غير موضع بمنهج العلاج الفلسفي النسقي.

ولما كان البحث الذي شرفت فكلفت بالتعليق عليه مؤلفا من أمرين هما:

بحث الأستاذ عمارة في فكر الشيخ عبده وموقفه منه

ثم فكر الشيخ عبده الذي هو أيضا بحث في مسائل الفكر والحضارة الإسلامية

بات المطلوب مني حوارا مضاعفا. فعلي أن أحاور الأستاذ عمارة وأن أحاور الشيخ عبده حتى يحصل المطلوب.

لذلك فسأحاول علاج مسألتين أجيب في أولاهما عن أسئلة شكلية يثيرها عرض الاستاذ عمارة وفي الثانية عن أسئلة جوهرية يثيرها فكر الشيخ. سأخصص أولى المسألتين لمناقشة الاستاذ عمارة أراءه في قضيتيين هما:

  • الوسطية العامة
  • والعقلانية التي هي وسطية معرفية

وسيكون نقاشي من منظورين عام ورد في المقدمتين وخاص ورد في عرضه لفكر الشيخ محمد عبده. أما المسألة الثانية فأناقش فيها بعض نظريات الشيخ عبده لكون الاستاذ عمارة اكتفى بعرضها دون تحليلها ومناقشتها:

  • أناقش بعضها كلا على حاله أولا
  • ثم أناقشها في أصلها الواحد لنفهم نسقها.

والهدف من المناقشتين هو أن أسائل البنية التي ننسب إليها مأزق الفكر الفسلفي عند المسلمين البنية التي نعتبرها قد لازمته منذ تكونه في لقائه الاول بالفكر الفلسفي سابق الحصول وليس الحاصل خلال تجربته الذاتية الأولى2 بعد نزول القرآن الكريم إلى استئنافه في لقائه الثاني بالفكر الفلسفي سابق الحصول وليس الحاصل خلال تجربته الذاتية الثانية3 بعد الشروع في النقد الجذري ممثلا بفكر ابن تيمية وابن خلدون.

ولعل خاصية ظرف الحصول المتماثلة خلال الاتصالين بالفكر الفلسفي أو طبيعة اللقائين به تجعل ازدواج الوجه في الحالتين أحد أهم مميزات هذا الفكر. فمن تجربة التأسيس التقويمي المزدوجة إلى تجربة الانبعاث التقويمي المزدوجة لم يخرج الفكر الاسلامي من منطق سوء فهم العلاقة بين العقلي والنقلي لكأن الاول بلا عقل والثاني بلا نقل ما أدى إلى مفهوم الوسطية التي جعلت الجمع المزعوم توازنا بين العقل والنقل نفيا للعقل والنقل على حد سواء. فهو جمع أدى إلى قتل الإبداع في مجال القيم ذات القوة الأولى (الذوق والرزق: الفقر الفني والاقتصادي**)** وقتله في مجال القيم ذات القوة الثانية (العمل والوجود: الاستبداد السياسي والديني**)** بل هو ألغى القيمة الجامعة جمع أداة في الرزق والعمل وجمع غاية في الذوق والوجود (النظر: الايديولوجيا**)** فجعل حضارتنا تصبح عقيما رغم محاولات النهوض والصحو منذ قرنين.

فتكون خطة المحاورتين على النحو التالي:

المسألة الاولى: تعقيب على علاج الاستاذ عمارة:

1- تاريخيا بمراجعة الاحالات إلى أرسطو وبعض المفكرين المسلمين

2- فلسفيا بتحليل التصورات مضمونا وشروطا ونتائج

المسألة الثانية: تعقيب على فكر الشيخ عبده ممثلا لمآزق منظور الصحوة

1- مناقشة نظرية الوسطية من حيث تبرير التقليد المضاعف: للماضي الاهلي عند التأصيليين والحاضر الغربي عند التحديثيين لان كلا الفريقين يمكن أن ينتسب إلى الشيخ عبده.

2- مناقشة نظرية الوسطية من حيث هي احياء للاستبدادين الناتجين عن التحالف بين السلطانين الزماني والروحاني.

ومن الواجب أن أشير من البداية أن قصد الاستاذ عمارة ليس تقديم بحث علمي اكاديمي مختص بل هو يعرض على المستمع العادي صورة سريعة عن فكر الشيخ محمد عبده كما تقتضي مناسبات احياء ذكرى الأعلام من رجالات الامة.

وأملي أن يقبل المستمع مني سعيي إلى استكمال الصورة بفحص المسألة من منظور فلسفي قد يبدو مزعجا لغير المختصين.

ولست أشك أن المستمع حقه مقدس لكن ذلك لا ينبغي أن يحول دون حق المسموع الذي من الواجب أن نرفعه قدر المستطاع فوق الظرفي. فالمسموع كلام في فكر أحد كبار المصلحين.

