مقال في وسطية العقلانية الإسلامية – الخاتمة

أكدنا على نقد فهوم الوسطية بمستوييها العام والخاص وببعديها الوجودي والقيمي في فكر المسلمين خاصة والفكر الإنساني عامة لعلتين:

العلة الأولى لنقد فهوم الوسطية

أولا لان القائلين بالوسطية كادوا يرجعون كل التصورات الإسلامية إلى مبررات للبراجمتية وهمومهم السياسية فسطحوا الإسلام إلى حد تعريف بنفي الفصل الواجب بين المتعالي الديني على المحايث السياسي وجعلوا الرسول الكريم مجرد إنسان توسطي وبراجماتي يأخذ من كل شيء بطرف متناسين أنه هو الذي أقسم القسم المشهور لما عرض عليه التعامل بواقعية مع مطالب وفد قريش. ولست أدري كيف يمكن لرسول يقول “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لأخراك كأنك تموت غدا” أن يعتبر قائلا بالوسطية العملية والتعامل بواقعية لكأنه لم يمارس الجهاد لتغيير الواقع الذي ليس هو غير وقع المحددات التي أهم أهداف العمل الديني تغييرها لئلا يصبح التعامل مع الواقع وقوعا في براثنه؟
أليس الرسول الكريم بتصوره لكيفية الجمع بين الدنيا والآخرة قد حدد مثالا آخر للوجود المبدع من شرطه الذهاب إلى الغايات في كل أبعاد الفطرة الانسانية ليكون الانسان حقا محققا لفطرته في مجال القيم الذوقية (كل الفنون الجميلة التي قتلها فكر الوسطية) والرزقية (كل الفنون الآلية التي قتلها فكر الوسطية) والنظرية (كل العلوم المجردة في الطبيعيات والانسانيات التي قتلها فكر الوسطية) والعملية (كل التطبيقيات العلمية النظرية والعملية التي قتلها فكر الوسطية) والوجودية (كل التجارب الوجودية المبدعة لآفاق الوجود الانساني التي قتلتها التوسطية الكريهة ) ؟
فالإنسان كائن فيزيقي وميتافيزيقي في جوهره وتلك وسطية وجودية ليس له تكليف بتحقيقها لانها عين وجوده. كما أن الوسطية القيمية تتحقق عندما يذهب كل حد من حدود المعادلة المحققة لها إلى الغاية فلا يتصور نفسه ممثلا للمتعالي بدعوى تعين الوسطية الاسلامية فيه. لكن تعامل المؤمن مع السانح من الشروط يضطره ككل انسان آخر إلى البراجماتية التي تغلب هذا البعد أو ذاك دون أن تنسيه تعالي الوسط القيمي الذي يتحقق بفضل قيام حدودها بأدوارها. فكلا بعدي أي وسط غاية البعد الآخر.
وكذلك بالامر بالنسبة إلى الانسان: ففي الذهاب إلى الغاية الفيزيائية من كيانه يدرك البعد الميتافزيقي وفي الذهاب إلى الغاية الميتافيزيقية منه ندرك الغاية الفيزيقية. وليس يمكن للتعامل البراجماتي أن يسمو بالتدريج إلى هذه الغاية المبدئية إلا إذا ميزنا بين الأمرين فكان الانسان مدركا الفرق بين الوسطية المجردة والوسطية التطبيقية في مجاليها العلمي الوجودي والعملي القيمي. وما لم نعلم أن الوسطية المجردة في المجال النظري هي دائما شرط الوسطية المطبقة في المجال العملي فإننا سنكون أمة عاجزة عن الابداع في كل مجالات التقويم.

العلة الثانية لنقد فهوم الوسطية

وثانيا لان كل محاولات اخراج المسلمين من سنن التاريخ البشري بالبحث عن خصوصيات تميز فكرهم عن غيرهم من الأمم وتحدد فكرهم بالسلب المزدوح لا طرف الافراط ولا طرف التفريط تتجاهل المحددات الكلية للفكر البشري ومن ثم تنفي أهم خاصية من خاصيات الاسلام قصدت كونه دينيا كونيا يتعالى على الفروق الحضارية والعرقية فضلا عن استثناء أغلب تيارات الفكر الاسلامي باعتبارها متطرفة في هذا الاتجاه أو ذاك فلا يبقى منه الا الفرقة الناجية المزعومة أعني التي نالت بوسطيتها رضى الحكام فصارت سلطة قاتلة لكل ما عداها من الآراء والافكار.
فجميع الأديان وجميع الحضارات عرفت الإفراط والتفريط والتوسط في النظر والعمل وكل واحد منها لا يختلف عن الأخرى إلا بالعرضيات لان الفطرة البشرية واحدة. تلك هي حسب رأيي أهم مبادئ الإسلام الذي يعتبر البشر أمة واحدة ولا يقبل المقابلة بين الشرق والغرب إلا في العرضيات لان جميع حقب التاريخ فيها من هو مسلم ومن هو غير مسلم بالمعنى العميق للكلمة: أي من يؤمن بالله الواحد وباليوم الآخر وتعالي الحقيقة والحقي على الإدراك الإنساني وبشروط التآخي البشري.
ليس لنا من هدف من هذا النقد إلا البناء وأهم أسسه اخراج الامة مما أدخلها إليه فكر الاصلاح من مآزق جعلتها تؤسس للتقليد المزدوج تقليد الماضي الاهلي وتقليد الحاضر الغربي بمنطق اطلاق الحاصل واعتبار تقليده بديلا من المثل العليا التي تسعى إليها الفطرة. بات تقليد ماضينا بديلا من المثال الاعلى عند التأصيليين فأصبح النقل أمرا تحقق في ماضي المسلمين ولم يبق إلا تقليده في حين أنه مثال أعلى لا يمكن لأحد أن يزعم أنه تعينه الوحيد وبات تقليد حاضر الغرب بديلا من المثال الأعلى عند التحديثيين فأصبح العقل أمرا تحقق في حاضر الغرب ولم يبق إلا تقليده في حين أنه مثال أعلى. نسي كلا الحزبين أن المثال الاعلى العقلي والنقلي- وهما شيء واحد إذا كان الأول صريحا أي فرقانا والثاني صحيحا أي وجدانا- ليس يوجد إلا من حيث هو مثال أعلى أعني من حيث هو ما في الفطرة من اشرئبات إلى الكمالات التي تطابق أخلاق القرآن الكريم سعيا إلى الاتصاف بالقدر الممكن من صفات الكمال الإلهي التي تنبع منها مقاصد الشريعة.
فمن صفة العلم الإلهي كلفنا بالسعي المعرفي لنحقق شروط تكليفنا الخلقي والديني ممكنا ومن صفة القدرة الإليهة كلفنا بالسعي الرزقي أو المال لنحقق شروط البقاء المادي الكريم ومن صفة الإرادة الإليهة كلفنا بالسعي العملي لنحقق شروط البقاء الروحي ومن صفة الحياة الإلهية كلفنا بالعسي الخلقي أو الدين لنحقق شروط التعالي على الفاني ومن صفة الوجود الإلهي كلفنا بالاشرئباب الدائم للبقاء أو القيومية من خلال ربط الشروط الأربعة السابقة بما أطلق عليه القرآن الكريم اسم العروة الوثقى التي لا انفصام لها أي الايمان بالموجود المطلق.
تلك هي أبعاد فطرة الله التي فطر الناس عليها: أن يكونوا مشرئبين بمقتضى الارث العضوي (الآية الاولى) أيا كان الموروث الثقافي (الآية الثانية) إلى تحقيق هذه الشروط كما رمزت إلى ذلك الآياتان 172 و173 من سورة الاعراف: “واذ أخد ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم ؟ قالوا: بلى شهدنا. أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين + أو تقولوا إنما أشرك أباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون؟”.
والشهادة التي كلفت بها الأمة هي شهادة على الاجتهاد والجهاد في سبيل تحقيق شروط هذه الشهادة الكونية التي يشترك فيها كل بني آدم: في التاريخ ما تقدم منه وما تأخر وتلك هي علة توسط الأمة الوجودي من حيث الزمان والتوسط في الجغرافيا ما شرق وما غرب وتلك هي علة توسطها الوجودي من حيث المكان والتوسط في السلم ما علا من الرتب وما دنا وتلك هي علة توسطها الوجودي من حيث السلم بين العبودية والحرية والتوسط في الدورة الحضارية الكونية ما تبدى منها وما تحضر وتلك هي علة توسطها الوجودي من حيث التوسط بين البداوة والحضارة واخيرا فاجتماع هذه الصفات الفعلية في التحقق الفعلي لوجود الأمة التوسطي هو الذي يؤهلها لان تكون قد جربت كل التجارب البشرية الممكنة فشهدتها فعلا ومن فهي قادرة على الشهادة لها أو عليها بعد شهودها الفعلي.


مقال في وسطية العقلانية الإسلامية – الخاتمة – أبو يعرب المرزوقي

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي