الوسطية واستعمالاتها الضارة
كان ينبغي أن يتقدم على الكلام في المسألة الاولى أمران يساعدان على فهم النقاش الذي دار حول تمهيد الاستاذ الجليل محمد عمارة لعرض أفكار الشيخ عبده. لكننا فضلنا تأخيرهما إلى الكلام في المسألة الثانية لان صلتهما بمقدمتي الاستاذ عمارة ناتجة عن وظيفتهما التمهيدية لفكر الشيخ أكثر عنهما في ذاتهما فضلا عن كون كلامنا في فكر الشيخ يقتضي تمهيدا تماما كما فعل الاستاذ عمارة الذي أصاب كبد الحقيقة في ضرورة ذلك للكلام في فكر أحد عمالقة الاصلاح:
تعريف مسلمات القول الديني و الخلقي و علاقتها بمقتضيات القول الفلسفي و العلمي
فأما الأمر الأول فهو تعريف مسلمات القول الديني والخلقي وعلاقتها بمقتضيات القول الفلسفي والعلمي في صلة هذه العلاقة بمسائل الفكر عامة والفكر عند المسلمين خاصة. ورغم أن تسهيل الحوار يلزمنا بأخد هذه المقتضيات مأخذ المسلمات Postulates فإنها في الحقيقة مقتضيات واجبة وليست مجرد أصول موضوعة اختيارية. فالقول بها هو في حقيقته شرط القولين “الديني- الخلقي” و “الفلسفي- العلمي”. وهما لا يمكن أن يقبلا موجودين من دونه. ومع ذلك فكونها مقتضيات لا يجعلها حقائق أولية لأن ضدها ممكن بدليل الأدواء التي نصفها والتي هي من نتائجه الضرورية.
المقتضى الاول ذو وجهين حددهما ابن خلدون1 في المقدمة في رده على الفلسفة والتصوف المتفلسف: سلبي ينفي الانطوائية الوجودية التي تحصر الوجود في مدارك الانسان وإيجابي يثبت تعالي الموجود على المعلوم إلى غير غاية أي إن العلم مهما اكتمل لا يستنفذ الموضوع طبيعيا كان هذا الموضوع أو خلقيا.
المقتضى الثاني ذو وجهين كذلك وضعهما ابن تيمية2 في كل أعماله وخاصة في رده على الفلسفة والتصوف المتفلسف: سلبي يميز بين الوسطية الوجودية التي هي القدر المناسب لحصول الموجود ويسميها ثمرة المشيئة الكونية أو الأمر العقدي المتعلق بالخبر عن الوجود الذي تكون فيه علاقة الإنسان بالله علاقة به من حيث هو رب والوسطية القيمية التي هي المثال الأعلى لتحصيل المطلوب ويسميها ثمرة المشيئة الأمرية أو الأمر الشرعي المتعلق بالإنشاء عن القيمة التي تكون فيها علاقة الانسان بالله علاقة به من حيث هو اله. ومن ثم فالاولى هي قانون عالم الحقائق الواقعة التي تعد موضوع العلم النظري فلسفيا وموضوع علم العقيدة دينيا وهي عين مجال الضرورة والثانية هي قانون عالم القيم الواجبة وهي المثل العليا التي تعد موضوع العلم العملي فلسفيا وموضوع علم الشريعة دينيا و عين جودها هو السعي إليها وذلك هو عين مجال الحرية.
المقتضى الثالث ثمرة الاصل الموضوع الخلدوني: نفي وجهي المقتضى الأول يؤدي ضرورة إلى موت النظر لأن صاحبه يصبح متصورا نفسه قد علم مطلق الحقيقة فلا يجتهد لتجاوز ما توصل إليه من حقائق هي دائما بالقياس إلى ما يليها بادئ رأي لأن نسبتها من حيث هي علم نسبي إلى العلم المطلق المطابق للموضوع هي نسبة المتناهي إلى اللامتناهي.
المقتضى الرابع ثمرة الاصل الموضوع التيمي نفي وجهي المقتضى الثاني يؤدي ضرورة إلى موت العمل لأن صاحبه يصبح متصورا نفسه قد عمل مطلق الحق فلا يجاهد لتجاوز ما توصل إليه من حقوق هي دائما بالقياس إلأى ما يليها بادئ إرادة لنفس العلة بالقياس إلى المثال بدلا من القياس إلى الوجود في الحالة السابقة.
المقتضى الاخير ثمرة اجتماع الاصلين (وهو أصل موضوع مركب نزعم اكتشافه خلال اكتشاف تحليل الأصول السابقة في فلسفة تاريخ الفلسفة العربية الاسلامية) اجتماع النفيين يؤدي إلى موت العمران. فموت الاجتهاد أو فقدان دائم التواصي بالحق وموت الجهاد أو فقدان دائم التواصي بالصبر هما أصل الجمود الذي تنحط إليه الحضارات عندما تفقد قدرة الابداع النظري والعملي ويليها فقدان قدرة الابداع الذوقي والرزقي ويكون الموت المطلق بفقدان الابداع الوجودي: أعني التجربة الوجدانية التي تترتب على الوعي الحي بالمطلق.
ضرورة التمييز بين النظري و التطبيقي في القول الديني و القول الفلسفي
وأما الامر الثاني فهو ضرورة التمييز بين مستويين من القول الديني والفلسفي على حد سواء. فالقول النظري في العقيدة وفي الشريعة بخلاف القول التطبيقي فيهما لا يمكن ان يكون معياره الوسطية بأي معنى من معانيها سواء كانت عامية أو أرسطية أو حتى في معناها غير المحدد كما في تصور الاستاذ عمارة لان المقصود في النظر العلمي والعملي هو السعي إلى الايمان الصحيح في العقيدة والعمل الصحيح في الشريعة. وهو تمييز يشير إليه علماؤنا القدامى بقبول غالب الظن في العمل سواء كان مجاله النظر أو التطبيق ورفضه في العلم سواء كان مجاله النظر أو التطبيق. والقول النظري والقول العملي في المجال النظري الطبيعي وفي المجال العملي التاريخي بخلاف القول التطبيقي فيهما لا يمكن أن يكون معياره الوسطية بكل تلك المعاني لان مقصوده العلم الصحيح بالحقيقة وليس مجرد العمل بالممكن منها.
لعل الخلط بين الوسطية الوجودية (قانون تناسب القوى الحاصل بمقتضى الضرورة) والوسطية الأكسيولوجية (قانون تنسيب القيم الذي ينبغي تحصيله بمقتضى الحرية) هو الذي حال دون فكرنا وفهم علل انحطاطنا الحضاري. فظللنا نردد كلاما نافيا لشروط النظر والعمل على حد سواء . فلا يكفي أن ينسب بعضنا إلى الأديان الأخرى كل القبائح وإلى الاسلام كل المحاسن بحجة أن الإسلام وسط بين المسيحية واليهودية وينسى أن حالنا بين الأمم هي على العكس تماما فيعلل ذلك بأن الغربيين مسلمون بلا اسلام والشرقيين مسيحيون بلا مسيحية.
فالاتصال المبدئي بين الدين والدنيا في الاسلام لا يمكن أن يكون الوسطية بمعناها البراجماتي. والظن بأن هذا الاتصال يعني الوسطية أدى إلى تبرير الاغتصابين (اغتصاب العلماء للسلطة الروحية واغتصاب الامراء للسلطة الزمانية) الناتجين عن الخلط بين مستويات الوسطية التي عناها القرآن الكريم لما وصف المسلمين بأنهم قد جعلوا وسطا ليشهدوا وأصبح مجرد كلام لا يعبر عن حقيقة فعلية في تاريخ الشرقيين. وما يزعم من انفصال مبدئي بينهما في المسيحية صار بفضل ثورة الغربيين على هذا الخلط والاغتصابين المترتبين عليه كلاما لا يعبر عن حقيقة فعليه في تاريخهم كذلك. فالدولة الحديثة في الغرب لم تفصل السياسة عن القيم الدينية كما يزعم السطحي من المفكرين بل هي افتكت أهم وظائف الدين الفعلية من سلطة الكنيسة لكي لا تبقي لها الا البعد الرمزي من خلال الكلام في الدين: فاسئلة الحياة الجوهرية صارت جزءا من الحياة الثقافية ثم هي أخدت منها مسؤولية التربية والتعابير الروحية عن التجربة الوجودية والرعاية الاجتماعية خاصة. وحتى العلاج الروحي في خلوة الاعتراف عوضته الدولة الحديثة بالاعتراف على كرسي المحلل النفسي.
وليس من هدف لهذا التمهيد إلا لبيان ضرورة الخروج من أهم معضلات علاقة فكرنا بذاته لنحرره من سوء الفهم الذي جعله يرجع متعاليات التاريخ إلى التاريخ سواء كان ماضينا أو حاضر الغرب فيتصور آراءه في رفع ماضيا أو الغرب الحالي إلى درجة المثال عين حقيقة المثال. وقد أدى ذلك إلى سوء فهم حال المسلمين فترددت التفاسير بين اتهام الاسلام واتهمام المسلمين. إن ما آلت إليه الحضارة الاسلامية من عقم شبه دائم لا يمكن تفسيره لا بخاصيات الاسلام ولا بخاصيات المسلمين بل لا بد من طلب الاسباب الكلية التي ترد إليها أمراض الحضارات. وكل التأويلات الغربية-التي تعود في الأصل إلى فلسفة التاريخ الهيجلية-تتهم الاسلام اتهاما بلغ الذروة في هذيان أرنست رنان: وذلك ليس تفسيرا بل إيديولوجيا. وأغلب الردود عليها عند الإصلاحيين تتهم المسلمين فتزعم أننا مسلمون من غير اسلام والاوربيين مسلمون بغير اسلام اتهاما بلغ الذروة في رد الشيخ عليه: وهذا أيضا ليس تفسيرا بل إيديولوجيا.
فالمنفي في الحالة الاولى هو عين المثبت في الحالة الثانية أعني ثمرات الاسلام الدنيوية. وبذلك يتحد المهاجم والراد في فهم الدين فهما تطغى عليه فلسفة الدين والتاريخ الهيجلية حيث يرد الامران إلى نظرية روح الشعب التي ترد المثال إلى الواقع. والمنفي في الحالة الثانية هو عين المثبت في الحالة الاولى أي البعد التعبدي من الاسلام فيتحد المهاجم والراد في استتباع الدينيوي للاخروي والواقع للمثال. وبذلك يكون الجمع بين الحاضر والغائب في الحالتين هو جوهر المطلوب في فكر الاصلاحيين لكأن المسألة كلها تنحصر في انعدام الجمع وليس في علل الإنعدام علله التي تبدو وكأنها مقصورة على مسألة إرادية في سلوك المسلمين الذين يتهمون لتبرئة الاسلام.
ثم جاء من العلمانيين العرب من زايد على تأويلات بعض الغربيين فاتهم المسلمين والاسلام معا بحجة التلازم بين أرواح الشعوب أديانا وتاريخا. وتلك في الحقيقة غاية النظرية الهيجلية في أرواح الشعوب. أما من زايد من الاصلانيين العرب على تأويلات ردود الإصلاحيين الاول فقد نفى التفسير بخصائص الاسلام وبخصائص المسلمين ولجأ إلى نظرية المؤامرة الاجنبية من الشعوبية إلى اليهود والصليببيين إلى الاستعمار والطابور الخامس من الاقليات المدهبية أو العرقية أو الفكرية. ونحن نعتبر كل هذه التأويلات مهارب من العلاج العلمي الحقيقي.
فرضية المحاولة المفسرة للكي المتجاوز لحصر محددات التاريخ الفكري في الخصوصيات
لذلك ففرضيتنا في هذه المحاولة التي تهدف إلى التفسير الكلي المتجاوز لحصر محددات التاريخ الفكري في الخصوصيات التي هي عرضية دائما ومن ثم فهي ترفض هذا المهارب الأربعة وترجع الأمر كله إلى عوامل تاريخية كلية لا تقبل الرد إلى الدين ولا إلى روح الشعب بل هي أمراض كلية تصيب العمران من حيث هو عمران فتقتل فيه أصول الابداع القيمي بمعانيه الخمسة (الذوقي والرزقي والنظري والعملي والوجودي) بأن تفسد مادتها والنخب المشرفة على صورتها افسادا يحضع لقوانين كلية ليس فيها للدين ولروح الشعب دور يذكر إلا إذا اقتصرنا على الفهم الايديولوجي للتاريخ فنكصنا إلى ما تقدم على محاولة ابن خلدون طلب هذه العلل الكلية. فهذا الداء يصيب كل الحضارات ولا علاقة له باسطورة أرواح الشعوب ولا بخصوصياتها أو بمعتقداتها الدينية ذات التأويلات المتعددة إلى حد التضاد فتقل أن تكون أداة استعباد وانحطاط كما تقبل أن تكون أداة تحرير وتقدم بحسب توظيفاتها. ذلك أن سنن التاريخ البشري واحدة طبيعيا كان هذا التاريخ (البعد النفسي العضوي من الإنسان) أو ثقافيا (البعد الرمزي الاجتماعي من الانسان) إذ إن ذلك هو شرط المعرفة العلمية للظاهرات الانسانية وهو التأويل المقبول لنظرية الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
وتنبني فرضيتنا في هذه المحاولة على فلسفة في التاريخ ترفض التصور الهيجلي الذي قبله فكر الاصلاح من حيث لا يعلم خلال ردوده على أصغر ممثليه: رنان ومن لف لفه. ما يهمنا هو كيف حاول الفكر أن يتدرج عند المسلمين فيفهم نفسه فهما يسمو إلى الكلية فلا يبقى كلامه في ذاته علم كلام بل يصبح كلام علم. وسنركز على آخر صيغه النقدية التي سعت إلى تأسيس هذه النقلة قصدت تشخيص ابن تيمية لأزمة النظر والعقيدة وتشخيص ابن خلدون لازمة العمل والشريعة في حضارتنا تشخيصا كان في الحالتين ساعيا إلى فهم الامر من حيث نسبته إلى إلانسان من حيث هو انسان ومتجاوزا الخصوصيات التي نكصت إليها حركة الاصلاح في موقفها الدفاعي. لذلك فتشخيصهما هو حسب رأينا الوحيد الذي وضع السبابة على الداء بصورة كلية تنسجب على كل العمران البشري ولا تقتصر على خصوصيات وهمية ينسبها المهاجم إلى الاسلام والراد عليه إلى المسلمين ليفسرا حال الحضارة الاسلامية بعلل تلغي البحث عن التفسير الحقيقي لهذه الادواء.
نقاش الأفكار المنسوبة للشيخ محمد عبده
لن نناقش كل الأفكار المنسوبة إلى الشيخ بل سنكتفي بأصلها جميعا أعني الوسطية العامة والمعرفية كلا على حالها ثم مجتمعتين في أصل ازمة فكر المسلمين الحالي بعد نكوصه إلى أصل أزمته الماضية مكتفين بالاشارات الخاطفة حول الأفكار الاخرى علما وأنها جميعا تقبل الرد إلى هذا الاأصل الواحد الذي سنتكلم فيه:
النقاش المفصل
فأما النقاش المفصل فيحاول الجواب عن السؤالين التاليين:
أ- فهل حل الوسطية العامة المنسوبة إلى الاسلام يمكن من علاج ما حاول عبده علاجه من قضايا حضارية وهل كان ذلك في مستوى ما توصل إليه الفكر الاسلامي قبله أم هو نكوص إلى ما تقدم على العملية النقدية التي نقلت فكر المسلمين من علم الكلام إلى كلام العلم في محاولتي ابن تيمية وابن خلدون ؟ أليس إذا صح تصور الوسطية العامة هذا التصور الجامع بالسلب بين ضدي الافراط والتفريط من الواجب أن ننسب إلى الاسلام ما نراه من اقتتال بين الفرق أسوأ مما كان عليه الحال في العصور الوسطى؟
ب- وهل حل الوسطية العقلانية المنسوبة إلى الاسلام يمكن من علاج ما حاول عبده علاجه من قضايا معرفية وهل كان ذلك في مستوى ما توصل إليه الفكر الغربي في عصره ؟ أليس إذا صح هذا التصور للوسطية المعرفية من الواجب ان ننسب إلى الاسلام عقم الفكر الاسلامي الحالي؟ فالصحوة لم تنتج مدارس فكرية وعلمية بل فرخت علم كلام سطحي أقل عمقا وعلما من علم الكلام الوسيط فضلا عن كونه لا يسهم لا في العلم والفلسفة ولا في العمل والدين بل هو مجرد إيديولوجيا دفاعية تتغنى بأمجاد الماضي وتقتل الحاضر والمستقبل.
النقاش الجامع
وأما النقاش الجامع فيحاول الجواب عن السؤال التالي: أليس الخلط بين الوسطيتين العامة التي هي عين الوسطية القيمية التي حددنا والوسطية المعرفية التي هي عين الوسطية الوجودية التي عرفنا أليس هذا الخلط هو الذي يمكن أن نرجع إليه أصل المآزق التي يعاني منها فكر المسلمين ووجودهم؟ أليس هذا الخلط هو علة مأزق الفكر الديني والفلسفي عند المسلمين الحالي مأزقه الناتج عن مفارقات الفكر الاصلاحي وأهمها اعتبار المثل قد تحققت في الماضي الاسلامي والحاضر الغربي وليست مغامرة لابداع آفاق جديدة للبشرية ؟ هل يمكن للعلاج المحكوم بالهم العملي المباشر – الذي يخضع له منطق الوسطية بمعنييها كما فهمها عبده في عرض الاستاذ عماره قيسا للنظر على قاعدة التعامل مع التصرف في المال تبذيرا وتقتيرا- أن يمكن الفكر من الارتفاع إلى المبادرة التاريخية ببعديها أعين الطلب النظري الحقيقي والسعي العملي الحقيقي ومن ثم إلى الحلول النظرية والعملية المستندة إلى العقل والدين ؟
فما لم نفهم الفرق بين الهم العملي والهم النظري في علاج القضايا لن نفهم ضرر الخلط بين الوسطيتين وضرر تقديم احداهما على الأخرى في غير الوجه المطلوب فيكون المآل العام للحضارة الاسلامية الوقوع في التوسطية Médiocratie التي هي أكبر عوائق الابداع. ذلك أن من شروط الابداع في كل الحضارات الذهاب بالامور إلى نهاياتها لادراك غاياتها. ولما كنا نؤمن بأن القرآن لا ينطق عن الهوى وأنه لا يقول غير الحق فينبغي أن نستنتج أن الوسطية القرآنية غير ما فهمه المسلمون حتى بالمعنى الذي حاول تحديده الاستاذ محمد عمارة أعني العدل لتجنب ظلمين يمثلهما الحدان. فإذا كانت الوسطية هي السنة المطلقة وكانت مطابقة لمرادفها القرآني أعني كون كل شيء قد خلق بقدر فهي تعني أن الحاصل من الممكن لا يحصل إلا بمقتضى التوازن بين العوامل المتدخلة في تحقيق صور الاشياء بحسب القدر الذي قدر ليطابق القضاء: وهي عندئد غير متعينة في طرف يمثلها أو يتكلم باسمها بل هي حصيلة حرية العمل الذي يتحقق بها اطراف معادلة الموجود أو مقوماته لكأن الوسط الوجودي من جنس الجاشتالت أي توازن الصورة الحاصلة من عمل مقوماتها عملا يقتضيه طبعها المضطر أو الحر.
معنى الوسطية
فماذا تعني الوسطية في مجال الضرورة لتكون الامور بقدر هو مجرى العادات ؟ وماذا تعني الوسطية في مجال الحرية لتكون الامور بقدر تحققه القدرة الواعية فيكون من علاماتها ؟ فمذهب الوسطية في مجال العمل آل إلى الخلط بين المثال والواقع في التوسط العملي فأوصل المسلمين إلى:
1- ضرر كبير في السياسة خلال كل تاريخنا حيث أصبحت الوسطية تطرف نفي الاطراف فآلت إلى موت القوى السياسية وإلى سلطان الركود الأبدي في احزابنا.
2- كما أدى إلى ضرر كبير في التربية خلال كل تاريخنا حيث أصبحت الوسطية تطرف نفي الاطراف فآلت إلى موت القوى النفسية وإلى سلطان الخمول الأبدي عند أجيالنا.
ومذهب الوسطية في مجال النظر آل إلى الخلط بين المثال والواقع في التوسط النظري فأوصل المسلمين إلى:
1- ضرر كبير في علم أصول العقيدة فضلا عن العلوم الطبيعية. فقد تحول طلب الحقيقة النظرية والعقدية إلى حرب مذهبية في مجال العلم بالحقائق بسبب ادعاء التوسط النظري النافي لحرية المذاهب الاخرى المتهمة بالافراط أو التفريط.
2- كما أدى إلى ضرر كبير في علم أصول الشريعة فضلا عن العلوم الانسانية إذ تحول طلب الحقيقة العملية والشرعية إلى حرب مذهبية في مجال العمل بالحقوق بسب ادعاء التوسط العملي النافي لحرية المذاهب الاخرى بنفس التهمتين.
وليس لهذه المسألة علاقة بالغرب أو بالشرق أو بالمسيحية أو الاسلام بل إن التجربة التاريخية هي التي تبين أن العمران البشري لا يتخلص من هذه الاضرار إلا أذا عمل التدافع المصلحي المادي (محرك المجتمع المدني المادي الذي مداره قيم الرزق) والتدافع المصلحي المعنوي (محرك المجتمع المدني الرمزي الذي مداره قيم الذوق) بكامل طاقته فكان حرا متخلصا من تطرف القيمين على الوسطية. ذلك أن قوامة الوسطية تقتل الطرفين فتصفي كل قوى المجتمع المدني بمعنييه دون هوادة لكأن أصحابها يجهلون أن مفهوم الوسط الذي يحتاج إليه العمران لا يقبل التحديد القبلي بل هو يحصل خلال سعي طرفيه لتحقيق ذاتهما. وكل مجتمع لا يفهم هذا المبدأ يصبح في حرب أهلية دائمة لا يستطيع لها تبريدا لأنه لم يعرف بعد أن الوسط السوي يكون حصيلة الاعتراف المتبادل بين حديه بفضل مؤسسات تمكنهما من تحقيق ذاتهما وليس بالمنع وسد الذرائع بحجة الحفاظ على الوسط.
أمثلة كلية
ولنضرب بعض الأمثلة الكلية التي يمكن ان يعد الغرب الحالي قد فهم بعض أسرارها. ففي الاقتصاد تكون حرية السوق محددا للتوسط بين العرض والطلب وبين ما يسعى إليه طرفا التعاقد في المعاملات من تحقيق المصالح المتقابلة. فتكون المصالح العامة حصيلة متوسطة بفضل سعي الطرفين إلى الغاية في تحقيق مصالحهما على علم بحدود التقابل وسروط بقائه سلميا وسليما وليس بفرض توسط قبلي ينتهي إلى ما انتهى إليه كل اقتصاد ممركز ومخطط بمزاعم تحقيق العدل والتوسط مزاعم آلت إلى العكس تماما. وفي السياسة يمكن اعتبار المؤسسات الديموقرطية غير المغشوشة نظام سوق للنماذج المجتمعية تتولد بمقتضاها القوى السياسية التي تتداول على سياسة الأمر العام سياسة تكون وسطا لكونها حصيلة حرية الطرفين في الذهاب إلى غاية فكرهما وسعيهما لتطبيقه.
وبذلك تتحدد البدائل وتتعدد فتمثل تقازيح قوس القوى السياسية التي من دونها يصبح العمران خاملا ومستسلما لاستبداد أولي الامر الذين يمزعمون القوامة على التوسط. وكل قوس للقوى السياسية الحية سواء اعترفنا بها فكان تنافسها سلميا أو أنكرناها فأصبح تنافسها حربا أهلية صامتة أو ناطقة تتألف من طرفين يرمز إليهما عادة باليمين واليسار ووسطيين أحدهما متيامن والثاني متياسر تتوسطهما قوى هي أفسد قوى المجتمع السياسية لانه الفضالة المؤلفة من الانتهازيين الذين يتوسطون في كل شيء.
إن التجربة التاريخية في العمران البشري من حيث هو عمران بشري أثبتت في المجالين الاقتصادي والسياسي أن العمل بالوسطية عندما نفهمها على حقيقتها يجعله ثمرة لحرية الحدين وليس لنفيهما باسم الجمع بين الحدين. كما أثبتت أن التمايز بين السلط وليس الجمع بينها هو شرط تحديد الوسط بين مناظير الاطراف من خلال حوارها وتدافعها أعني مبدأي العمران الاسلامي كما حددهما القرآن الكريم. من هنا بات من الضروري أن نعيد النظر في مفهوم الوسطية وفي شروط استعمالها لتحقيق مدلولها السوي الذي يختلف تماما عن البراجماتية الانتهازية إذا حددناها بالسلب المضاعف كما كان عليه الامر إلى حد الآن.
فليس الوسط القيمي هو صيغة بعينها معلومة علما قبليا لا نقلا ولا عقلا بل هو السعي إليه باعتباره غاية لا تدرك لانه ليس مبدأ دينامية الاجتهاد في النظر ومبدأ دينامية الجهاد في العمل. ويقتضي ذلك السعي الدائم إلى التمييز بين المنظور الديني أيا كان الدين والمنظور الفلسفي من حيث طبيعة الجمع بين النظري والعملي في علاج مسائل الشأن الانساني. فالمنظور الديني يتقصر على الموقف القضوي (طبيعة الموقف الخلقي من الحق بمعنى الحقيقة والحقوق: الإيمان بمثال أعلى فوق صراع القوى) والثاني يطلب المضمون القضوي (المضمون العلمي في الحقيقة والحقوق: اكتشاف نظام القوانين الطبيعية والخلقية)3. ذلك أن دور عدم التمييز في ما آل إليه الفكر العربي الاسلامي من عقم بين لكل ملاحظ نزيه. ويمكن شرحه بطبيعة الموقف من العلاقة بين المثال والحاصل في النظر والعمل: فالمثال صار في حالتي الفكرين الديني والفلسفي الاسلامي الحالي حاصلا في ماضينا عند التأصيليين وفي الحاضر الغربي عند التحديثيين ولم تعد المسافة المحركة للنظر والعمل موجود لانها صارت مسافة بين أمرين حاصلين وليس مسافة بين مثال وحاصل.
تلخيص القضايا نسقيا
ويمكن أن نلخص كل القضايا نسقيا بحسب مجالات التقويم التي يعالجها الفكر الانساني دينيا كان هذا الفكر أم فلسفيا. فالقيم التي من القوة الاولى هي قيم الذوق (الفنون الجميلة) والرزق (فنون الاقتصاد) هي المحرك الاساسي لكل عمران بشري لأنها عين ما يمكن تسميته بالمصطلح الخلدوني مادة العمران أي الابداع الرمزي والابداع المادي لمادة العمران. وقتلها يمثل العلامة القاطعة على فساد صورة العمران أو القيم التي من القوة الثانية هي قيم العمل (السياسة) والوجود (الفكر الديني والفلسفي) أي الابداع المادي والرمزي لصورة العمران. ومعنى ذلك أن المتكلمين باسم القيم من القوة الثانية قتلوا القيم التي من الدرجة الاولى بالاستبداد الزماني والروحاني اللذين أشرنا إليهما.
والقيم النظرية التي هي أداة وغاية في كل عمران منعدمة عندنا بسبب سوء فهمنا للوسطية التي صارت توسطية Médiocratie. وانعدام القيم النظرية يمكن اعتباره علة ومعلولا لهذه الحال التي عليها الأمة: علة لأن عدم العلم بهذه العلاقات هو السبب في تواصلها ومعلولا لها لأن وجودها هو الذي أدى إلى موت القيم المعرفية. والقيم النظرية تكون ذات وجود إذا استقلت عن أصناف القيم الاخرى وهي تفقد وجودها بمجرد تحولها إلى أداة في يد أصحاب القيم السابقة. أما أداة للقيم التي من القوة الاولى فتكون مضمونية خالصة أو أداة للقيم التي من القوة الثانية فتكون شكلية خالصة. وهي لا تكون فعلا نظرية إلا إذا تحررت من المضمون والشكل الحاصلين اشرئبابا إلى المضمون والشكل المجردين.
تنزيه الدين و الإسلام من تردي مفهوم الوسطية
ونحن ننزه الدين عامة والاسلام خاصة من مسؤولية تردي مفهوم الوسطية. ولسنا ننزهما من منطلق الدفاع عنهما أو من منطلق الخوف من قول الحق فيهما لو كان لنا ما نقوله. فهما غنيان عن أن يدافع عنهما إنسان مهما ادعى من عرفان. ونحن نعتقد أن الخلط بين الكلام في الدين والكلام في فكر الأمم الديني علته عدم التمييز بين تصوراتنا الدينية وموضوعاتها الدينية: نحن نؤمن بالحقائق الدينية ذات قيام ذاتي مستقل عن تصوراتنا لها تماما كالحقائق الطبيعية. فتعالي الحقيقة الدينية يجعلها فوق التنزيه والتشويه لأنها غير تصوراتنا لها.
لذلك فاستثناء الدين عامة والاسلام خاصة من كلامنا هنا سببه أن الامر لا علاقة له بالدين أصلا سواء كان اسلاما أو دينا آخر. فالدين مثله مثل العلم شرطه الإيمان بمبدأ جوهري يمكن وصفه سلبا بنفي الانطوائية الوجودية Ontological solipsism وهو يشارك العلم في هذا النفي والانطوائية القيمية Axiological solipsism في الدين ويشاركه العلم في هذا النفي. فيكون الفرق بين الدين والعلم موقفيا وليس معرفيا: إنه فرق متعلق بخاصيات الموقف وليس بالمبدأ. فالدين يقدم القيمي على الوجودي جاعلا الثاني تابعا للاول والعلم يقدم الوجودي على القيمي جاعلا الثاني تابعا للاول. لكنهما يشتركان في الايمان بوجود موضوعهما وتعاليه على تصوراتهما.
ويمكن تعريف هذا الاتحاد المبدئي إيحابا بالقول إنهما يسلمان بانحياز موضوعهما عن ادراك الانسان ومن ثم بتعاليه عليه وجوديا وقيميا. ذلك أن نسبة معرفتنا إلى موضوعاتها من حيث التعالي في مجال الحقيقة الدينية هي عينها نسبة معرفتنا إلى موضوعاتها من حيث التعالي في مجال الحقيقة الطبيعية. كلتا الحقيقتين تبقى دائما غير تصوراتنا عنها مهما اكتمل علمنا: وكل من يخلط بين علمه والحقيقة الوجودية (العلم) أو الحقيقة القيمية (الدين) يصبح وثنيا بالضرورة فيطلق ذاته ويطغى وذلك هو الطاغوت الذي يعد الكفر به شرطا في الايمان الحق كما بينته الآية 256 من البقرة. ومعنى ذلك أن نسبة علمنا إلى الحقيقة القيمية في الدين من حيث التعالي هي عين نسبة أي موضوع إلى علمه رغم أن التعالي الديني يعبر عن التعالي قيميا والتعالي العلمي يعبر عنه وجوديا. وفي كل الاحوال فإن علمنا مهما اقترب من الحقيقة يبقى مجرد نسبة إلى ما للانسان عنها من خبرات قابلة للتحسين اللامتناهي.
والاستبداد باسم الوسطية التي تخلط بين تصورنا لها ومفهومها القرآني هي التي طغت في المجالات التقويمية التي أشرنا إليها طغيانا قتل الحرية المبدعة في كل قوى العمران الإسلامي: ذلك أن من يعتقد نفسه ممثلا للوسط يمنع الطرفين فيزيل كل الحريات التي لا تتحقق إلا في جعل الحدين نفسيهما في سعيهما للتحقق يميلان ذاتيا إلى المتوسطات خلال تجريب الغايات. ويمكن أن نقول إن تجريب الغايات من جنس الاعراض التي نعلم بها الحالات الصحية علمنا الحالات المرضية. لكن طغيان الكلام باسم الوسط آل إلى قتل الحيوية العقلية الطبيعية في العلوم النظرية فلم يعد عقلنا النظري قادرا على التنظير الطبيعي لفقدان التجريب النظري الذي هو ذهاب بالتجريد إلى غايته ذهابا يعد افراطا في النظر العلمي الخالص وتفريطا في العلم المطبق بمنطق الوسطيين ينبغي التحرز منه. كما آل إلى قتل الحيوية الروحية الخلقية في العلوم العملية والانسانية فلم يعد عقلنا العملي قادرا على التنظير الخلقي لفقدان التجريب العملي الذي هو ذهاب بالتجرد إلى غايته ذهابا يعد افراطا في التجرد الروحي وتفريطا العمل المادي بمنطق الوسطيين ينبغي التحرز منه.
والعلة الأساسية في هذين الموتين هي ظن الوسطيين التطابق بين علمهم الوسطي وموضوعه حاصلا. هو ظن يضفى الاطلاق والقدسية على علمهم وعملهم فيصبحون سلطة فوق الاجتهاد والجهاد العامين ويموت التواصي بالحق والتواصي بالصبر من حيث هما فرض عين لكي لا يبقى إلى فرض الكفاية لما يسمى بأهل الحل والعقد من العلماء والامراء .زكل ذلك سببه الخلط بين تصورهم للوسطية ووسطية القرآن الكريم التي نحاول بيان مدلوليها الوجودي والقيمي كما حدد شروط التعامل معهما تعاملا يحرر الامة من هذين الموتين أكبر فيلسوفين بدآ الثورة الاصلاحية: ابن تيمية وابن خلدون.
والحق هو أن علمنا للوسطية الوجودية عامة الخلقية خاصة يبقى دائما معرفة مؤقته منحازة عن موضوعاتها فضلا عن علم الله بها أعني مقاصد القرآن الكريم في ذاتها: ولولا ذلك لبات مفهوم الاجتهاد والجهاد فاقدين لكل معنى لأن صاحب العلم والعمل المطلق لا يسمى مجتهدا ولا مجاهدا. إذ حتى عندما لا يزعم علمه لدنيا وعمله مؤيدا فإن الحاصل أن الشعب الذي صار عامة يعتقدهما كذلك فيموت العقل النظري والعملي عند الامة: لذلك حررنا القرآن الكريم من السلطة الروحية والسلطة الزمانية ونسب الامرين للامة ذات الاشخاص القائمين بواجب الاسهام في التواصيين اسهام القيام بفرض العين تماما كما هو الشأن في الفروض الدينية التعبدية.
ولماكان علمنا وعملنا لا يطابقان الوسطية الوجودية والوسطية القيمية فضلا عن مطابقة علم الله وعمله بات من الواجب أن يصبح الاجتهاد والجهاد الحال الدائمة لحركة العقلين النظري والعملي للامة في كل مراحل تاريخها. ومن ثم فما يقال فيهما يبقى دائما غير ما يقال في حقيقتهما. كما أن نسبة عملنا وعملنا في علاقتهما بمن يقوم بهما إلى صفاته هي عينها نسبة أصناف التجارب الأخرى إلى نضوج صفاتهم الادراكية وخبراتهم خلال التاريخ الذي تحددت فيه قدرات تلك الذوات وملكاتهم: لا شيء من مفاعيل الذوات في ذواتها عند الكلام في تاريخ الانسان الثقافي بخلاف ما عليه الشأن عند الكلام في تاريخه الطبيعي يمكن نسبته إلى العرق والسلالة بل هو حصيلة خبرة الامة المتراكمة وتاريخ عودتها الادراكية عليها لنقدها وتجاوز عثراتها
الهوامش
- ابن خلدون المقدمة دار الكتاب اللبناني بيروت ط. 3 بيروت 1967 ص. 824-5.:” ولا تثقن بما يزعم لكل الفكر من أنه مقتدر على الاحاطة بالكائنات وأسبابها والوقوف على تفصيل الوجود كله وسفه رأيه في ذلك واعلم أن الوجود عند كل مدرك في بادئ رأيه أنه منحصر في مداركه لا يعدوها. والامر في نفسه بخلاف ذلك والحق من ورائه. ألا ترى الاصم كيف ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الارع والمعقولات ويسقط من الوجود عنده صنف المسموعات. وكذلك الاعمى أيضا يسقط من الوجود عنده صنف المرئيات….وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه بل العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينية لا كذب فيها. غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الالهية وكل ما وراء طوره فإن ذلك طمع في محال”
- ابن تيمية ابن تيميه, درء التعارض ص. 89: ” فيقال له (=لاصحاب قانون التأويل الذي يقول بضرورة تأويل النقل عند تعارضه مع العقل) أتعني بالعقل هنا الغريزة التي فينا أم العلوم التي استفدناها بتلك الغريزة ؟ فأما الأول فلم ترده ويمتنع أن تريده لأن تلك الغريزة ليست علما يتصور أن يعارض النقل وهي شرط في كل علم عقلي أو سمعي كالحياة. وما كان شرطا في الشيء امتنع ان يكون منافيا له. فالحياة والغريزة شرط في كل العلوم سمعيها وعقليها فامتنع أن تكون منافية لها وهي شرط في الاعتقاد الحاصل بالاستدلال. وإن لم تكن علما فيمتنع أن تكون منافية له ومعارضه له “. وطبعا فأصحاب القانون أرادوا هذا المعنى لان تصورهم العقل مضموني وليس فقط شكليا. ولا بد أن نسلم أن ابن تيمية يطبق نفس القاعدة على النقل: أي إنه ينبغي أن يقوم بنفس التمييز فيكون النقل والعقل كلاهما من حيث الشكل هو هذه الغريزة المتقدمة على التقابل المضموني بين المصدرين: ألم يقل في هذا النص ” فالحياة والغريزة شرط في كل العلوم سمعيها ونقليها“؟ والشرطية هنا تعني تقدم فعل العلم على تفرعه إلى انفعال السمع وفعل العقل التقليديين
- ويعود فضل هذا التمييز للامام أبي حامد رحمه الله فقد قال في ثانية مقدمات تهافت الفلاسفة قولته الشهيرة: ” وأعظم ما يفرح به الملحدة أن يصرح ناصر الشرع بأن هذا وأمثاله ( العلوم الرياضية والمنطق ) على خلاف الشرع فيسهل عليه طريق ابطال الشرع ان كان شرطجه أمثال ذلك. وهذا لأن البحث في العالم عن كونه حادثا أو قديما (= الديني) ثم إذا ثبت حدوثه فسواء كان كرة أو بسيطا أو مثمنا أو مسدسا وسواء كانت السموات وما تحتها ثلاثة عشر طبقة كما قالوه أو أقل أو أكثر فنسبة النظر فيه إلى البحث الالهي كنسبة النظر إلى طبقات البصل وعددها وعدد حب الرمان. فالمقصود كونه من فعل الله فقط كيف ما كانت” (تهافت الفلاسفة المقدمة الثانية). والقصد من كلام الغزالي أن الفكر الديني عندما يبحث في الالهيات لا يهمه إلا الموقف من الوجود إيمانا بخلقة أو كفرانا بالخلق وقولا بالدهرية. أما مضمون القوانين العلمية فهي مسألة علمية ليس للمعتقد الديني بها أدنى تدخل: لذلك تكلم الغزالي عن طبقات البصل وحبات الرمان ليبين أنها مما لا مساس له بالقيم والمثل العليا التي من شرطها الايمان بالخلق والخالق للتحرر من الدهرية والمادية.
مقال في وسطية العقلانية الإسلامية – المسألة الثانية – فكر الشيخ محمد عبده و بنية أزمة الفكر الإسلامي- أبو يعرب المرزوقي