لذلك فعلينا واجب العلاج العلمي الدقيق إذ إن أفضل ما يمكن أن يفرح الشيخ عبده في حياته الخالدة هو أن تتقدم الأمة إلى ما كان يطمح إليه من رقي يمكنها من استئناف الابداع للتحرر مما حل بها من كساح حضاري حتى ولو اقتضى ذلك تفضيل الحقيقة على الصداقة كما قال أرسطو.

والشيخ يعلم مثله مثل كل الكبار من الرجالات أن ذلك فيه بالضرورة واجب العرفان الحقيقي الذي هو التجاوز. فنسبة الاعلام الخالدين إلينا هي نسبة الآباء إلى الابناء: لاشيء يفرح الأب أكثر من قدرة ابنه على محاولة تجاوز ما أنجزه في سبيل عزة الامة.

1قدم البحث والتعقيب بمناسة احتفال مكتبة الإسكندرية بماوية وفاة الشيخ محمد عبده خريف 2005.

2 يمكن اعتبار تجربة اللقاء الاولى بين الفكر الديني والفكر الفلسفي في الحضارة الاسلامية تجربة نشأة تكوينية مكنت المسلمين من أساس اللقاء مع الفكر الفلسفي المتقدم على التجربة الاسلامية وكذلك لقاءات الفكر الديني المنزل والطبيعي معه قبلها في الشرق الادنى. وقد كان القرآن الكريم شكلا جديدا من الفكر الديني والفلسفي في آن لكونه فكرا نقديا يستند إلى مبدأ اساسي ينفي التقابل بين الدين الطبيعي (ما في الفطرة من ايمان بالله ) والدين المنزل (تذكير الرسالات بالايمان بالله أي بالفطرة) ولا يعترف إلا بمعجزة واحدة هي نظام الكون والتاريخ (حكايته للمعتقدات السابقة لا تعني أنه يتبناها بدليل بيان وظائف المعجزات في سورة الاسراء واثبات عدم جدواها). وهو نقدي بمفهومين ثوريين كلاهما مضاعف: مفهوم التحريف بصنفيه ويتوجه على أصحاب الاديان الكتابية المتقدمة على الاسلام خاصة: التحريف المادي (الزيادة في الكتاب والانقاص منه) والتحريف المعنوي (التأويل الزائد أو التأويل الناقص). أما مفهوم الجاهلية بصنفيه فيتوجه على أصحاب الاديان الطبيعية المتقدمة على الاسلام خاصة. فالجاهلية المادية (في بعض ايات القرآن الكريم وهي نقيض الحلم كما في معلقة عمرو ابن كلثوم ) والجاهلية المعنوية ( وهي نقيض العلم كما في جل آيات القرآن الكريم). لذلك فقد كان فكر المسلمين حوارا دائما مع الفكرين الديني والفلسفي من خلال هذين المفهومين النقديين اللذين هما عين مفهومي ابن تيمية: فالتحريف بمعنييه علته عدم تصحيح المنقول والجاهلية بمعنييها علتها عدم تصريح المعقول. فيكون ابن تيمية قد أدرك عمق المفهومين فحاول نقلهما من مجرد التصور العقدي إلى الثورة المنهجية. لكني أميل إلى أنه هو نفسه لم يكن مدركا لكل أبعاد ثورته فبقى في بدايتها ولم يستخرج منها ثمراتها. ولعل أول من حاول استخراج الثمرة في الفرع الاول منها هو ابن خلدون في محاولته التي لم يذهب فيها فكرنا إلى الغاية بعد أن هجم عليه بربريتا العصر من الشرق (حروب المغول ) والغرب (حروب الاسترداد).

3 والتجربة الذاتية الثانية هي الشروع في النهضة التي استئناف تقويمي مضاعف للذات وللغير بشرط ألا نواصل ظنها قد بدأت بقدوم نابليون إلى مصر بل هي بدأت بمشروع النقد الجذري في فكر ابن تيمية وابن خلدون. ومثلما أن التجربة الاولى احتاجت إلى ثلاثة قرون لكي يبدأ الفكر الفلسفي الفعلي بعد استكمال تأسيس العلوم المساعدة ( علوم اللسان والقرآن) فكذلك ينبغي أن يمر ضعفها لكي يقع الاستئناف في التجربة الثانية : لا بد من مضاعفة المدة لان الاستئناف هو دائما أكثر عسرا من البداية البكر إذ إن الاستئناف يحتاج إلى التحرر من معوقات الذات الذاتية حاجته للبناء البكر. وتلك هي العلة في أن فكر ابن تيمية وابن خلدون لم يصبحا في متناول مفكري الامة إلا بفضل الصدمة مع الغرب التي بينت ما فيهما من ثورية في مجالي علم النظر والوجود ( الاول) والعمل والقيمة ( الثاني).


نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي